فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: أنه لو جعل مفعولًا لكان هو الفاعل في المعنى وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك ولذلك قلت: أرأيتك زيدًا وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه.
والثالث: أنه لو جعل كذلك لظهرت علامة التثنية والجمع والتأنيث في التاء فكنت تقول: أرأيتماكما وأرأيتموكم وأرأيتكن وهذا مذهب البصريين.
والمفعولان في هذه الآية قيل: الأول: منهما محذوف تقديره أرأيتكم إياه أو إياها أي العذاب أو الساعة الواقعين في قوله سبحانه: {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} أي الدنيوي حسبما أتى من قبلكم {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} أي هو لها كما يدل عليه ما بعد لأن الكلام من باب التنازع حيث تنازع رأي وأتى في معمول واحد وهو {عَذَابُ الله} و{الساعة} فأعمل الثاني وأضمر في الأول.
والثاني: منهما جملة الاستفهام وهي قوله تعالى: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} والرابط لها بالمفعول الأول محذوف أي أغير الله تدعون لكشف ذلك.
وقيل: لا تنازع والتقدير أرأيتكم عبادتكم للأصنام أو الأصنام التي تعبدونها هل تنفعكم، وقيل: إن الجملة الاستفهامية سادة مسد المفعولين.
وذهب الرضي تبعًا لغيره أن رأى هنا بصرية وقيل: قلبية بمعنى عرف.
وهي على القولين متعدية لواحد وأصل اللفظ الاستفهام عن العلم أو العرفان أو الإبصار إلا أنه تجوز به عن معنى أخبرني ولا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء.
وفيه على ما قال الكرماني وغيره تجوزان إطلاق الرؤية وإرادة الإخبار لأن الرؤية بأي معنى كانت سبب له.
وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب.
وقول بعضهم: إن الاستفهام للتعجيب لا ينافي كون ذلك بمعنى أخبرني لما قيل أنه بالنظر إلى أصل الكلام.
ونقل عن أبي حيان أن الأخفش قال: إن العرب أخرجت هذا اللفظ عن معناه بالكلية فقالوا: أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة الثانية إذا كان بمعنى أخبرت وإذا كان بمعنى أبصرت لم تحذف همزته وألزمته أيضًا الخطاب على هذا المعنى فلا تقول أبدًا أراني زيد عمرًا ما صنع وتقول هذا على معنى أعلم، وأخرجته أيضًا عن موضوعه بالكلية لمعنى إما بدليل دخول الفاء بعده كقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة} [الكهف: 63] الآية.
فما دخلت الفاء إلا وقد خرجت لمعنى أما.
والمعنى أما إذ أوينا إلى الصخرة فالأمر كذا وكذا.
وقد أخرجته أيضًا إلى معنى أخبرني كما قدمنا، وإذا كان بهذا المعنى فلابد بعده من اسم المستخبر عنه وتلزم الجملة بعد الاستفهام.
وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرف الزمان اه ولم يوافق في جميع ذلك.
وذهب شيخ أهل الكوفة الكسائي إلى أن التاء ضمير الفاعل وأداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول.
وذهب الفراء إلى أن التاء حرف خطاب واللواحق بعده في موضع الرفع على الفاعلية وهي ضمائر نصب استعملت استعمال ضمائر الرفع.
والكلام على ذلك مبسوط في محله.
والمختار عند كثير من المحققين ما ذهب إليه البصريون من جعل كم هنا وكذا سائر اللواحق حرف خطاب ومتعلق الاستخبار عندهم ومحط التبكيت قوله تعالى.
{أَغَيْرَ الله} إلخ.
وقوله سبحانه: {إِن كُنتُمْ صادقين} متعلق بأريتكم مؤكد للتبكيت كاشف عن كذبهم.
وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه، والتقدير على ما قيل إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة (أو أن عبادتكم لها نافعة) أو إن كنتم قومًا من شأنكم الصدق فأخبروني أإلهًا غير الله تعالى تدعون إن أتاكم عذاب الله إلخ فإن صدقهم من موجبات إخبارهم بدعائهم غيره سبحانه.
وقيل: إن الجواب ما يدل عليه قوله تعالى: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} أعني فادعوه على أن الضمير لغير الله، واعترض بأنه يخل بجزالة النظم الكريم كيف لا والمطلوب منهم إنما هو الإخبار بدعائهم غيره جل شأنه عند ءتيان ما يأتي لا نفس دعائهم إياه، وجوز آخرون كون متعلق الاستخبار محذوفًا تقديره أخبروني إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون، وجعلوا قوله سبحانه: {أَغَيْرَ الله} إلخ استئنافًا للتبكيت على معنى أتخصون آلهتكم بالدعوة كما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون الله تعالى دونها، وعليه فتقديم المفعول للتخصيص.
وبعضهم جعل تقديمه لأن الإنكار متعلق به وأنكر تعلقه بالتخصيص. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} استئناف ابتدائي يتضمّن تهديدًا بالوعيد طردًا للأغراض السابقة، وتخلّله تعريض بالحثّ على خلع الشرك إذ ليس لشركائهم نفع بأيديهم، فذُكِّروا بأحوال قد تعرض لهم يلجأون فيها إلى الله.
وألقي عليهم سأل أيستمرون على الإشراك بالله في تلك الحالة وهل يستمرّون من الآن على الشرك إلى أن يأتيهم العذاب أو تأتيهم القيامة حين يلجأون إلى الإيمان بوحدانيته، ولات حينَ إيمان.
وافتتح هذا التهديد بالأمر بالقول اهتمامًا به وإلاّ فإنّ معظم ما في القرآن مأمور الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم.
وقد تتابع الأمر بالقول في الآيات بعد هذه إلى قوله: {لكلّ نبأ مستقرّ} [الأنعام: 67] اثنتي عشرة مرّة.
وورد نظيره في سورة يونس.
وقوله: {أرأيتكم} تركيب شهير الاستعمال، يفتتح بمثله الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به.
وهمزة الاستفهام فيه للاستفهام التقريري.
و(رأى) فيه بمعنى الظنّ.
يسند إلى تاء خطاب تلازم حالة واحدة ملازمة حركة واحدة، وهي الفتحة لا تختلف باختلاف عدد المخاطب وصنفه سواء كان مفردًا أو غيره، مذكّرًا أو غيره، ويجعل المفعول الأول في هذا التركيب غالبًا ضمير خطاب عائدًا إلى فاعل الرؤية القلبية ومستغنى به لبيان المراد بتاء الخطاب.
والمعنى أنّ المخاطب يعلم نفسه على الحالة المذكورة بعد ضمير الخطاب، فالمخاطب فاعل ومفعول باختلاف الاعتبار، فإنّ من خصائص أفعال باب الظنّ أنّه يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها واحدًا (وألحق بأفعال العلم فعلان: فقَد، وعَدِم في الدعاء نحو فقدتُني)، وتقع بعد الضمير المنصوب جملة في موضع مفعوله الثاني، وقد يجيء في تلك الجملة ما يعلق فعل الرؤية عن العمل.
هذا هو الوجه في تحليل هذا التركيب.
وبعض النحاة يجعل تلك الجملة سادّة مسدّ المفعولين تفصّيًا من جعل ضمائر الخطاب مفاعيل إذ يجعلونها مجرّد علامات خطاب لا محلّ لها من الإعراب، وذلك حفاظًا على متعارف قواعد النحو في الاستعمال الأصلي المتعارف مع أنّ لغرائب الاستعمال أحوالًا خاصّة لا ينبغي غضّ النظر عنها إلاّ إذا قصد بيان أصل الكلام أو عدم التشويش على المتعلّمين.
ولا يخفى أنّ ما ذهبوا إليه هو أشدّ غرابة وهو الجمع بين علامتي خطاب مختلفتين في الصورة ومرجعهما متَّحد.
وعلى الوجه الذي اخترناه فالمفعول الثاني في هذا التركيب هو جملة: {أغير الله تدعون}.
وإنّما تركت التاء على حالة واحدة لأنّه لمَّا جعلتْ ذاتُ الفاعل ذات المفعول إعرابًا وراموا أن يجعلوا هذا التركيب جاريًا مجرى المثل في كونه قليل الألفاظ وافر المعنى تجنّبوا ما يحدثه الجمع بين ضميري خطاب مرفوع ومنصوب من الثقل في نحو أرأيتما كُما، وأرأيتُمْكُم وأريْتُنُّكُنّ، ونحو ذلك، سلكوا هذه الطريقة الغريبة فاستغنوا بالاختلاف حالة الضمير الثاني عن اختلاف حالة الضمير الأول اختصارًا وتخفيفًا، وبذلك تأتَّى أن يكون هذا التركيب جاريًا مجرى المثل لما فيه من الإيجاز تسهيلًا لشيوع استعماله استعمالًا خاصًّا لا يغيّر عنه، فلذلك لا تكسر تلك التاء في خطاب المؤنّث ولا تضمّ في خطاب المثنّى والمجموع.
وعن الأخفش: أخرجت العرب هذا اللفظ من معناه بالكلية فألزمته الخطاب، وأخرجته عن موضوعه إلى معنى (أمّا) بفتح الهمزة، فجعلت الفاء بعده في بعض استعمالاته كقوله تعالى: {أرأيتَ إذْ أويْنَا إلى الصخرة فإنّي نسيت الحوت} [الكهف: 63] فما دخلت الفاء إلاّ وقد أخرجت (أرأيت) لمعنى (أمّا)؛ وأخرجته أيضًا إلى معنى (أخبرني) فلابد بعده من اسم المستخبر عنه؛ وتلزم الجملة بعد الاستفهام، وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرففِ الزمان.اهـ.
قال في الكشاف: متعلِّق الاستخبار محذوف، تقديره: إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون، ثم بكتهم بقوله: {أغير الله تدعون}، أي أتخصّون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها بل إيَّاه تدعون اهـ.
وقال ابن عاشور:
وجملة: {أغير الله تدعون} هي المفعول الثاني لفعل {أرأيتكم}.
واعلم أنّ هذا استعمال خاصّ بهذا التركيب الخاصّ الجاري مجرى المثل، فأمّا إذا أريد جريان فعل الرؤية العلمية على أصل بابه فإنَّه يجري على المتعارف في تعدية الفعل إلى فاعله ومفعوليه.
فمن قال لك: رأيتُني عالمًا بفلان.
فأردت التحقّق فيه تقول: أرأيتَك عالمًا بفلان.
وتقول للمثنّى: أرأيتماكما عالمين بفلان، وللجمع أرأيتُموكُم وللمؤنثة أرأيتِك بكسر التاء.
وقرأه نافع في المشهور بتسهيل الهمزة ألفًا؛ وعنه رواية بجعلها بين الهمزة والألف.
وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي هي عين الكلمة، فيقول: {أرَيْت} وهي لغة.
وقرأه الباقون بتحقيق الهمزة.
وجملة: {إن أتاكم عذاب الله} إلخ معترضة بني مفعولي فعل الرؤية، وهي جملة شرطية حذف جوابها لدلالة جملة المفعول الثاني عليه.
وإتيان العذاب: حلوله وحصوله، فهو مجاز لأن حقيقة الإتيان المجيء، وهو الانتقال من موضع بعيد إلى الموضع الذي استقر فيه مفعول الإتيان، فيطلق مجازًا على حصول شيء لم يكن حاصلًا.
وكذلك القول في إتيان الساعة سواء.
ووجه إعادة فعل {أتتكم الساعة} مع كون حرف العطف مغنيًا عن إعادة العامل بأن يقال: إن أتاكم عذاب الله أو الساعة، هو ما يوجَّه به الإظهار في مقام الإضمار من إرادة الاهتمام بالمُظْهَر بحيث يعاد لفظه الصريح لأنّه أقوى استقرارًا في ذهن السامع.
والاهتمام هنا دعا إليه التهويل وإدخال الروع في ضمير السامع بأن يصرّح بإسناد هذا الإتيان لاسم المسند إليه الدّالّ على أمر مهول ليدلّ تعلّق هذا الفعل بالمفعول على تهويله وإراعته.
وقد استشعر الاحتياجَ إلى توجيه إعادة الفعل هنا الشيخ محمد بن عَرفة في درس تفسيره، ولكنَّه وجّهه بأنَّه إذا كان العاملان متفاوتين في المعنى لكون أحدهما أشدّ يعاد العامل بعد حرف العطف إشعارًا بالتفاوت، فإنّ إتيان العذاب أشدّ من إتيان الساعة (أي بناء على أنّ المراد بعذاب الله عذاب الآخرة) أو كان العاملان متباعدين، فإن أريد بالساعة القيامة وبعذاب الله المحْقُ والرزايا في الدنيا فيعقبه بعد مهلة تامَّة.
وإن أريد بالساعة المدّة فالمحق الدنيوي كثير، منه متقدّم ومنه متأخِّر إلى الموت، فالتقدّم ظاهر اهـ.
وقال ابن عاشور:
وفي توجيهه نظر إذ لا يشهد له الاستعمال.
وإضافة العذاب إلى اسم الجلالة لتهويله لصدوره من أقدر القادرين.
والمراد عذاب يحصل في الدنيا يضرعون إلى الله لرفعه عنهم بدليل قوله: {أغير الله تدعون}، فإنّ الدعاء لا يكون بطلب رفع عذاب الجزاء.
وهذا تهديد وإنذار.
والساعة: علَم بالغلبة على ساعة انقراض الدنيا، أي إن أدركتْكم الساعة.
وتقديم {أغير الله} على عامله وهو {تدعون} لتكون الجملة المستفهم عنها جملة قصر، أي أتعرضون عن دعاء الله فتدعون غيره دونه كما هو دأبكم الآن، فالقصر لحكاية حالهم لا لقصد الردّ على الغير.
وقد دلّ الكلام على التعجّب، أي تستمرّون على هذه الحال.
والكلام زيادة في الإنذار.
وجمل: ة {إن كنتم صادقين} مستأنفة، وجوابها محذوف دلّ عليه قوله: {أرأيتكم} الذي هو بمعنى التقرير.
فتقدير الجواب: إن كنتم صادقين فأنتم مقرّون بأنَّكم لا تدعون غير الله.
ذَكّرهم في هذه الآية وألجأهم إلى النظر ليعلموا أنّه إذا أراد الله عذابهم لا تستطيع آلهتهم دفعه عنهم، فهم إن توخّوا الصدق في الخبر عن هذا المستقبل أعادوا التأمّل فلا يسعهم إلاّ الاعتراف بأنّ الله إذا شاء شيئًا لا يدفعه غيرُه إلاّ بمشيئته، لأنّهم يعترفون بأنّ الأصنام إنَّما تقرّبهم إلى الله زلفى، فإذا صدقوا وقالوا: أندعوا الله، فقد قامت الحجّة عليهم من الآن لأنّ من لا يغني في بعض الشدائد لا ينبغي الاعتماد عليه في بعض آخر.
ولذلك كان موقع {بَل إيّاه تدعون} عقب هذا الاستفهام موقع النتيجة للاستدلال. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين}، ثم قال بعد: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم} ثم قال بعد: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون} وفى سورة يونس: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون} ففى هذه الآى الأربع أربعة أسئلة: الأول ما وجه التكرار في الواردة في سورة الأنعام؟ والثانى: ما وجه اختصاص بعضها يتأكيد الخطاب الحاصل من الضمير بالإتيان بالأداة بعد في قوله: {قل أرأيتم} وسقوط ذلك من بعضها؟.