فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الكلام حذف تقديره: فلا تحزن فإنهم لا يكذبونك، وأقيم الظاهر مقام المضمر تنبيهًا على أنّ علة الجحود هي الظلم وهي مجاوزة الحدّ في الاعتداء، أي ولكنهم بآيات الله يجحدون.
وآياته قال السدّي: محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن السائب: محمد والقرآن.
وقال مقاتل: القرآن.
وقال ابن عطية: آيات الله علاماته وشواهد نبيه صلى الله عليه وسلم والجحود إنكار الشيء بعد معرفته وهو ضد الإقرار، فإن كانت نزلت في الكافرين مطلقًا فيكون في الجحود تجوز إذ كلهم ليس كفره بعد معرفة ولكنهم لما أنكروا نبوّته وراموا تكذيبه بالدعوى الباطلة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو الجحد تغليظًا عليهم وتقبيحًا لفعلهم، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يقربها ويعلمها وإن كانت نزلت في المعاندين ترتب الجحود حقيقة وكفر العناد يدل عليه ظواهر القرآن وهو واقع أيضًا كقصة أبي جهل مع الأخنس بن شريق وقصة أمية بن أبي الصلت، وقوله: ما كنت لأومن بنبي لم يكن من ثقيف، ومنع بعض المتكلمين جواز كفر العناد، لأن المعرفة تقتضي الإيمان والجحد يقتضي الكفر، فامتنع اجتماعهما، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا: في قوله: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} أنها في أحكام التوراة التي بدلوها كآية الرجم ونحوها.
قال ابن عطية: وكفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد؛ انتهى.
والتأويلات في نفي التكذيب إنما هو عن اعتقاداتهم إما بالنسبة إلى أقوالهم فأقوالهم مكذبة إما له وإما لما جاء به. اهـ.

.قال الماوردي:

{فَإِنَّهُمْ لاَ يُكّذَّبونَكَ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: فإنهم لا يكذبونك بحجة، وإنما هو تكذيب بهت وعناد، فلا يحزنك، فإنه لا يضرك، قاله أبو صالح، وقتادة، والسدي.
والثاني: فإنهم لا يكذبون قولك لعلمهم بصدقك، ولكن يكذبون ما جئت به، قاله ناجية بن كعب.
والثالث: لا يكذبونك في السر لعلمهم بصدقك، ولكنهم يكذبونك في العلانية لعداوتهم لك، قاله الكلبي.
والرابع: معناه أن تكذيبهم لقولك ليس بتكذيب لك، لأنك رسول مُبَلّغ، وإنما هو تكذيب لآياتي الدالة على صدقك والموجبة لقبول قولك، وقد بين ذلك بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بئَأَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي يكذبون.
وقرأ نافع والكسائي: {لاَ يُكَذِّبُونَكَ} وهي قراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتأويلها: لا يجدونك كاذبًا. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فإنهم لا يكذبونك} قرأ نافع، والكسائي، {يُكْذِبُونَك} بالتخفيف وتسكين الكاف.
وفي معناها قولان:
أحدهما: لا يُلْفُونَك كاذبًا، قاله ابن قتيبة.
والثاني: لا يكذِّبون الشيء الذي جئت به، إنما يجحدون آياتِ الله، ويتعرَّضون لعقوباته.
قال ابن الأنباري: وكان الكسائي يحتج لهذه القراءة بأن العرب تقول: كذبْتُ الرجل إذا نسبْتَه إلى الكذب وصنعة الأباطيل من القول؛ وأكذبتُه: إذا أخبرتَ أن الذي يحدث به كذب، ليس هو الصانع له.
قال: وقال غير الكسائي: يقال: أكذبتُ الرجل: إذا أدخلتَه في جملة الكذابين، ونسبتَه إلى صفتهم، كما يقال: أبخلتُ الرجل: إذا نسبتَه إلى البخل، وأجبنتُه: إذا وجدتَه جبانا، قال الشاعر:
فَطَائِفَةٌ قَدْ أكْفَرُونِي بِحُبِّكُمْ ** وَطَائِفَةٌ قالوا مُسِيءٌ وَمُذْنِبُ

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، وابن عامر: {يكَذِّبونك} بالتشديد وفتح الكاف؛ وفي معناها خمسة أقوال:
أحدها: لا يكذِّبونك بحجة، وإنما هو تكذيب عِناد وبَهْتٍ، قاله قتادة، والسدي.
والثاني: لا يقولون لك: إنك كاذب، لعلمهم بصدقك، ولكن يكذِّبون ما جئت به، قاله ناجية بن كعب.
والثالث: لا يكذِّبونك في السر، ولكن يكذِّبونك في العلانية، عداوةً لك، قاله ابن السائب، ومقاتل.
والرابع: لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم: كذبت.
والخامس: لا يكذِّبونك بقلوبهم، لأنهم يعلمون أنك صادق، ذكر القولين الزجاج.
وقال أبو علي: يجوز أن يكون معنى القراءتين واحدًا وإن اختلفت اللفظتان، إلا أن فعّلتُ: إذا أرادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من أفعلتُ.
ويؤكد أنَّ القراءتين بمعنىً، ما حكاه سيبويه.
أنهم قالوا: قلَّلتُ، وأقللت، وكثَّرتُ، وأكثرت، بمعنىً.
قال أبو علي: ومعنى {لا يكذِّبونك}، لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرتَ به مما جاء في كتبهم، ويجوز أن يكون معنى الحقيقة: لا يصادفونك كاذبًا، كما يقال: أحمدتُ الرجل: إذا أصبتَه محمودًا، لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة، {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} بألسنتهم ما يعلمونه يقينًا، لعنادهم.
وفي آيات الله هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي.
والثاني: محمد والقرآن، قاله ابن السائب.
والثالث: القرآن، قاله مقاتل. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ} تعليل لما يُشعِر به الكلامُ السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا لكن لا بطريق التشاغل عنه وعدِّه هينًا والإقبالِ التام على ما هو أهمُّ منه من استعظام جحودهم بآيات الله عز وجل كما قيل فإنه مع كونه بمعزل من التسلية بالكلية مما يوهم كونَ حزنه عليه الصلاة والسلام لخاصة نفسه بل بطريق التسلِّي بما يفيده من بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القَدْرِ ورِفعة المحل والزُلفى من الله عز وجل إلى حيث لا غاية وراءَه حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه عليه الصلاة والسلام تكذيبًا لآياته سبحانه على طريقة قوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} بل نفى تكذيبَهم عنه عليه الصلاة والسلام وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ يُبَايِعُونَ الله} إيذانًا بكمال القرب واضمحلال شؤونه عليه الصلاة والسلام في شأن الله عز وجل. نعمْ فيه استعظامٌ لجنايتهم مُنْبئٌ عن عظم عقوبتهم كأنه قيل: لا تعتدَّ به وكِلْه إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة.
{ولكن الظالمين بئايات الله يَجْحَدُونَ} أي ولكنهم بآياته تعالى يكذّبون فوضَعَ المُظهرَ موضعَ المُضمر تسجيلًا عليهم بالرسوخ في الظلم الذي يُعتبر جحودُهم هذا فنًا من فنونه، والالتفاتُ إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظام ما أقدموا عليه من جحود آياته تعالى، وإيرادُ الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياتِه تعالى من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كلُّ أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود الذي هو عبارةٌ عن الإنكار مع العلم بخلافه كما في قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} وهو المعنيُّ بقول من قال: إنه نفْيُ ما في القلب إثباتُه، أو إثباتُ ما في القلب نفيُه، والباء متعلقة بيجحدون ويقال: جحد حقَّه وبحقِّه إذا أنكره وهو يعلمه، وقيل: هو لتضمين الجحود معنى التكذيب، وأيًا ما كان فتقديمُ الجارِّ والمجرور للقَصْر وقيل: المعنى فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم، ويعضُده ما رُوي من أن الأخْنَسَ بنَ شُرَيْقٍ قال لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادقٌ هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحدٌ غيرُنا فقال له: والله إن محمدًا لصادقٌ وما كذَب قطُّ ولكن إذا ذهب بنو قُصيَ باللواءِ والسِّقاية والحِجابة والنبوّة فماذا يكونُ لسائر قريش؟ فنزلت.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمَّى الأمينَ فعرَفوا أنه لا يكذِب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون وقيل: فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادقُ الموسومُ بالصدق، ولكنهم يجحدون بآيات الله كما يروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نُكذِّبُك، وإنك عندنا لصادقٌ ولكنا نكذِّبُ ما جئتنا به فنزلت. وكأن صدقَ المُخبرِ عند الخبيث بمطابقةِ خبرِه لاعتقادِه، والأولُ هو الذي تستدعيه الجزالة التنزيلية، وقرئ لا يُكْذِبونك من الإكذاب فقيل: كلاهما بمعنى واحدٍ كأكثرَ وكثُر وأنزلَ ونزَل وهو الأظهر وقيل: معنى أكذبه وجده كاذبًا، ونُقل عن الكسائيِّ أن العربَ تقول: كذبتُ الرجلَ أي نسبتُ الكذب إليه وأكذبته أي نسبت الكذب إلى ما جاء به لا إليه. اهـ.

.قال الألوسي:

قرأ نافع والكسائي والأعمش عن أبي بكر {لاَ يُكَذّبُونَكَ} من الإكذاب وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه، ورويت أيضًا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، فقال الجمهور: كلاهما بمعنى كأكثر وكثر وأنزل ونزل؛ وقيل: معنى أكذبته وجدته كاذبًا كأحمدته بمعنى وجدته محمودًا، ونقل أحمد بن يحيى عن الكسائي أن العرب تقول.
كذبت بالتشديد إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دونه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقرأ نافع، والكسائي، وأبو جعفر {لا يكْذبونك}، بسكون الكاف وتخفيف الذال.
وقرأه الجمهور بفتح الكاف وتشديد الذال.
وقد قال بعض أئمة اللغة إنّ أكذب وكذّب بمعنى واحد، أي نسبه إلى الكذب.
وقال بعضهم: أكذبه، وجده كاذبًا، كما يقال: أحمدَه، وجده محمودًا.
وأمّا كذّب بالتشديد فهو لنسبة المفعول إلى الكذب.
وعن الكسائي: أنّ أكذبه هو بمعنى كَذّب ما جاء به ولم ينْسُب المفعول إلى الكذب، وأنّ كذّبه هو نسبه إلى الكذب.
وهو معنى ما نقل عن الزجّاج معنى كذبتهُ، قلت له: كذبتَ، ومعنى أكذبتُه، أريتُه أنّ ما أتى به كَذب. اهـ.

.قال الفخر:

ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمدًا صلى الله عليه وسلم ولكنهم يجحدون بآيات الله واختلفوا في كيفية الجمع بين هذين الأمرين على وجوه:
الوجه الأول: أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن والنبوة.
ثم ذكروا لتصحيح هذا الوجه روايات: إحداها: أن الحرث بن عامر من قريش قال يا محمد والله ما كذبتنا قط ولكنا إن اتبعناك نتخطف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب.
وثانيها: روي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا، فقال له والله إن محمدًا لصادق وما كذب قط؟ ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش فنزلت هذه الآية.
إذا عرفت هذا فنقول: معنى الآية على هذا التقدير أن القوم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون نبوتك بألسنتهم وظاهر قولهم وهذا غير مستبعد ونظيره قوله تعالى في قصة موسى {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
الوجه الثاني: في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك أنت كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل والزمان المديد وما وجدوا منك كذبًا ألبتة وسموك بالأمين فلا يقولون فيك إنك كاذب ولكن جحدوا صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمدًا عرض له نوع خبل ونقصان فلأجله تخيل من نفسه كونه رسولًا من عند الله، وبهذا التقدير: لا ينسبونه إلى الكذب أو لأنهم قالوا: إنه ما كذب في سائر الأمور، بل هو أمين في كلها إلا في هذا الوجه الواحد.
الوجه الثالث: في التأويل: أنه لما ظهرت المعجزات القاهرة على وفق دعواه، ثم إن القوم أصروا على التكذيب فالله تعالى قال له إن القوم ما كذبوك، وإنما كذبوني، ونظيره أن رجلًا إذا أهان عبدًا لرجل آخر، فقال هذا الآخر: أيها العبد إنه ما أهانك، وإنما أهانني: وليس المقصود منه نفي الإهانة عنه بل المقصود تعظيم الأمر وتفخيم الشأن.
وتقريره: أن إهانة ذلك العبد جارية مجرى إهانته، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10].
والوجه الرابع: في التأويل وهو كلام خطر بالبال، هو أن يقال المراد من قوله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ} أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقًا، وهو المراد من قوله: {ولكن الظالمين بئايات الله يَجْحَدُونَ} والمراد أنهم يقولون في كل معجزة إنها سحر وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق فكان التقدير: إنهم لا يكذبونك على التعيين بل القوم يكذبون جميع الأنبياء والرسل، والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ} تعليل لما يشعر به الكلام السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا بطريق التسلي بما يفيده من بلوغه صلى الله عليه وسلم في جلالة القدر ورفعة الشأن غاية ليس وراءها غاية حيث نفى تكذيبهم قاتلهم الله تعالى عنه صلى الله عليه وسلم وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] إيذانًا بكمال القرب واضمحلال شؤونه صلى الله عليه وسلم في شأن الله عز وجل.
وفيه أيضًا استعظام لجنايتهم منبئ عن عظم عقوبتهم كأنه قيل: لا تعتد به وكله إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة.