فصل: تفسير الآية رقم (38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (38):

قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما عجب منهم في قولهم هذا الذي يقتضي أنهم لم يروا له آية قط بعد ما جاءهم من الآيات الخاصة به ما ملأ الأقطار، ورد إلى الصم الأسماع، وأنار من العمى الأبصار؛ ذكرهم بآية غير آية القرآن تشتمل على آيات مستكثرة كافية لصلاحهم، رتبها سبحانه قبل سؤالهم تفضلًا منه عليهم دالة على باهر قدرته على البعث وغيره من الآيات التي طلبوها وغيرها وعلى تفرده بجميع الأمر، إذا تأملوها حق تأملها كفتهم في جميع ما يراد منهم فقال تعالى: {وما} أي قالوا ذلك والحال أنه ما، وهي ناظرة أتم نظر إلى قوله: {هو الذي خلقكم من طين} [الأنعام: 2] أي فعل ذلك بكم وما {من دابة في الأرض} أي تدب أي تنتقل برجل وغير رجل {ولا طائر يطير} وقرر الحقيقة بقوله: {بجناحيه} وشمل ذلك جميع الحيوان حتى ما في البحر، لأن سيرها في الماء إما أن يكون دبيبًا أو طيرانًا مجازًا.
ولما كان المراد بالدابة والطائر الاستغراق قال: {إلا أمم} أي يقصد منها في نفسه، ويقصد هو نوعه وينضم إلى شكله {أمثالكم} أي في ذلك وفي أنا خلقناكم ولم يكونوا شيئًا وحفظنا جميع أحوالهم، وقدرنا كل أرزاقهم وآجالهم، وجعلنا لكم فيهم أحكامًا جددناها لكم، وجعلنا لكل منهم أجلًا للموت لا يتعداه بعد أن فاوتنا بينهم في الحياة، وللكل أجل في علمنا في البرزخ مثبت قبل أن نخلقهم، لا ينقص ذرة ولا يزيد خردلة، وجعلنا في هذه الحيوانات ما هو أقوى منكم وما هو أضعف، وجعلناكم أقوى من الجميع بالعقل، ولو شئنا لجعلنا له بين قوة البدن والعقل، وربما سلطنا الأضعف عليكم كالجراد والفأر والدود بما تعجز عنه عقولكم، ولو شئنا لسلطنا عليكم من أضعفها خلقًا- البعوض- ما أخذ بأنفاسكم ومنعكم القرار وأخرجكم عن حركات الاختيار إلى أن أهلككم جميعًا هلاك نفس واحدة- إلى غير ذلك من أمور تكل عنها العقول وتقف دونها نوافذ الفكر، وهذا كله معنى قوله: {ما فرطنا} أي تركنا وأغفلنا لما لنا من القدرة الكاملة والعلم الشامل {في الكتاب} أي اللوح المحفوظ والقرآن، وأعرق في النفي بقوله: {من شيء} أي ليذهب ذكره كما يذهب العقد الذي ينقطع سلكه فيتفرط، بل ذكرنا جميع أحوال خلقنا من الجن والإنس والملائكة وغيرهم من كل ناطق وصامت، فصارت في غاية الضبط حتى أن الحفظة يعرضون ما يحدث من عمل المكلفين وغيره آخر النهار على ما كان مثبتًا في أم الكتاب فيجدونه كما هو، لا يزيد شيئًا ولا ينقص، فيزدادون إيمانًا، وأثبتنا في هذا القرآن مجامع الأمور، فهو تبيان لكل شيء من الأحكام الأصلية والفرعية والدلالات على كل ذلك وأخبار الأولين والآخرين وكل علم يمكن أن يحتاجه المخلوق، فمن أراد الهداية هداه بدقيق أسراره، ومن أعرض أوقعه في الردى، وعمي حتى عن واضح أنواره، والآية كما قال تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض} إلى أن قال: {وبث فيها من كل دابة... لآيات لقوم يعقلون} [البقرة: 164].
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

أفلا يكون لكم في ذلك آيات تغنيكم عن إرسال الرسل فضلًا عن أن تتوقفوا بعد إرسالهم ولا ترضوا منهم من خوارق العادات إلا بما تقترحونه.
ولما أشار إلى ما شارك فيه سائر الحيوان للآدميين من أحوال الحياة وغيرها، نص على الحشر الذي هو محط الحكمة فقال: {ثم} أي بعد طول الحياة والإقامة في البرزخ {إلى ربهم} أي خاصة، وبني للمفعول على طريق كلام القادرين قوله: {يحشرون} أي يجمعون كرهًا بعد أن يعيدهم كلهم كما بدأهم، وينصف كل مظلوم منهم من ظالمه، كل ذلك عليه هيّن {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} [لقمان: 28] والكل محفوظون في كتاب مبين على اختلاف أنواعهم وتباين حقائقهم وأشخاصهم وزيادتهم في الجد على أن يوجه نحوهم العد- سبحان من أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، إن ذلك على الله يسير، وهو على كل شيء قدير. اهـ.

.قال الفخر:

في تقرير وجه النظم، فنقول فيه وجهان: الأول: أنه تعالى بيّن في الآية الأولى أنه لو كان إنزال سائر المعجزات مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها إلا أنه لما لم يكن إظهارها مصلحة للمكلفين، لا جرم ما أظهرها.
وهذا الجواب إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى يراعي مصالح المكلفين ويتفضل عليهم بذلك فبيّن أن الأمر كذلك، وقرره بأن قال: {وَمَا مِن دَابَّةٍ في الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم} في وصول فضل الله وعنايته ورحمته وإحسانه إليهم، وذلك كالأمر المشاهد المحسوس فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات؛ فلو كان في إظهار هذه المعجزات القاهرة مصلحة للمكلفين لفعلها ولأظهرها ولامتنع أن يبخل بها مع ما ظهر أنه لم يبخل على شيء من الحيوانات بمصالحها ومنافعها وذلك يدل على أنه تعالى إنما لم يظهر تلك المعجزات، لأن إظهارها يخل بمصالح المكلفين.
فهذا هو وجه النظم والمناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها والله أعلم.
الوجه الثاني في كيفية النظم: قال القاضي: إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون بين أيضًا بعده بقوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ في الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم} في أنهم يحشرون، والمقصود: بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في حق الناس فهو أيضًا حاصل في حق البهائم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير فجميع ما خلق الله تعالى من الحيوانات، فإنه لا يخلو عن هاتين الصفتين، إما أن يدب، وإما أن يطير.
وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: من الحيوان ما لا يدخل في هذين القسمين مثل حيتان البحر، وسائر ما يسبح في الماء ويعيش فيه.
والجواب: لا يبعد أن يوصف بأنها دابة من حيث إنها تدب في الماء أو هي كالطير، لأنها تسبح في الماء، كما أن الطير يسبح في الهواء، إلا أن وصفها بالدبيب أقرب إلى اللغة من وصفها بالطيران.
السؤال الثاني: ما الفائدة في تقييد الدابة بكونها في الأرض؟
والجواب من وجهين: الأول: أنه خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء احتجاجًا بالأظهر لأن ما في السماء وإن كان مخلوقًا مثلنا فغير ظاهر، والثاني: أن المقصود من ذكر هذا الكلام أن عناية الله تعالى لما كانت حاصلة في هذه الحيوانات فلو كان إظهار المعجزات القاهرة مصلحة لما منع الله من إظهارها.
وهذا المقصود إنما يتم بذكر من كان أدون مرتبة من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالًا منه، فلهذا المعنى قيد الدابة بكونها في الأرض.
السؤال الثالث: ما الفائدة في قوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}؟ مع أن كل طائر إنما يطير بجناحيه.
والجواب فيه من وجوه: الأول: أن هذا الوصف إنما ذكر للتأكيد كقوله نعجة أنثى وكما يقال: كلمته بفي ومشيت إليه برجلي.
الثاني: أنه قد يقول الرجل لعبده طِرْ في حاجتي والمراد الإسراع وعلى هذا التقدير: فقد يحصل الطيران لا بالجناح.
قال الحماسي:
طاروا إليه زرافات ووحدانا

فذكر الجناح ليتمحض هذا الكلام في الطير.
والثالث: أنه تعالى قال في صفة الملائكة {جَاعِلِ الملائكة رُسُلًا أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مثنى وثلاث ورباع} [فاطر: 1] فذكر هاهنا قوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} ليخرج عنه الملائكة فإنا بينا أن المقصود من هذا الكلام إنما يتم بذكر من كان أدون حالًا من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالًا منه.
السؤال الرابع: كيف قال: {إِلاَّ أُمَمٌ} مع إفراد الدابة والطائر؟
والجواب: لما كان قوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ وَلاَ طَائِرٍ} دالًا على معنى الاستغراق ومغنيًا عن أن يقول: وما من دواب ولا طيور لا جرم حمل قوله: {إِلاَّ أُمَمٌ} على المعنى.
السؤال الخامس: قوله: {إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم} قال الفرّاء: يقال إن كل صنف من البهائم أمة وجاء في الحديث: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» فجعل الكلاب أمة.
إذا ثبت هذا فنقول: الآية دلت على أن هذه الدواب والطيور أمثالنا، وليس فيها ما يدل على أن هذه المماثلة في أي المعاني حصلت ولا يمكن أن يقال: المراد حصول المماثلة من كل الوجوه وإلا لكان يجب كونها أمثالًا لنا في الصورة والصفة والخلقة وذلك باطل فظهر أنه لا دلالة في الآية على أن تلك المماثلة حصلت في أي الأحوال والأمور فبينوا ذلك.
والجواب: اختلف الناس في تعيين الأمر الذي حكم الله تعالى فيه بالمماثلة بين البشر وبين الدواب والطيور وذكروا فيه أقوالًا:
القول الأول: نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يريد، يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني.
وإلى هذا القول ذهب طائفة عظيمة من المفسرين وقالوا: إن هذه الحيوانات تعرف الله وتحمده وتوحده وتسبحه واحتجوا عليه بقوله تعالى: {وَأَنْ مِمَّنْ شيء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وبقوله في صفة الحيوانات {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] وبما أنه تعالى خاطب النمل وخاطب الهدهد، وقد استقصينا في تقرير هذا القول وتحقيقه في هذه الآيات.
وعن أبي الدرداء أنه قال: أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء: معرفة الإله، وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيوء كل واحد منهما لصاحبه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قتل عصفورًا عبثًا جاء يوم القيامة يعج إلى الله يقول يا رب إن هذا قتلني عبثًا لم ينتفع بي ولم يدعني آكل من خشاش الأرض».
والقول الثاني: المراد إلا أمم أمثالكم في كونها أممًا وجماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضًا، ويأنس بعضها ببعض، ويتوالد بعضها من بعض كالإنس إلا أن للسائل أن يقول حمل الآية على هذا الوجه لا يفيد فائدة معتبرة لأن كون الحيوانات بهذه الصفة أمر معلوم لكل أحد فلا فائدة في الاخبار عنها.
القول الثالث: المراد أنها أمثالنا في أن دبرها الله تعالى وخلقها وتكفل برزقها وهذا يقرب من القول الثاني في أنه يجري مجرى الاخبار عما علم حصوله بالضرورة.
القول الرابع: المراد أنه تعالى كما أحصى في الكتاب كل ما يتعلق بأحوال البشر، من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة فكذلك أحصى في الكتاب جميع هذه الأحوال في كل الحيوانات.
قالوا: والدليل عليه قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ} وليس لذكر هذا الكلام عقيب قوله: {إلا أممٌ أمثالُكُمْ} فائدةً إلا ما ذكرناه.
القول الخامس: أراد تعالى أنها أمثالنا في أنها تحشر يوم القيامة يوصل إليها حقوقها، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقص للجماء من القرناء».
القول السادس: ما اخترناه في نظم الآية، وهو أن الكفار طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الإتيان بالمعجزات القاهرة الظاهرة، فبين تعالى أن عنايته وصلت إلى جميع الحيوانات كما وصلت إلى الإنسان.
ومن بلغت رحمته وفضله إلى حيث لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على الإنسان أولى، فدل منع الله من إظهار تلك المعجزات القاهرة على أنه لا مصلحة لأولئك السائلين في إظهارها، وأن إظهارها على وفق سؤالهم واقتراحهم يوجب عود الضرر العظيم إليهم.
القول السابع: ما رواه أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة، أنه لما قرأ هذه الآية قال: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم، فمنهم من يقدم إقدام الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاوس، ومنهم من يشبه الخنزير فإنه لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه.
فكذلك نجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، فإن أخطأت مرة واحدة حفظها، ولم يجلس مجلسًا إلا رواه عنه.
ثم قال: فاعلم يا أخي إنك إنما تعاشر البهائم والسباع، فبالغ في الحذار والاحتراز، فهذا جملة ما قيل في هذا الموضع. اهـ.
قال الفخر:
ذهب القائلون بالتناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة وبالأخلاق الطاهرة، فإنها بعد موتها تنقل إلى أبدان الملوك، وربما قالوا إنها تنقل إلى مخالطة عالم الملائكة، وأما إن كانت شقية جاهلة عاصية فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات، وكلما كانت تلك الأرواح أكثر شقاوة واستحقاقًا للعذاب نقلت إلى بدن حيوان أخس وأكثر شقاء وتعبًا، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فقالوا: صريح هذه الآية يدل على أنه لا دابة ولا طائر إلا وهي أمثالنا، ولفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية أما الصفات العرضية المفارقة، فالمساواة فيها غير معتبرة في حصول المماثلة.
ثم إن القائلين بهذا القول زادوا عليه، وقالوا: قد ثبت بهذا أن أرواح جميع الحيوانات عارفة بربها وعارفة بما يحصل لها من السعادة والشقاوة، وأن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولًا من جنسها، واحتجوا عليه بأنه ثبت بهذه الآية أن الدواب والطيور أمم.
ثم إنه تعالى قال: {وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] وذلك تصريح بأن لكل طائفة من هذه الحيوانات رسولًا أرسله الله إليها.
ثم أكدوا ذلك بقصة الهدهد، وقصة النمل، وسائر القصص المذكورة في القرآن.
واعلم أن القول بالتناسخ قد أبطلناه بالدلائل الجيدة في علم الأصول، وأما هذه الآية فقد ذكرنا ما يكفي في صدق حصول المماثلة في بعض الأمور المذكورة، فلا حاجة إلى إثبات ما ذكره أهل التناسخ. والله أعلم. اهـ.