فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ولكن الظالمين بآيات الله يَجْحَدُونَ} أي ولكنهم بآياته تعالى يكذبون، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلًا عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه، وقيل: إن كان المراد من الظلم مطلقه فالوضع للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وديدنهم وإنه علة الجحود لأن التعليق بالمشتق يفيد علية المأخذ، وإن أريد به الظلم المخصوص فهو عين الجحد وواقع به نحو {ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل} [البقرة: 54] فيكون المبتدأ مشيرًا إلى وجه بناء الخبر كقوله:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتًا دعائمه أعز وأطول

وقيل: إن أل في {الظالمين} إن كانت موصولة واسم الفاعل بمعنى الحدوث أفاد الكلام سببية الجحد للظلم، وإن كانت حرف تعريف واسم الفاعل بمعنى الثبوت أفاد سببية الظلم للجحد ولا يخفى ما فيه، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظامًا لما قدموا عليه، وإيراد الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياته سبحانه من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كل أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود وهو كالجحد نفي ما في القلب ثباته أو إثبات ما في القلب نفيه.
والباء متعلق بيجحدون والجحد يتعدى بنفسه وبالباء فيقال جحده حقه وبحقه وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام الجوهري والراغب، وقيل: إنه إنما يتعدى بنفسه والباء هاهنا لتضمينه معنى التكذيب، وأيًا ما كان فتقديم الجار والمجرور مراعاة لرؤوس الآي أو للقصر.
ونقل الطبرسي عن أبي علي أن الجار متعلق بالظالمين وفيه خفاء.
وما ذكر من أن الفاء لتعليل ما يشعر به الكلام هو الذي قرره بعض المحققين، وقيل: إنها تعليل لقوله سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ} إلخ بناءً على أن معناه لا تحزن كما يقال في مقام المنع والزجر: نعلم ما تفعل فكأنه قيل: لا تحزن مما يقولون فإن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور فتخلق بأخلاقي، ويحتمل أن يكون المعنى إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم وأعظم، ولا يخفى أن هذا خلاف المتبادر، وقيل معنى الآية فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم وروي ذلك عن قتادة وغيره ويؤيده ما رواه السدي أنه التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صلى الله عليه وسلم أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال أبو جهل: والله إن محمدًا صلى الله عليه وسلم لصادق وما كذب محمد عليه الصلاة والسلام قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وكذا ما أخرجه الواحدي عند مقاتل قال: كان الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقًا فأنزل الله تعالى الآية، وقيل: المعنى أنهم ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي، ونسب هذا إلى الكسائي، وأيد بما أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أبا جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به فنزلت.
وكذا أخرج الواحدي عن أبي ميسرة.
واعترض الرضي هذا القول بأنه لا يجوز أن يصدقوه صلى الله عليه وسلم في نفسه ويكذبوا ما أتى به لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه فكيف يجوز أن يكون صادقًا في خبره ويكون الذي أتى به فاسدًا بل إن كان صادقًا فالذي أتى به صحيح وإن كان الذي أتى به فاسدًا فلابد أن يكون كاذبًا فيه، وقال مولانا سنان: إن حاصل المعنى أنهم لا يكذبونك في نفس الأمر لأنهم يقولون إنك صادق ولكن يتوهمون أنه اعترى عقلك وحاشاك نوع خلل فخيل إليك أنك نبي وليس الأمر بذاك وما جئت به ليس بحق؛ وقال الطيبي: مرادهم إنك لا تكذب لأنك الصادق الأمين ولكن ما جئت به سحر، ويعلم من هذا الجواب عن اعتراض الرضي فتدبر، وقيل: معنى الآية أنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن كذبوك في غيره، وقيل: المعنى لا يكذبك جميعهم وإن كذبك بعضهم وهم الظالمون المذكورون في هذه الآية، وعلى هذا لا يكون ذكر الظالمين من وضع المظهر موضع المضمر، وقيل: غير ذلك ولا يخفى ما هو الأليق بجزالة التنزيل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والفاء في قوله: {فإنّهم} يجوز أن تكون للتعليل، والمعلّل محذوف دلّ عليه قوله: {قد نعلم}، أي فلا تحزنْ فإنّهم لا يُكذبونك، أي لأنّهم لا يكذبونك.
ويجوز كونها للفصيحة، والتقدير: فإن كان يحزنك ذلك لأجل التكذيب فإنّهم لا يكذبونك، فالله قد سلّى رسوله عليه الصلاة والسلام بأن أخبره بأنّ المشركين لا يكذبونه ولكنّهم أهل جحود ومكابرة.
وكفى بذلك تسلية.
ويجوز أن تكون للتفريع على {قد نعلم}، أي فعلمنا بذلك يتفرّع عليه أنّا نثبّت فؤادك ونشرح صدرك بإعلامك أنّهم لا يكذبونك، وإن نذكِّرك بسنة الرسل من قبلك، ونذكّرك بأنّ العاقبة هي نصرك كما سبق في علم الله.
وقوله: {ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون} استدراك لدفع أن يتوهّم من قوله: {لا يكذبونك} على قراءة نافع ومن وافقه أنّهم صدّقوا وآمنوا، وعلى قراءة البقية {لا يكذّبونك} أنّهم لم يصدر منهم أصل التكذيب مع أنّ الواقع خلاف ذلك، فاستدرك عليه بأنّهم يجحدون بآيات الله فيظهر حالهم كحال من ينسب الآتيَ بالآيات إلى الكذب وما هم بمكذّبين في نفوسهم.
والجحد والجحود، الإنكار للأمر المعروف، أي الإنكار مع العلم بوقوع ما ينكر، فهو نفي ما يَعلم النافي ثبوته، فهو إنكار مكابرة.
وعُدل عن الإضمار إلى قوله: {ولكنّ الظّالمين} ذمًّا لهم وإعلامًا بأنّ شأن الظالم الجحد بالحجّة، وتسجيلًا عليهم بأنّ الظلم سجيّتهم.
وعدّي {يجحدون} بالباء كما عدّي في قوله: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النحل: 14] لتأكيد تعلّق الجحد بالمجحود، كالباء في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6]، وفي قوله: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلاّ أن كذّب بها الأولون} [الإسراء: 59]، وقول النابغة:
لك الخير إن وارتْ بك الأرض واحدًا ** وأصبح جَدّ الناس يظلع عاثرًا

ثم إنّ الجحد بآيات الله أريد به الجحد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات.
وجحْدها إنكار أنّها من آيات الله، أي تكذيب الآتي بها في قوله: إنّها من عند الله، فآل ذلك إلى أنّهم يكذّبون الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يجمع هذا مع قوله: {فإنّهم لا يكذّبونك} على قراءة الجمهور.
والذي يستخلص من سياق الآية أنّ المراد فإنّهم لا يعتقدون أنّك كاذب لأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام معروف عندهم بالصدق وكان يلقّب بينهم بالأمين.
وقد قال النضر بن الحارث لمّا تشاورت قريش في شأن الرسول: يا معشر قريش قد كان محمد فيكم غلامًا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثًا حتّى إذا رأيتم الشيب في صدغيه قلتم ساحر وقلتم كاهن وقلتم شاعر وقلتم مجنون ووالله ما هُو بأولئكم.
ولأنّ الآيات التي جاء بها لا يمتري أحد في أنّها من عند الله، ولأنّ دلائل صدقه بيِّنة واضحة ولكنّكم ظالمون.
والظالم هو الذي يجري على خلاف الحقّ بدون شبهة.
فهم ينكرون الحق مع علمهم بأنّه الحق، وذلك هو الجحود.
وقد أخبر الله عنهم بذلك وهو أعلم بسرائرهم.
ونظيرها قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلُوًّا} [النمل: 14] فيكون في الآية احتباك.
والتقدير: فإنّهم لا يكذّبونك ولا يكذّبون الآيات ولكنّهم يجحدون بالآيات ويجحدون بصدقك، فحذف من كلَ لدلالة الآخر.
وأخرج الترمذي عن ناجية بن كعب التابعي أنّ أبا جهل قال للنبيء صلى الله عليه وسلم لا نكذّبك ولكن نكذّب ما جئت به.
فأنزل الله: {فإنّهم لا يكذّبونك ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون}.
ولا أحسب هذا هو سبب نزول الآية.
لأنّ أبا جهل إن كان قد قال ذلك فقد أراد الاستهزاء، كما قال ابن العربي في العارضة: ذلك أنّه التكذيب بما جاء به تكذيب له لا محالة، فقوله: لا نكذّبك، استهزاء بإطماع التصديق. اهـ. بتصرف يسير.

.قال صاحب الميزان:

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)}.
تسلية للنبى صلى الله عليه وآله عن هفوات المشركين في أمر دعوته، وتطييب لنفسه بوعد النصر الحتمى، وبيان أن الدعوة الدينية إنما ظرفها الاختيار الإنساني فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فالقدرة والمشية الإلهية الحاتمتان لا تداخلان ذلك حتى تجبراهم على القبول، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى.
قوله تعالى: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} إلى آخر الآية، {قد} حرف تحقيق في الماضي، وتفيد في المضارع التقليل وربما استعملت فيه أيضا للتحقيق، وهو المراد في الآية، وحزنه كذا وأحزنه بمعنى واحد، وقد قرئ بكلا الوجهين.
وقوله: {فإنهم لا يكذبونك} قرئ بالتشديد من باب التفعيل، وبالتخفيف، والظاهر أن الفاء في قوله: {فإنهم} للتفريع وكأن المعنى قد نعلم إن قولهم ليحزنك لكن لا ينبغى أن يحزنك ذلك فإنه ليس يعود تكذيبهم إليك لانك لا تدعو إلا إلينا، وليس لك فيه إلا الرساهة بل هم يظلمون بذلك آياتنا ويجحدونها.
فما في هذه الآية مع قوله في آخر الآيات: {ثم إليه يرجعون} في معنى قوله تعالى: {ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور} [لقمان: 23] وقوله: {فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون} [يس: 76] وغير ذلك من الآيات النازلة في تسليته صلى الله عليه له وصلم، هذا على قراءة التشديد.
وأما على قراءة التخفيف فالمعنى: لا تحزن فإنهم لا يظهرون عليك بإثبات كذبك فيما تدعو إليه، ولا يبطلون حجتك بحجة وإنما يظلمون آيات الله بجحدها وإليه مرجعهم.
وقوله: {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} كان ظاهر السياق أن يقال: ولكنهم، فالعدول إلى الظاهر للدلالة على أن الجحد منهم إنما هو عن ظلم منهم لا عن قصور وجهل وغير ذلك فليس إلا عتوا وبغيا وطغيانا وسيبعثهم الله ثم إليه يرجعون.
ولذلك وقع الالتفات في الكلام من التكلم إلى الغيبة: (فقيل بآيات الله) ولم يقل: بآياتنا، للدلالة على أن ذلك منهم معارضة مع مقام الألوهية واستعلاء عليه وهو المقام الذي لا يقوم له شئ.
وقد قيل في تفسير معنى الآية وجوه أخرى: أحدها: ما عن الاكثر أن المعنى: لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا، وإنما يظهرون التكذيب بأفواههم عنادا.
وثانيها: أنهم لا يكذبونك وإنما يكذبوننى فإن تكذيبك راجع إلى ولست مختصا به، وهذا الوجه غير ما قدمناه من الوجه وإن كان قريبا منه، والوجهان جميعا على قراءة التشديد.
وثالثها: أنهم لا يصادفونك كاذبا تقول العرب: قاتلناهم فما أجبناهم أي ما صادفناهم جبناء، والوجه ما تقدم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}: هذه تعزية للرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية. أي قد نعلم ما قالوا فيك وهم إنما قالوا ذلك بسَببِنَا ولأَجْلِنا. ولقد كُنْتَ عظيمَ الجاه فيهم قبل أن أوقعنا عليكَ هذا الرقم؛ وكانوا يسمونك محمدًا الأمين، فإنْ أصابَكَ ما يصيبك فَلأَجْلِ حديثنا، وغيرُ ضائعٍ لك هذا عندنا، وحالُكَ فينا كما قيل:
أشاعوا لنا في الحيِّ أشنع قصةٍ ** وكانوا لنا سِلْما فصاروا لنا حَربا

. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} الآية.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، بأنه يعلم أن رسوله صلى الله عليه وسلم يحزنه ما يقوله الكفار من تكذيبه صلى الله عليه وسلم، وقد نهاه تعالى عن هذا الحزن المفرط في مواضع أخر كقوله: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] الآية، وقوله: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} [المائدة: 68]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6]، وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] الباخع: هو المهلك نفسه، ومنه قول غيلان بن عقبة.
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ** لشيء نحته عن يديه المقادر

وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ} في الآيتين يراد به النهي عن ذلك، ونظيره {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} [هود: 12] أي لا تهلك نفسك حزنًا عليهم في الأول، ولا تترك بعض ما يوحى إليك في الثاني. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
{قد نعلم} الآية، {قد} الملازم للفعل حرف يجيء مع التوقع إما عند المتكلم وإما عند السامع أو مقدرًا عنده فإذا كان الفعل خالصًا للاستقبال كان التوقع من المتكلم، كقولك قد يقوم زيد وقد ينزل المطر في شهر كذا إذا كان الفعل ماضيًا أو فعل حال بمعنى المضي مثل آيتنا هذه، فإن التوقع ليس من المتكلم بل المتكلم موجب ما أخبر به، وإنما كان التوقع عند السامع فيخبره المتكلم بأحد المتوقعين، و{نعلم} تتضمن إذا كانت من الله تعالى استمرار العلم وقدمه، فهي تعم المضي والحال والاستقبال، ودخلت إن للمبالغة في التأكيد، وقرأ نافع وحده {ليُحزنك} من أحزن، وقرأ الباقون {ليَحزنك} من حزن الرجل، وقرأ أبو رجاء {لِيحزِنْك} بكسر اللام والزاي وجزم النون، وقرأ الأعمش أنه بفتح الهمزة {يحزنك} بغير لام، قال أبو علي الفارسي تقول العرب حزن الرجل بكسر الزاي يحزن حزنًا وحزنًا وحزنته أنا، وحكي عن الخليل أن قولهم حزنته ليس هو تغيير حزن على نحو دخل وأدخلته، ولكنه بمعنى جعلت فيه حزنًا كما تقول كحلته ودهنته، قال الخليل ولو أردت تغيير حزن لقلت أحزنته، وحكى أبو زيد الأنصاري في كتاب خباة العرب أحزنت الرجل، قال أبو علي وحزنت الرجل أكثر استعمالًا عندهم من أحزنته، فمن قرأ {ليُحزنك} بضم الياء فهو على القياس في التغيير، ومن قرأ {ليَحزنُك} بفتح الياء وضم الزاي فهو على كثرة الاستعمال، و{الذي يقولون} لفظ يعم جميع أقوالهم التي تتضمن الرد على النبي صلى الله عليه وسلم والدفع في رئيَ من الجن ونحو هذا وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمر وعاصم وحمزة {لا يكذبونك} بتشديد الدال وفتح الكاف، وقرأها ابن عباس وردها على قارئ عليه {يُكذبونك} بضم الياء، وقال: إنهم كانوا يسمونه الأمين، وقرأ نافع والكسائي بسكون الكاف وتخفيف الذال، وقرأها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان، اختلف المتأولون في معناهما فقالت فرقة: هما بمعنى واحد كما تقول: سقيت وأسقيت وقللت وأقللت وكثرت وأكثرت، حكى الكسائي أن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه، وتقول العرب ايضًا أكذبت الرجل إذا وجدته كذابًا كما تقول أحمدية إذا وجدته محمودًا، فالمعنى على قراءة من قرأ {يكذّبونك} بتشديد الذال أي لا تحزن {فإنهم لا يكذبونك} تكذيبًا على جهة الإخبار عنهم أنهم لا يكذبون وأنهم يعلمون صدقه ونبوته ولكنهم يجحدون عنادًا منهم وظلمًا، والآية على هذا لا تتناول جميع الكفار بل تخص الطائفة التي حكى عنها أنها كانت تقول: إنا لنعلم أن محمدًا صادقًا ولكن إذا آمنا به فضلتنا بنو هاشم بالنبوة فنحن لا نؤمن به أبدًا، رويت هذه المقالة عن أبي جهل ومن جرى مجراه، وحكى النقاش أن الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف، فإنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السر ويقول نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس والمعنى على قراءة من قرأ {يكذبونك} بتخفيف الذال يحتمل ما ذكرناه أولًا في {يكذبونك} أي لا يجدونك كاذبًا في حقيقتك ويحتمل هذين الوجهين اللذين ذكرت في {يكذّبونك} بشد الذال، وآيات الله علاماته وشواهد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، و{يجحدون} حقيقته في كلام العرب الإنكار بعد معرفة وهو ضد الإقرار، ومعناه على تأويل من رأى الآية في المعاندين مترتب على حقيقته وهو قول قتادة والسدي وغيرهما، وعلى قول من رأى أن الآية في الكفار قاطبة دون تخصيص أهل العناد يكون في اللفظة تجوز وذلك أنهم لما أنكروا نبوته وراموا تكذيبه بالدعوى التي لا تعضدها حجة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو الجحد تغليظًا عليهم وتقبيحًا لفعلهم، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يعلمها ويقربها.