فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ** أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي

وَلَوْلَا أَنَّ دَفْعَ الْأَسَى بِالْأَسَى مِنْ مُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ لَمَا ظَهَرَتْ حِكْمَةُ تَكْرَارِ التَّسْلِيَةِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ وَلاسيما صَلَاةُ اللَّيْلِ، فَرُبَّمَا يَقْرَأُ السُّورَةَ وَلَا يَعُودُ إِلَيْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ يَفْرَغُ فِيهَا مِنْ قِرَاءَةِ مَا نَزَلَ مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ، فَاحْتِيجَ إِلَى تَكْرَارِ تَسْلِيَتِهِ وَأَمْرِهِ بِالصَّبْرِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُزْنَ وَالْأَسَفَ اللَّذَيْنِ كَانَا يَعْرِضَانِ لَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يَتَكَرَّرَا بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِمَا وَبِتَذَكُّرِهِ حَتَّى عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي بَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ وَمُحَاجَّتِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ.
وَ{مَا} فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى مَا كُذِّبُوا} مَصْدَرِيَّةٌ {وَأُوذُوا} عَطْفٌ عَلَى {كُذِّبُوا} أَيْ فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِ أَقْوَامِهِمْ لَهُمْ وَإِيذَائِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَالْإِيذَاءُ فِعْلُ الْأَذَى، وَهُوَ مَا يُؤْلِمُ النَّفْسَ أَوِ الْبَدَنَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَقَدْ أُوذِيَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ كَمَا أُوذِيَ الرُّسُلُ قَبْلَهُ، آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ فِي مَكَّةَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الْمَدِينَةِ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} غَايَةٌ لِلصَّبْرِ، أَيْ: صَبَرُوا عَلَى التَّكْذِيبِ وَمَا قَارَنَهُ مِنَ الْإِيذَاءِ إِلَى أَنْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا الْعَظِيمُ بِالِانْتِقَامِ مِنْ أَقْوَامِهِمْ، وَإِنْجَائِنَا إِيَّاهُمْ هُمْ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ مِنْ أَذَاهُمْ وَكَيْدِهِمْ. وَفِيهِ بِشَارَةٌ لِلرَّسُولِ مُؤَكِّدَةٌ لِلتَّسْلِيَةِ بِأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ يُكَذِّبُهُ وَيُؤْذِيهِ مِنْ أُمَّةِ الْبَعْثَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى حُسْنِ عَاقِبَةِ الصَّبْرِ، فَمَنْ كَانَ أَصْبَرَ كَانَ أَجْدَرَ بِالنَّصْرِ إِذَا تَسَاوَتْ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ سَائِرُ أَسْبَابِ الْغَلَبِ وَالْقَهْرِ. وَإِضَافَةُ النَّصْرِ إِلَى ضَمِيرِ الْعَظَمَةِ الْعَائِدِ عَلَى الْعَزِيزِ الْقَدِيرِ تُشْعِرُ بِعَظَمَةِ شَأْنِهِ. وَتُشِيرُ إِلَى كَوْنِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُؤَيِّدَةِ لِرُسُلِهِ.
{وَلَا مُبْدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ الَّتِي مِنْهَا وَعْدُهُ لِلرُّسُلِ بِالنَّصْرِ، وَتَوَعُّدُهُ لِأَعْدَائِهِمْ بِالْغَلَبِ وَالْخِذْلَانِ. وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالسُّنَنِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ هُنَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [37: 171- 173] اقْرَأِ الْآيَاتِ إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، فَنَفْيُ جِنْسِ الْمُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِ اللهِ مُثْبِتٌ لِكَلِمَتِهِ فِي نَصْرِ الْمُرْسَلِينَ بِالدَّلِيلِ- أَيْ إِنَّ ذَلِكَ النَّصْرَ قَدْ سَبَقَتْ بِهِ كَلِمَةُ اللهِ وَكَلِمَاتُ اللهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبَدِّلَهَا مُبَدِّلٌ، فَنَصْرُ الرُّسُلِ حَتْمٌ لابد مِنْهُ. وَكَلِمَاتُ اللهِ جِنْسٌ يَشْمَلُ كَلِمَاتِ الْأَخْبَارِ وَإِنْشَاءِ الْأَحْكَامِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [115] مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِضَافَةُ الْكَلِمَاتِ هُنَا إِلَى الِاسْمِ الْأَجَلِّ الْأَعْظَمِ تُشْعِرُ بِعِلَّةِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا مُبْدِّلَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُبْدِّلَ لِكَلِمَاتِ غَيْرِهِ لابد أَنْ تَكُونَ قُدْرَتُهُ فَوْقَ قُدْرَتِهِ، وَسُلْطَانُهُ أَعْلَى مِنْ سُلْطَانِهِ. وَالتَّبْدِيلُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ شَيْءٍ بَدَلًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ وَتَبْدِيلُ الْأَقْوَالِ وَالْكَلِمَاتِ نَوْعَانِ: تَبْدِيلُ ذَاتِهَا بِجَعْلِ قَوْلٍ مَكَانَ قَوْلٍ، وَكَلِمَةٍ مَكَانَ كَلِمَةٍ. ومنه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [2: 59] وَتَبْدِيلُ مَدْلُولِهَا وَمَضْمُونِهَا كَمَنْعِ نُفُوذِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ أَوْ وُقُوعِهِ عَلَى خِلَافِ الْقَوْلِ الَّذِي سَبَقَ. وَالْمُتَكَلِّمُونَ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ أَنْ يُبَدِّلَ مَا شَاءَ مِنْ كَلِمَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، وَتَبْدِيلُهُ إِيَّاهَا لَا يَشْمَلُهُ النَّفْيُ فِي الْآيَةِ، فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ: قَدْ يَشْمَلُهُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [50: 29] قَالُوا: إِنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي الْعَفْوِ تُخَصِّصُ الْعَامَّ مِنْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ، أَوْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ بَعْضِ الْمُذْنِبِينَ مِنْ قَبِيلِ التَّبْدِيلِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذَا الْبَحْثِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
{وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} هَذَا تَقْرِيرٌ وَتَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَلَقَدْ جَاءَكَ بَعْضُ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ فِي ذَلِكَ، أَوْ: وَلَقَدْ جَاءَكَ مَا ذُكِرَ أَوْ ذَلِكَ الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ مِنْ خَبَرِ التَّكْذِيبِ وَالصَّبْرِ وَالنَّصْرِ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَالنَّبَأُ الْخَبَرُ أَوْ ذُو الشَّأْنِ مِنَ الْأَخْبَارِ لَا كُلَّ خَبَرٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَنْعَامَ نَزَلَتْ بَعْدَ الشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ وَالْقَصَصِ وَهُودٍ وَالْحِجْرِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ بِالتَّفْصِيلِ. وَكَلِمَةُ نَبَأٍ رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِيَاءٍ هَكَذَا {نبإي} وَالْيَاءُ كُرْسِيٌّ لِلْهَمْزَةِ الْمَحْذُوفَةِ كَالنُّقَطِ، فَيَنْطِقُ بِالْهَمْزَةِ دُونَهَا كَمَا تُرْسَمُ فِي وَسَطِ الْكَلِمَةِ فِي مِثْلِ نَبِّئْهُمْ. وَكَانَ يَنْطِقُ بِهَا مَنْ لَا يَهْمِزُ.
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَعَدَ الْمُرْسَلِينَ مِنَ النَّصْرِ، فَقَالَ: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [40: 51] وَقَالَ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [30: 47] وَهِيَ نَصٌّ فِي تَعْلِيلِ النَّصْرِ بِالْإِيمَانِ. وَلَكِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ غَيْرَ مَنْصُورِينَ، فَلابد أَنْ يَكُونُوا فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ غَيْرَ صَادِقِينَ، أَوْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ، وَلِأَهْوَائِهِمْ لَا لِلَّهِ نَاصِرِينَ، وَلِسُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ النَّصْرِ غَيْرَ مُتَّبَعِينَ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ وَلَا يُبْطِلُ سُنَنَهُ، وَإِنَّمَا يَنْصُرُ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ وَهُوَ مَنْ يَقْصِدُ نَصْرَ اللهِ وَإِعْلَاءَ كَلِمَتَهُ، وَيَتَحَرَّى الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي حَرْبِهِ لَا الظَّالِمَ الْبَاغِي عَلَى ذِي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ مِنْ خَلْقِهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي شَرْعِ الْقِتَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [22: 39، 40] فَأَمَّا الرُّسُلُ الَّذِينَ نَصَرَهُمُ اللهُ وَمَنْ مَعَهُمْ فَقَدْ كَانُوا كُلُّهُمْ مَظْلُومِينَ، وَبِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ مُعْتَصِمِينَ، وَلِلَّهِ نَاصِرِينَ. وَقَدِ اشْتَرَطَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي نَصْرِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [47: 7] وَالْإِيمَانُ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ، يَكُونُ مُرَجِّحًا بَيْنَ مَنْ تَسَاوَتْ أَسْبَابُهُمُ الْأُخْرَى، فَلَيْسَ النَّصْرُ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ. وَأَمَّا تَأْيِيدُ اللهِ تَعَالَى لِلرُّسُلِ بِإِهْلَاكِ أَقْوَامِهِمُ الْمُعَانِدِينَ فَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ زَائِدٌ عَلَى تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ فِي الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَالِاتِّكَالِ عَلَى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ اشْتِدَادِ الْبَأْسِ وَعُرُوضِ أَسْبَابِ الْيَأْسِ. وَمَنْ كَانَ حَظُّهُ مِنْ صِفَاتِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ أَكْبَرَ كَانَ إِلَى نَيْلِ النَّصْرِ أَقْرَبَ إِذَا كَانَ مُسَاوِيًا لِخَصْمِهِ فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْقِتَالِ وَلاسيما حُسْنُ النِّظَامِ وَجَوْدَةُ السِّلَاحِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا كَلَامٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ (رَاجِعْ كَلِمَةَ نَصْرٍ مِنْ فَهَارِسِ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ وَمُجَلَّدَاتِ الْمَنَارِ).
{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} مِمَّا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ لِيُؤْمِنُوا فَافْعَلْ أَوْ فَأْتِهِمْ بِهَا، يُقَالُ كَبُرَ عَلَى فُلَانٍ الْأَمْرُ، أَيْ عَظُمَ عِنْدَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ وَقْعُهُ. وَالْإِعْرَاضُ: التَّوَلِّي وَالِانْصِرَافُ عَنِ الشَّيْءِ رَغْبَةً عَنْهُ أَوِ احْتِقَارًا لَهُ، وَهُوَ مِنْ إِبْدَاءِ الْمَرْءِ عَرْضَ بَدَنِهِ عِنْدَ تَوَلِّيهِ عَنِ الشَّيْءِ وَاسْتِدْبَارِهِ لَهُ، وَاسْتَطَعْتَ الشَّيْءَ: صَارَ فِي طَوْعِكَ مُنْقَادًا لَكَ بِاسْتِيفَاءِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُمَكِّنُكَ مِنْ فِعْلِهِ، وَالِابْتِغَاءُ: طَلَبُ مَا فِي طَلَبِهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ أَوْ تَجَاوُزٌ لِلْمُعْتَادِ أَوْ لِلِاعْتِدَالِ، أَوْ طَلَبُ غَايَاتِ الْأُمُورِ وَأَعَالِيهَا، لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الْبَغْيِ وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الطَّلَبِ أَوِ الْحَقِّ. وَيَكُونُ فِي الْخَيْرِ كَابْتِغَاءِ رِضْوَانِ اللهِ وَهُوَ غَايَةُ الْكَمَالِ، وَفِي الشَّرِّ كَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَهُوَ غَايَةُ الضَّلَالِ، وَالنَّفَقُ: السَّرَبُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ حُفْرَةٌ نَافِذَةٌ لَهَا مَدْخَلٌ وَمَخْرَجٌ، كَنَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ، وَهُوَ جُحْرُهُ يَجْعَلُ لَهُ مَنَافِذَ يَهْرُبُ مِنْ بَعْضِهَا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ مَا يَخَافُهُ. وَالسُّلَّمُ: الْمِرْقَاةُ، مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّهُ الَّذِي يُسَلِّمُكَ إِلَى مِصْعَدِكَ. وَتَذْكِيرُهُ أَفْصَحُ مِنْ تَأْنِيثِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَنَّثُ بِمَعْنَى الْآلَةِ، وَأَتَى بِ كَانَ فِعْلًا لِلشَّرْطِ؛ لِيَبْقَى الشَّرْطُ عَلَى الْمُضِيِّ وَلَا يَنْقَلِبَ مُسْتَقْبَلًا كَمَا قَالُوا، فَإِنَّ إِنَّ لَا تَقْلِبُ كَانَ مُسْتَقْبَلًا لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُضِيِّ. وَالنَّحْوِيُّ يُؤَوِّلُ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ بِنَحْوِ: وَإِنْ تَبَيَّنَ وَظَهَرَ أَنَّهُ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، تَقْدِيرُهُ: فَافْعَلْ كَمَا تَقَدَّمَ.
تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَأَنَّهُ كَانَ يَتَمَنَّى لَوْ آتَاهُ اللهُ بَعْضَ مَا طَلَبُوا حِرْصًا عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَأَسَفًا وَحُزْنًا عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى غَوَايَتِهِمْ، وَتَأَلُّمًا مِنْ كُفْرِهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُقْتَرِحِينَ الْجَاحِدِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِنْ رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ مَا يَطْلُبُونَ وَفَوْقَ مَا يَطْلُبُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ أَوَائِلِ السُّورَةِ [رَاجِعْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَهَا ص 258 ج 7 ط الْهَيْئَةِ] وَقَدْ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُؤَكِّدَ لِرَسُولِهِ مَا يَجِبُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ وَأَذَاهُمُ الدَّالِّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ، وَأَنْ يُرِيحَ قَلْبَهُ الرَّءُوفَ الرَّحِيمَ مِنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: وَإِنْ كَانَ شَأْنُكَ مَعَهُمْ أَنَّهُ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَعَنِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ- وَمِنْهَا مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ- وَظَنَنْتَ أَنَّ إِتْيَانَهُمْ بِآيَةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوا يَدْحَضُ حُجَّتَهُمْ، وَيَكْشِفُ شُبْهَتَهُمْ، فَيَعْتَصِمُونَ بِعُرْوَةِ الْإِيمَانِ، عَنْ بَيِّنَةٍ مُلْزِمَةٍ وَبُرْهَانٍ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ لِنَفْسِكَ نَفَقًا كَائِنًا فِي الْأَرْضِ- أَوْ مَعْنَاهُ: تَطْلُبُهُ فِي الْأَرْضِ- فَتَذْهَبَ فِي أَعْمَاقِهَا، أَوْ سُلَّمًا فِي جَوِّ السَّمَاءِ تَرْتَقِيَ عَلَيْهِ إِلَى مَا فَوْقِهَا، فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْكَ مِنْهُمَا فَائْتِ بِمَا يَدْخُلُ فِي طَوْعِ قُدْرَتِكَ مِنْ ذَلِكَ، كَتَفْجِيرِ يَنْبُوعٍ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، أَوْ تَنْزِيلِ كِتَابٍ تَحْمِلُهُ لَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَدْ كَانُوا طَلَبُوا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ كَمَا حَكَّاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [17: 90- 93] وَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَقِبَ هَذَا: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} أَيْ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ وَإِنْ كَانَ رَسُولًا؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تُخْرِجُ الرَّسُولَ عَنْ طَوْرِ الْبَشَرُ فِي صِفَاتِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ كَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ، فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِيجَادَ شَيْءٍ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ فِي صِفَاتِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ كَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ، فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِيجَادَ شَيْءٍ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْخَالِقِ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْإِتْيَانَ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَا ابْتِغَاءَ السُّبُلَ إِلَيْهَا فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا اقْتَضَتْ مَشِيئَةُ رَبِّكَ أَنْ يُؤْتِيَكَ ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمَا تُحِبُّ مِنْ هِدَايَتِهِمْ؛ وَلِأَنَّ مِنْ سَنَّتِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْجُحُودِ بَعْدَهُ إِنْزَالُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
{وَلَوْ شَاءَ اللهُ لِجَمْعِهِمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى جَمْعَهُمْ عَلَى مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى لِجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ بِجَعْلِ الْإِيمَانِ ضَرُورِيًّا لَهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِخَلْقِهِمْ عَلَى اسْتِعْدَادٍ وَاحِدٍ لِلْخَيْرِ وَالْحَقِّ فَقَطْ، لَا مُتَفَاوِتِي الِاسْتِعْدَادِ مُخْتَلِفِي الِاخْتِيَارِ بِاخْتِلَافِ الْعُلُومِ وَالْأَفْكَارِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، كَمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِي خَلْقِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ الْبَشَرَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الِاسْتِعْدَادِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَافِ أَسْبَابِ الِاخْتِيَارِ، فَإِذَا عَرَفْتَ سُنَّتَهُ هَذِهِ فِي خَلْقِ هَذَا النَّوْعِ، وَأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الْجَاهِلِينَ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ مَا يَرَوْنَهُ حَسَنًا وَنَافِعًا، وَإِنْ كَانَ حُصُولُهُ مُمْتَنِعًا، لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِتِلْكَ السُّنَنِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ. فَالْجَهْلُ هُنَا ضِدُّ الْعِلْمِ لَا ضِدُّ الْحِلْمِ، وَلَيْسَ كُلُّ جَهْلٍ بِهَذَا الْمَعْنَى عَيْبًا؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَإِنَّمَا يُذَمُّ الْإِنْسَانُ بِجَهْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ بِجَهْلِ مَا يَنْبَغِي لَهُ وَيُعَدُّ كَمَالًا فِي حَقِّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِي جَهْلِهِ. قَالَ تَعَالَى فِي الْفُقَرَاءِ الْمُتَعَفِّفِينَ: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [2: 273] فَوَصْفُ الْجَاهِلِ هُنَا غَيْرُ ذَمٍّ، وَكَانَ عَدَمُ عِلْمِ خَاتَمِ الرُّسُلِ بِالْكِتَابَةِ مِنْ أَرْكَانِ آيَاتِهِ، وَعَدَمُ عِلْمِهِ بِالشِّعْرِ مِنْ أَدِلَّةِ الْوَحْيِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَكُلُّ مَا يَتَوَقَّفُ عِلْمُهُ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ لَا يَكُونُ جَهْلُ الرَّسُولِ إِيَّاهُ قَبْلَ نُزُولِهِ عَلَيْهِ عَيْبًا يُذَمُّ بِهِ؛ إِذْ لَا يُذَمُّ الْإِنْسَانُ إِلَّا بِمَا يُقَصِّرُ فِي تَحْصِيلِهِ وَكَسْبِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَنْ يَسْأَلَهُ زِيَادَةَ الْعِلْمِ، وَكَانَ يَزِيدُهُ كُلَّ يَوْمٍ عِلْمًا وَكَمَالًا بِتَنْزِيلِ الْقُرْآنِ وَبِفَهْمِهِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الذَّمَّ قَبْلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُذَمُّ مُطْلَقًا هُوَ الْجَهْلُ الْمُرَادِفُ لِلسَّفَهِ وَهُوَ ضِدُّ الْحِلْمِ.
وَيُشْبِهُ مَا هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى لِنُوحٍ حِينَ طَلَبِ نَجَاةَ ابْنِهِ الْكَافِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ اللهُ بِإِنْجَائِهِمْ مَعَهُ: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [11: 46] أَيْ بِإِدْخَالِ وَلَدِكَ الْكَافِرِ فِي عُمُومِ أَهْلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا اقْتَرَنَ النَّهْيُ هُنَا بِالْوَعْظِ لِأَنَّ عَاطِفَةَ الرَّحْمَةِ الْوَالِدِيَّةِ حَمَلَتْهُ عَلَى سُؤَالِ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ اعْتِمَادًا عَلَى اسْتِنْبَاطٍ اجْتِهَادِيٍّ غَيْرِ صَحِيحٍ، وَرَحْمَةُ خَاتَمِ الرُّسُلِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ أَعَمَّ وَأَشْمَلَ، وَغَايَةُ مَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّهُ تَمَنَّى وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ، وَلَوْ سَأَلَ لَسَأَلَ آيَةً يَهْتَدِي بِهَا الضَّالُّ مِنْ قَوْمِهِ، لَا نَجَاةَ الْكَافِرِ مِنْ أَهْلِهِ، فَاكْتَفَى فِي إِرْشَادِهِ بِالنَّهْيِ وَحَسُنَ فِي إِرْشَادِ نُوحٍ التَّصْرِيحُ بِالْوَعْظِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ}.
إنك يا محمد رسول من عند الله، ومعك منهج هو معجزتك الدالة على صدق ما جئت به، فإن كبر عليك إعراضهم وعظم عليك أن يتولوا ويعرضوا عنك فإن استطعت أن تصنع لنفسك نفقًا في الأرض لتأتيهم بآية أو أن تبني سلمًا لتصعد به إلى السماء طلبًا لهذه الآية فافعل، ولكنك لن تستطيع ذلك لأن ذلك فوق حدود قدرتك وسيلقى المشركون والمنافقون العذاب لأنك جئت يا رسول الله تبدد من صولجان سلطتهم الزمنية وتقيم العدل الإيماني. ولذلك حاولوا السخرية منك وإيذاءك.
وقد طلب الكافرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل إلى الأرض ليفجر لهم منها ينبوعًا، وطلبوا إليه أن يصعد إلى السماء وأن يجعلها تسقط عليهم كسفًا وقطعًا لتهلكهم. وهذه أشياء لم تكن في مكنة واستطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول له الحق سبحانه وتعالى ما يقفل عليه أبواب الحزن ويقضي على أسباب الأسى والأسف عنده بسبب إعراضهم، وأن يعرف أن السخرية والمقاومة هي مسألة طبيعية بالنسبة لكل رسول من الرسل، وأنت يا رسول الله أولى بهذا لأن مهمتك أضخم من كل الرسل. ونلحظ أن الحق سبحانه يحذف هنا جواب إن فهو يقول: {فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرض أَوْ سُلَّمًا فِي السماء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام: 35].
ولم يقل الحق: فافعل ذلك، كأن المسألة هي تهدئة للرسول؛ لأن الجواب في مثل هذه الحالة معلوم؛ فالرسول لا يجبر أحدًا على الإيمان. وإعراض هؤلاء القوم أمر مقصود لواجب الوجود حتى يختبرهم ولو أراد قهرهم لفعل، فلا أحد يتأبى على الله، فالكون كله مطيع لله، الشمس، والقمر، والنجوم، والهواء، والماء، والجبال، والأرض، وكل ما في الكون مطيع لله بما في ذلك الحيوان المسخر لخدمة الإنسان. ولكنه سبحانه أعطى الاختيار للإنسان ليأتي إلى الله محبًا.
ونعلم أن الحق قد ترك بعضًا من المسخرات غير مذللة ليثبت للإنسان إنه لم يذلل الأشياء بحيلته، ولكنه- جل شأنه- هو الذي خلقها وذللها له؛ لذلك نرى الجمل الضخم يجره طفل صغير، ونرى أي رجل مهما تكن قوته يأخذ الحذر والاحتياط من ثعبان صغير. {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71- 72].
ولو لم يذللها الله فلن يستطيع أحد أن يقترب منها. وأضرب هذا المثل دائمًا، عندما قال قائل: لماذا خلق الله الذباب، فقال رجل من أهل الإشراق: ليذل به الجبابرة؛ فسلطانهم لا يمتد إلى هذه الحشرات. لقد أعطى الحق الإنسان عزَّة السيادة، وعلمه أيضًا أن يتواضع للخالق.
ويبلغ الحق سبحانه وتعالى رسوله: {وَلَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} [الأنعام: 35].
أي أنه سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم مؤمنين. وقد يقول قائل: كيف يخاطب الله رسوله فيقول له: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين}؟ ونقول: إن الحق حين يقول لرسوله ذلك فهو يقولها لا من مظنة أن يفعلها الرسول؛ فالرسول معصوم من الجهل، ولكن هو قول فيه تنزيه للرسول عن أن يكون في مثل هذا الصنف من الجاهلين. اهـ.