فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي أنكروا ما عظوا وأمروا به {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي بدلناهم مكان البلاء والشدة بالرخاء في العيش والصحة في الأبدان {حتى إِذَا فَرِحُواْ} أعجبوا {بِمَا أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} فجأة امن ما كانوا بالعجب ما كانت الدنيا لهم، {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} يئسون من كل خير.
قال السدي: هالكون، ابن كيسان: خاضعون، وقال الحسن: منصتون.
وقرأ عبد الرحمن السلمي: مبلسون بفتح اللام مفعولا بهم أي مؤيسون. وأصل الإبلاس الإطراق من الحزن والندم.
وقال مجاهد: الإبلاس الفضيحة. وقال: ابن زيد المبلس الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه.
قال جعفر الصادق: فلما نسوا ما ذكروا به من التعظيم فتحنا عليهم أبواب كل شيء من النعم حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الترفيه والتنعيم جاءتهم بغتة إلى سوء الجحيم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكَّرُوا بِهِ} معنى ذلك أنهم تركوا ما ذَكَّرَهُم الله من آياته الدالة على توحيده وصدق رسوله.
{فَتَحْنَا عَلَيْهِمُ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} يعني من نِعَمِ الدنيا وسَعَة الرزق.
وفي إنعامه عليهم مع كفرهم وجهان:
أحدهما: ليكون إنعامه عليهم داعيًا إلى إيمانهم. والثاني: ليكون استدراجًا وبلوى، وقد روى ابن لهيعة بإسناده عن عقبة ابن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّه يعِطي العِبَادَ مَا يَشَاءُونَ عَلَى مَعَاصِيهِم إِيَّاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ» ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابِ كُلِّ شَيْءٍ}.
{حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} يعني من النِّعَمْ فلم يؤمنوا.
{أَخَذَنَاهُم بَغْتَةً} يحتمل وجهين.
أحدهما: أنه تعجيل العذاب المُهْلِك جزاء لأمرين.
أحدهما: لكفرهم به.
والثاني: لكفرهم بنِعَمِهِ.
والوجه الثاني: هو سرعة الموت عند الغفلة عنه بالنِّعَمِ قَطْعًا للذة، وتعذيبًا للحسرة.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} وفيه خمسة تأويلات:
أحدها: أن الإِبلاس: الإِياس قال عدي بن زيد:
ملك إذا حل العفاة ببابه ** غبطوا وأنجح منهم المستبلس

يعني الآيس.
والثاني: أنه الحزن والندم.
والثالث: الخشوع.
والرابع: الخذلان.
والخامس: السكوت وانقطاع الحجة، ومنه قول العجاج:
يا صاح هل تعرف رسمًا مكرسًا ** قال نعم أعرفه وأبلسا

. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} يُقال: لِم ذمّوا على النسيان وليس من فعلهم؟ فالجواب أنّ {نَسُوا} بمعنى تركوا ما ذكّروا به، عن ابن عباس وابن جُرَيْج، وهو قول أبي عليّ؛ وذلك لأن التارك للشيء إعراضًا عنه قد صيره بمنزلة ما قد نسِي، كما يُقال: تركه.
في النِّسْي.
جواب آخر وهو أنهم تعرّضوا للنّسيان فجاز الذمّ لذلك؛ كما جاز الذمّ على التعرّض لسخط الله عزّ وجلّ وعقابه.
ومعنى {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي من النعم والخيرات، أي كثرنا لهم ذلك.
والتقدير عند أهل العربية: فتحنا عليهم أبواب كل شيء كان مغلقًا عنهم.
{حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أوتوا} معناه بَطَروا وأشِروا وأعجِبوا وظنّوا أن ذلك العطاء لا يَبِيد، وأنه دال على رضاء الله عزّ وجلّ عنهم {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} أي استأصلناهم وسطونا بهم.
و{بَغْتَةً} معناه فجأة، وهي الأخذ على غِرّة ومن غير تقدّم أمارة؛ فإذا أخذ الإنسان وهو غارٌّ غافل فقد أُخِذ بغتةً، وأنكى شيءٍ ما يَفْجأُ من البَغْت.
وقد قيل: إن التذكير الذي سلف فأعرضوا عنه قام مقام الأمارة. والله أعلم.
و{بَغْتَةً} مصدر في موضع الحال لا يُقاس عليه عند سيبويه كما تقدّم؛ فكان ذلك استدراجا من الله تعالى كما قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 45] نعوذ بالله من سخطه ومكره.
قال بعض العلماء: رحم الله عبدًا تدبر هذه الآية: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}.
وقال محمد بن النَّضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة.
وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم» ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} الآية كلها.
وقال الحسن: والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلاَّ كان قد نقص عمله، وعجز رأيه.
وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خيرٌ له فيها إلاَّ كان قد نقص عمله، وعجز رأيه.
وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت الفقر مقبلًا إليك فقل مرحبًا بشِعار الصالحين وإذا رأيت الغِنى مقبلًا إليك فقل ذنب عُجّلت عقوبته».
قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} المبلس الباهت الحزين الآيس من الخير الذي لا يُحير جوابًا لشدّة ما نزل به من سوء الحال؛ قال العجاج:
يَا صاحِ هل تَعرفُ رَسْمًا مُكْرَسًا ** قال نَعَمْ أعرفُه وأَبْلَسَا

أي تحيّر لهول ما رأى، ومن ذلك اشتق اسم إبليس؛ أْبْلَس الرجلُ سَكَت، وأَبْلَسَت الناقةُ وهي مِبْلاَسٌ إذا لم تَرْغُ من شدّة الضّبَعة؛ ضَبِعتِ الناقةُ تَضْبَع ضَبَعَةً وَضَبْعًا إذا أرادت الفحل. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} أي فلما تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس استدرجناهم بتيسير مطالبهم الدنيوية وعبر عن ذلك بقوله: {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} إذ يقتضي شمول الخيرات وبلوغ الطلبات.
{حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة} معنى هذه الجمل معنى قوله: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا} وفي الحديث الصحيح عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم» ثم تلا {فلما نسوا ما ذكروا به} الآية، والأبواب استعارة عن الأسباب التي هيأها الله لهم المقتضية لبسط الرزق عليهم والإبهام في هذا العموم لتهويل ما فتح عليهم وتعظيمه وغيا الفتح بفرحهم بما أوتوا وترتب على فرحهم أخذهم بغتة أي إهلاكهم فجأة وهو أشد الإهلاك إذ لم يتقدم شعور به فتتوطن النفس على لقائه، ابتلاهم أولًا بالبأساء والضراء فلم يتعظوا ثم نقلهم إلى ما أوجب سرورهم من إسباغ النعم عليهم فلم يجد ذلك عندهم ولا قصدوا الشكر ولا أصغوا إلى إنابة بل لم يحصلوا إلا على فرح بما أسبغ عليهم.
قال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة.
{فإذا هم مبلسون} أي باهتون بائسون لا يخبرون جوابًا.
وقرأ ابن عامر فتحنا بتشديد التاء والتشديد لتكثير الفعل وإذا هي الفجائية وهي حرف على مذهب الكوفيين وظرف مكان، ونسب إلى سيبويه وظرف زمان وهو مذهب الرياشي والعامل فيها إذا قلنا بظرفيتها هو خبر المبتدإ أي، ففي ذلك المكان {هم مبلسون} أي مكان إقامتهم وذلك الزمان {هم مبلسون} وأصل الإبلاس الإطراق لحلول نقمة أو زوال نعمة.
قال الحسن: مكتئبون.
وقال السدي: هالكون.
وقال ابن كيسان وقطرب: خاشعون.
وقال ابن عباس: متحيرون.
وقال الزجاج: متحسرون.
وقال ابن جرير: الساكت عند انقطاع الحجة. اهـ.

.قال ابن كثير:

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي: أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم، عياذا بالله من مكره؛ ولهذا قال: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} أي: من الأموال والأولاد والأرزاق {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} أي: على غفلة {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} أي: آيسون من كل خير.
قال الوالبي، عن ابن عباس: المبلس: الآيس.
وقال الحسن البصري: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به، فلا رأي له. ومن قَتَر عليه فلم ير أنه ينظر له، فلا رأي له، ثم قرأ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة؛ أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. رواه ابن أبي حاتم.
وقال قتادة: بَغَت القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعيمهم فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. رواه ابن أبي حاتم أيضًا.
وقال مالك، عن الزهري: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} قال: إرخاء الدنيا وسترها.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غَيْلان، حدثنا رِشْدِين- يعني ابن سعد أبا الحجاج المهري- عن حَرْمَلَة بن عمران التُّجِيبي، عن عُقْبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يُعْطِي العبدَ من الدنيا على مَعاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو اسْتِدْرَاج». ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث حَرْمَلة وابن لَهِيعة، عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر، به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عِرَاك بن خالد بن يزيد، حدثني أبي، عن إبراهيم بن أبي عَبْلة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الله تبارك وتعالى إذا أراد الله بقوم بقاء- أو: نماء- رزقهم القصد والعفاف، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعًا فتح لهم- أو فتح عليهم- باب خيانة». اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} عطفٌ على مقدَّر ينساق إليه النظمُ الكريم أي فانهمَكوا فيه ونسُوا ما ذُكَّروا به من البأساء والضّراء، فلما نسوه {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شيء} من فنون النَّعْماء على منهاج الاستدراج، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «مُكِر بالقوم ورب الكعبة» وقرئ {فتّحنا} بالتشديد للتكثير وفي ترتيب الفتح على النسيان المذكور إشعارٌ بأن التذكر في الجملة غير خالٍ عن النفع، و{حتى} في قوله تعالى: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} هي التي يُبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الشرطية كما في قوله تعالى: {حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا} الآية ونظائرِه، وهي مع ذلك غاية لقوله تعالى: {فَتَحْنَا} أو لما يدل هم عليه كأنه قيل: ففعلوا ما فعلوا حتى إذا اطمأنوا بما أتيح لهم وبطِروا وأشِروا {أخذناهم بَغْتَةً} أي نزل بهم عذابنا فجأةً ليكون أشدَّ عليهم وقعًا وأفظع هولًا {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} متحسِّرون غاية الحسرة آيسون من كل خير، واجمون، وفي الجملة الاسمية دلالة على استقرارهم على تلك الحالة الفظيعة. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} أي تركوا ما دعاهم الرسل عليهم الصلاة والسلام إليه وردوه عليهم ولم يتعظوا به كما روي عن ابن جريج، وقيل: المراد أنهم انهمكوا في معاصيهم ولم يتعظوا بما نالهم من البأساء والضراء فلما لم يتعظوا {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شيء} من النعم الكثيرة كالرخاء وسعة الرزق مكرًا بهم واستدراجًا لهم.
فقد روى أحمد والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا: «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَلَمَّا نَسُواْ} الآية وما بعدها» وروي عن الحسن أنه لما سمع الآية قال: «مكر بالقوم ورب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا» وقيل: المراد فتحنا عليهم ذلك إلزامًا للحجة وإزاحة للعلة، والظاهر أن {فَتَحْنَا} جواب (لما) لأن فيها سواء قيل بحرفيتها أو اسميتها معنى الشرط.
واستشكل ذلك بأنه لا يظهر وجه سببية النسيان لفتح أبواب الخير.
وأجيب بأن النسيان سبب للاستدراج المتوقف على فتح أبواب الخير، وسببية شيء لآخر تستلزم سببيته لما يتوقف عليه أو يقال: إن الجواب ما ذكر باعتبار ماله ومحصله وهو ألزمناهم الحجة ونحوه وتسببه عنه ظاهر، وقيل: إنه مسبب عنه باعتبار غايته وهو أخذهم بغتة.