فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} استئنافٌ مَسوقٌ لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه مما حُكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة فيه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانةٍ من الله عز وجل وأن ما يفعلون في حقه فهو راجعٌ إليه تعالى في الحقيقة وأنه ينتقم منهم لا محالة أشدَّ انتقام، وكلمةُ (قد) لتأكيد العلم بما ذكر المفيدِ لتأكيد الوعيدِ كما في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين} ونحوِهما بإخراجها إلى معنى التكثير حسبما يُخْرجُ إليه ربما في مثل قوله:
وإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناء فربما ** أقام به بعد الوفود وفودُ

جريًا على سَننِ العرب عند قصد الإفراط في التكثير تقول لبعض قُوادِ العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: رُبَّ فارسٍ عندي، وعنده مقانبُ جَمةٌ يريد بذلك التماديَ في تكثير فُرسانه ولكنه يروم إظهارَ براءته عن التزيُّد وإبرازَ أنه ممن يقلل كثيرَ ما عنده فضلًا عن تكثير القليل وعليه قوله عز وجل: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} وهذه طريقة إنما تُسلك عند كون الأمر من الوضوح بحيث لا تحوم حوله شائبةُ ريبٍ حقيقةً، كما في الآيات الكريمة المذكورة، أو ادعاءً كما في البيت وقولِه:
قد أترك القِرْنَ مُصفرًّا أناملُهُ

وقولِه:
ولكنه قد يُهلك المالَ نائِلُهْ

والمراد بكثرة علمه تعالى كثرةُ تعلقِه وهو متعدَ إلى اثنين وما بعده سادٌّ مسدَّها واسمُ (إن) ضمير الشأن وخبرُها الجملة المفسرة له والموصولُ فاعل (يحزنك) وعائدُه محذوف أي الذي يقولونه وهو ما حُكي عنهم من قولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين} ونحوُ ذلك وقرئ {لَيُحزِنُك} من أحزن المنقول من حزِن اللازم. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه عليه الصلاة والسلام مما حكى عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة، وكلمة قد للتكثير وهو كما قال الحلبي رادًا به اعتراض أبي حيان راجع إلى متعلقات العلم لا العلم نفسه إذ صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها المستلزم لحدوث من قامت به سبحانه وتعالى، وقال السفاقسي: قد تصح الكثرة باعتبار المعلومات وما في حيز العلم هنا كثير بناءً على أن الفعل المذكور دال على الاستمرار التجددي، وأنشدوا على إفادتها ذلك بقول الهذلي:
قد أترك القِرْن مصفرًا أنامله ** كأن أثوابه مُجَّت بفِرْصَاد

وادعى أبو حيان أن إفادتها للتكثير قول غير مشهور للنحاة وإن قال به بعضهم، وكلام سيبويه حيث قال: وتكون قد بمنزلة ربما ليس نصًا في ذلك؛ وما استشهدوا به على دعواهم إنما فهم التكثير فيه من سياق الكلام ومنه البيت فإن التكثير إنما فهم فيه لأن الفخر إنما يحصل بكثرة وقوع المفتخر به.
وذكر بعض المحققين أن الحق ما قاله ابن مالك أن إطلاق سيبويه أنها بمنزلة ربما يوجب التسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي والبيت دليل عليه فإن الفخر يقع بترك الشجاع قرنه وقد صبغت أثوابه بدمائه في بعض الأحيان.
وقول أبي حيان أن الفخر إنما يحصل بكثرة إلخ غير مسلم على إطلاقه بل هو فيما يكثر وقوعه وأما ما يندر فيفتخر بوقوعه نادرًا لأن قرن الشجاع لو غلبه كثيرًا لم يكن قرنًا له لأن القرن بكسر القاف وسكون الراء المقاوم المساوي.
وفي القاموس القِرن (بالكسر) كفؤك في الشجاعة أو أعم، فلفظه يقتضي بحسب دقيق النظر أنه لا يغلبه إلا قليلًا وإلا لم يكن قرنًا ويتناقض أول الكلام وآخره، وادعى الطيبي أن لفظ قد للتقليل، وقد يراد به في بعض المواضع ضده، وهو من باب استعارة أحد الضدين للآخر، والنكتة هاهنا تصبير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قومه وتكذيبهم، يعني من حقك وأنت سيد أولي العزم أن لا تكثر الشكوى من أذى قومك وأن لا يعلم الله تعالى من إظهارك الشكوى إلا قليلًا وأن يكون تهكمًا بالمكذبين وتوبيخًا لهم.
ونص بعضهم على أن قد هنا للتقليل على معنى أن ما هم فيه أقل معلوماته تعالى، وضمير {إنَّهُ} للشأن وهو اسم إن وخبرها الجملة المفسرة له، والموصول فاعل يحزنك وعائده محذوف أي الذي يقوله، وهو ما حكي عنهم من قولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين} [الأنعام: 25] أو هو وما يعمه وغيره من هذيانهم وجملة {أَنَّهُ} إلخ سادة مسد مفعولي {نَعْلَمَ}.
وقرأ نافع {لَيَحْزُنُكَ} من أحزن المنقول من حزن اللازم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} استئناف ابتدائي قصدت به تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بالصبر، ووعده بالنصر، وتأييسه من إيمان المتغالين في الكفر، ووعده بإيمان فرق منهم بقوله: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} إلى قوله: {يسمعون}.
وقد تهيّأ المقام لهذا الغرض بعد الفراغ من محاجّة المشركين في إبطال شركهم وإبطال إنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والفراغ من وعيدهم وفضيحة مكابرتهم ابتداء من قوله: {وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم} [الأنعام: 4] إلى هنا.
و{قد} تحقيق للخبر الفعلي، فهو في تحقيق الجملة الفعلية بمنزلة (إنّ) في تحقيق الجملة الاسمية.
فحرف {قد} مختصّ بالدخول على الأفعال المتصرّفة الخبرية المثبتة المجرّدة من ناصب وجازم وحرف تنفيس، ومعنى التحقيق ملازم له.
والأصحّ أنّه كذلك سواء كان مدخولها ماضيًا أو مضارعًا، ولا يختلف معنى {قد} بالنسبة للفعلين.
وقد شاع عند كثير من النحويّين أنّ {قد} إذا دخل على المضارع أفاد تقليل حصول الفعل.
وقال بعضهم: إنّه مأخوذ من كلام سيبويه، ومن ظاهر كلام الكشاف في هذه الآية.
والتحقيق أنّ كلام سيبويه لا يدلّ إلاّ على أنّ {قد} يستعمل في الدلالة على التقليل لكن بالقرينة وليست بدلالة أصلية.
وهذا هو الذي استخلصتُه من كلامهم وهو المعوّل عليه عندي.
ولذلك فلا فرق بين دخول {قد} على فعل المضي ودخوله على الفعل المضارع في إفادة تحقيق الحصول، كما صرّح به الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {قد يعلم ما أنتم عليه} في سورة النور (64).
فالتحقيق يعتبر في الزمن الماضي إن كان الفعل الذي بعد قد فعلَ مُضيّ، وفي زمن الحال أو الاستقبال إن كان الفعل بعد (قد) فعلًا مضارعًا مع ما يضمّ إلى التحقيق من دلالة المقام، مثللِ تقريب زمن الماضي من الحال في نحو: قد قامت الصلاة.
وهو كناية تنشأ عن التعرّض لتحقيق فعل ليس من شأنه أن يشكّ السامع في أنّه يقع، ومثللِ إفادة التكثير مع المضارع تبعًا لما يقتضيه المضارع من الدلالة على التجدّد، كالبيت الذي نسبه سيبويه للهذلي، وحقّق ابن بري أنّه لعبيد بن الأبرص، وهو:
قَدْ أتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرّا أنَامِلُه ** كأنّ أثْوَابَه مُجَّتْ بِفِرْصَاد

وبيت زهير:
أخا ثقة لا تُهلك الخمرُ مالَه ** ولكنَّه قد يهلك المالَ نائلُه

وإفادة استحضار الصورة، كقول كعب:
لَقد أقُومُ مَقَاما لو يقوم به ** أرى وأسمعُ ما لو يسمَع الفِيلُ

لَظلّ يُرعَد إلاّ أن يكون له ** من الرسول بإذن الله تَنْويل

أراد تحقيق حضوره لدى الرسول صلى الله عليه وسلم مع استحضار تلك الحالة العجيبة من الوجل المشوب بالرجاء.
والتحقيق أنّ كلام سيبويه بريء ممّا حَمَّلوه، وما نشأ اضطراب كلام النحاة فيه إلاّ من فهم ابن مالك لكلام سيبويه.
وقد ردّه عليه أبو حيّان ردًّا وجيهًا.
فمعنى الآية علمنا بأنّ الذي يقولونه يُحزنك محقّقًا فتصبّر.
وقد تقدّم لي كلام في هذه المسألة عند قوله تعالى: {قد نرى تقلّب وجهك في السماء} في سورة البقرة (144)، فكان فيه إجمال وأحَلْت على تفسير آية سورة الأنعام، فهذا الذي استقرّ عليه رأيي.
وفعل نعلم معلّق عن العمل في مفعولين بوجود اللام.
والمراد بـ {الذي يقولون} أقوالهم الدّالة على عدم تصديقهم الرسول صلى الله عليه وسلم كما دلّ عليه قوله بعده {ولقد كُذّبَتْ رسل} [الأنعام: 34]، فعدل عن ذكر اسم التكذيب ونحوه إلى اسم الموصول وصلته تنزيهًا للرسول عليه الصلاة والسلام عن ذكر هذا اللفظ الشنيع في جانبه تلطّفًا معه.
وقرأ نافع، وأبو جعفر {لَيُحْزنك} بضم الياء وكسر الزاي.
وقرأه الباقون بفتح الياء وضمّ الزاي يُقال: أحزنت الرجل بهمزة تعدية لفعل حَزن، ويقال: حَزَنْتُه أيضًا.
وعن الخليل: أنّ حزنته، معناه جعلت فيه حُزنًا كما يقال: دَهنته.
وأمّا التعدية فليست إلاّ بالهمزة.
قال أبو علي الفارسي: حَزَنْت الرجل، أكثر استعمالًا، وأحزنته، أقيس.
و{الذي يقولون} هو قولهم ساحر، مجنون، كاذب، شاعر.
فعدل عن تفصيل قولهم إلى إجماله إيجازًا أو تحاشيًا عن التصريح به في جانب المنزّه عنه.
والضمير المجعول اسم (إنّ) ضمير الشأن، واللام لام القسم، وفعل {يحزنك} فعل القسم، و{الذي يقولون} فاعله، واللام في {ليحزنك} لام الابتداء، وجملة {يحزنك} خبر إنّ، وضمائر الغيبة راجعة إلى {الذين كفروا} في قوله: {ثم الذين كفروا بربِّهم يعدلون}. اهـ.

.قال الفخر:

قرأ نافع والكسائي {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ} خفيفة والباقون يكذبونك مشددة وفي هاتين القراءتين قولان: الأول: أن بينهما فرقًا ظاهرًا ثم ذكروا في تقرير الفرق وجهين: أحدهما: كان الكسائي يقرأ بالتخفيف، ويحتج بأن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب وإلى صنعه الأباطيل من القول وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب وإن لم يكن ذلك بافتعاله وصنعه.
قال الزجاج: معنى كذبته قلت له كذبت ومعنى أكذبته أن الذي أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد فكأن القوم كانوا يعتقدون أن محمدًا عليه السلام ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويج بل تخيل صحة تلك النبوة وتلك الرسالة، إلا أن ذلك الذي تخيله فهو في نفسه باطل.
والفرق الثاني قال أبو علي: يجوز أن يكون معنى {لاَ يُكَذّبُونَكَ} أي لا يصادفونك كاذبًا لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة كما يقال أحمدت الرجل إذا أصبته محمودًا فأحببته وأحسنت محمدته إذا صادفته على هذه الأحوال.
والقول الثاني: أنه لا فرق بين هاتين القراءتين: قال أبو علي: يجوز أن يكون معنى القراءتين واحدًا لأن معنى التفعيل النسبة إلى الكذب بأن يقول له كذبت كما تقول ذنبته وفسقته وخطأته أي قلت له فعلت هذه الأشياء وسقيته ورعيته أي قلت له سقاك الله ورعاك وقد جاء في هذا المعنى أفعلته قالوا أسقيته أي قلت له سقاك الله.
قال ذو الرمة:
وأسقيه حتى كاد مما أبثه ** تكلمني أحجاره وملاعبه

أي أنسبه إلى السقيا بأن أقول سقاك الله فعلى هذا التقدير يكون معنى القراءتين واحدًا، إلا إن فعلت إذا أرادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من أفعلت. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقرأ علي ونافع والكسائي بتخفيف {يكذبونك}.
وقرأ باقي السبعة وابن عباس بالتشديد.
فقيل: هما بمعنى واحد نحو كثر وأكثر.
وقيل: بينهما فرق حكى الكسائي أن العرب تقول: كذبت الرجل إذ نسبت إليه الكذب وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه وتقول العرب أيضًا: أكذبت الرجل إذا وجدته كذابًا كما تقول: أحمدت الرجل إذا وجدته محمودًا فعلى القول بالفرق يكون معنى التخفيف لا يجدونك كاذبًا أو لا ينسبون الكذب إليك، وعلى معنى التشديد يكون إما خبرًا محضًا عن عدم تكذيبهم إياه ويكون من نسبة ذلك إلى كلهم على سبيل المجاز والمراد به بعضهم لأنه معلوم قطعًا أن بعضهم كان يكذبه، ويكذب ما جاء به وإما أن يكون نفي التكذيب لانتفاء ما يترتب عليه من المضار فكأنه قيل {لا يكذبونك} تكذيبًا يضرك لأنك لست بكاذب فتكذيبهم كلا تكذيب.
وقال في المنتخب: لا يراد بقوله: {لا يكذبونك} خصوصية تكذيبه هو، بل المعنى أنهم ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقًا فالمعنى {لا يكذبونك} على التعيين بل يكذبون جميع الأنبياء والرسل.
وقال قتادة والسدي: {لا يكذبونك} بحجة وإنما هو تكذيب عناد وبهت.
وقال ناجية بن كعب: لا يقولون إنك كاذب لعلمهم بصدقك ولكن يكذبون ما جئت به.
وقال ابن السائب ومقاتل: {لا يكذبونك} في السر، ولكن يكذبونك في العلانية عداوة.
وقال: لا يقدرون على أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم كذبت ذكره الزجاج ورجح قراءة على بالتخفيف بعضهم، ولا ترجيح بين المتواترين.
قال الزمخشري: والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله تعالى لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته فانته عن حزنك لنفسك وإنهم كذبوك وأنت صادق، وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه ونحوه قول السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني وفي هذه الطريقة قوله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} وعن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون، فكان أبو جهل يقول: ما نكذبك وإنك عندنا لمصدق وإنما نكذب ما جئتنا به؛ انتهى.