فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)}.
التفسير: لما بين أن إنزال سائر المعجزات لو كان مصلحة لهم لفعل ذلك، أكده بما يؤذن أن آثار فضله وإحسانه ولطفه وامتنانه واصلة إلى جميع الحيوانات، فلو كانت مصلحة المكلفين في إظهار تلك المعجزات القاهرة الملجئة لم يخل بذلك ألبتة، وفيه أيضًا مزيد تقرير لأمر البعث وأنه حاصل لجميع الحيوان فضلًا عن الإنسان. فإن الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير. وإنما خص من الدواب ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء أو في الماء، لأن رعاية مصالح الأدون تستلزم رعاية مصالح الأشرف، ويمكن أن يقال: إن الماء أيضًا من جملة الأرض لأنهما جميعًا ككرة واحدة. قال علماء المعاني: إنما وصف الدابة بكونها في الأرض والطائر بجناحيه ليعلم أنهما باقيان على عمومهما إذ بينهما بخواص الجنسين، ولولا ذلك لاحتمل أن يقدّر فيهما صفة نحو ترتع أو تصيد فتخصصا، أو لأوهم أن المراد بهما غير الجنسين المتعارفين لقوله بعده {إلا أمم أمثالكم} وقد يقول الرجل لعبده طِرْ في حاجتي والمراد الإسراع. قال الحماسي:
طاروا إليه زرافات ووحدانا

وقيل: ذكر {يطير بجناحيه} ليخرج عنه الملائكة ذوو الأجنحة، فإن المراد ذكر من هو أدون حالًا. وقيل: إن الوصف للتأكيد كقولهم: نعجة أنثى. وكما يقال: مشيت إليه برجلي. وإنما جمع الأمم مع أنه أفرد الدابة والطائر، لأن النكرة المستغرقة في معنى الجمع. قال الفراء: كل صنف من البهائم أمة.
وفي الحديث: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» ثم ما وجه المماثلة بين البشر والدابة والطائر؟ نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال: يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني كقوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44] {كل قد علم صلاته وتسبيحه} [النور: 41] وعن أبي الدرداء: أبهمت عقول البهائم إلا عن معرفة الإله وطلب الرزق. ومعرفة الذكر والأنثى. وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين. وقيل: وجه المماثلة كونها جماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضًا ويأنس بعضها ببعض ويتوالد بعضها من بعض.
وضعف بأن هذا أمر معلوم مشاهد لا فائدة في الإخبار عنه. وقيل: هو أنه دبرها وخلقها وتكفل برزقها وأحصى أحوالها وما يجري عليها من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة. دليله قوله عقيبه {ما فرطنا في الكتاب من شيء}. وقيل: هو أنها تحشر يوم القيامة ويوصل إليها حقوقها وقد جاء في الحديث: «يقتص للجماء من القرناء» ولكن قوله بعد ذلك {ثم إلى ربهم يحشرون} يصير كالمكرر. وعن سفيان بن عيينة: ما في الأرض من آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم. فمنهم من يقدم إقدام الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوّس كفعال الطاووس، ومنهم من يشبه الخنزير لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام عن رجيعه لعب فيه، وكذلك نجد من الأدميين من يسمع خمسين كلمة من الحكمة لا يحفظ واحدة وإن أخطأت مرة واحدة حفظها، ولم يجلس مجلسًا إلا زاد فيه. واعلم يا أخي أنك تعاشر البهائم والسباع فبالغ في الحذر والاحتراز. وذهب أهل التناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة موسومة بالأخلاق الفاضلة فإنها بعد موتها تنتقل إلى أبدان الملوك، وربما قالوا إنها تصل إلى مخالطة عالم الملائكة. وإن كانت شقية جاهلة فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات، وكلما كانت أكثر شقاء فإنها تنتقل إلى بدن حيوان أخس وأكثر تعبًا وعناء. قالوا: وذلك لأن لفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية. ثم زعموا أن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولًا من جنسها لقوله: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24] واستشهدوا بقصة النمل وحديث الهدهد ونحو ذلك. وفي تعداد مذاهب أرباب التناسخ طول والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. {ما فرطنا في الكتاب من شيء} {من} مزيدة للاستغراق أي ما تركنا وما أغفلنا شيئًا قط. وقيل: للتبعيض أي ما أهملنا فيه بعض شيء يحتاج المكلف إلى معرفته. والكتاب اللوح المحفوظ المشتمل على جميع أحوال العالم على التفصيل. وقيل: القرآن لأنه هو الذي تسبق إليه الأذهان فيما بين أهل الإيمان، وأورد عليه أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب والحساب ولا تفاصيل كثير من العلوم ولا حاصل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع. وأجيب بأن لفظ التفريط لا يستعمل إلا فيما يجب أن يفعل، والمحتاج إليه إنما هو الأصول والقوانين لا الفروع التي لا تضبط ولا تتناهى. وما من علم إلا وفي القرآن أصله ومنه شرفه وفضله كقوله: {كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31] للطب. وقوله: {وهو أسرع الحاسبين} [الأنعام: 62] للحساب. وكقوله: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعرف: 199] للأخلاق. وأما تفاصيل علم الفروع فذكر العلماء أن السنة والإجماع والقياس كلها مستندة إلى الكتاب كقوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] وكقوله: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 115] وكقوله: {فاعتبروا} [الحشر: 2] وقيل: إن القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام، لأن الأصل براءة الذمة عن التكاليف كلها وشغل الذمة لابد فيه من دليل منفصل، وكل حكم لم يكن مذكورًا في القرآن بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام لم يكن ذلك تكليفًا أو يكون باقيًا على أصل الإباحة والله تعالى أعلم. أما قوله: {ثم إلى ربهم يحشرون} فللعقلاء فيه قولان: الأوّل قول الأشاعرة إنه تعالى يحشر الدواب والطيور لا لأن إيصال العوض إليهن واجب بل مجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية. الثاني قول المعتزلة لن يحشر الطيور والبهائم إلا لإيصال الأعواض إليها، لأن إيصال الآلام إليها من غير سبق جناية لا يحسن إلا للعوض. وفرع القاضي على ذلك فقال: كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا فإنه يجب على الله تعالى حشره في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض، والذي لا يكون كذلك لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلًا إلا أن السمع ورد بحشر الكل فيقطع بذلك. فرع آخر: كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض له على الله تعالى، وكذا الذي أذن في قتله في كونه مؤذيًا أو ألمه بمرض أو سخره للإنسان لأجل حمل الاثقال، وأما إذا ظلمها الناس فالعوض على الظالم، وكذا إذا ظلم بعضها بعضًا، ولو ذبح المأكول لغير مأكله. فالعوض على الذابح ولهذا ورد النهى عن ذبح الحيوان لغير مأكله والمراد من العوض منافع عظيمة بلغت في الجلالة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل إلى تحصيل تلك المنافع إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح لرضيت به. فرع آخر: مذهب القاضي وأكثر المعتزلة أن العوض منقطع وبعد ذلك تصير ترابًا وحينئذ {يقول الكافر يا ليتني كنت ترابًا} [النبأ: 40] وقال أبو القاسم البلخي: يجب دوام العوض لأنه لا يمكن قطع ذلك العوض إلا بإماتة تلك البهيمة، وإماتتها توجب الألم، وذلك الألم يوجب عوضًا آخر وهلم جرًا إلى ما لا نهاية له. وأجيب بالمنع من أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا بالإيلام. فرع آخر: البهيمة إذا استحقت عوضًا على بهيمة أخرى: فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضًا على الله تعالى فإنه تعالى يوصل ذلك العوض إلى المظلوم وإلا فإنه تعالى يتكفل بذلك العوض، وهذا القدر يكفي في أحكام الأعواض بحسب المقام وهو سبحانه أعلم. ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما ينادي على عظمته ويشهد لربوبيته وينبه على رحمته الكاملة وعنايته الشاملة قال: {والذين كذبوا بآياتنا صم} لا يسمعون كلام الله البتة {وبكم} لا ينطقون بالحق خابطون {في الظلمات} ظلمة الكفر وظلمة الشكوك وظلمة الحيرة والضلالة.
ثم بين أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان كلها بمشيئته وإرادته وتسخيره وتدبيره فقال: {من يشأ الله يضلله ومن يِشأ يجعله على صراط مستقيم} والجبائي أوّل الآية بأن المراد أنهم كذلك في الآخرة كقوله: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا} [الإسراء: 97] وأنهم شبهوا بمن حاله كذا، أو هو محمول على الشتم والإهانة، وأما قوله: {من يشأ الله يضلله} أي عن طريق الجنة ولا يشاء الإضلال إلا لمن يستحق عقوبته كما أنه لا يشاء الهدي إلا للمؤمنين. أو المراد بالإضلال منع الألطاف لأنهم ليسوا من أهلها وبالهداية منحها لأنهم من أهلها. ثم بين غاية جهالة الكفار وأنهم مع جحودهم يفزعون إلى الله في البليات فقال: {قل أرأيتكم} هو منقول من رأيت بمعنى أبصرت أو عرفت كأنه قيل: أبصرته وشاهدت حاله العجيبة أو أعرفتها أخبرني عنها فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة بشيء. فهذا من باب إيقاع السبب على المسبب لأن الإخبار إنما يكون بعد المشاهدة أو العرفان. أما إعرابه فالتاء ضمير الفاعل، والكاف للخطاب. فالتاء يكون بلفظ واحد في التثنية والجمع والتأنيث. وتختلف هذه المعاني على الكاف نحو: أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم أرأيتكن. والتاء في جميع ذلك مفتوحة والكاف حرف خطاب وليست اسمًا وإلا لكانت إما مجرورة ولا جار، وإما مرفوعة وليست الكاف من ضمائر المرفوع ولا رافع أيضًا لأن التاء فاعل ولا يكون لفعل فاعلان، وإما منصوبة وهو باطل من وجوه: أحدها أن هذا الفعل قد يتعدى إلى مفعولين نحو أرأيتك زيدًا ما شأنه. فلو جعلت الكاف مفعولًا لكان ثالثًا. وثانيها لو كان مفعولًا لكان هو الثاني في المعنى وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك ولذلك قلت: أرأيتك زيدًا، وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه. وثالثها لو كان منصوبًا على أنه مفعول لظهرت علامة التثنية والجمع والتأنيث في التاء نحو:
أرأيتماكما وأرأيتموكم وأرأيتموكن. وقد ذهب الفراء إلى أنه اسم مضمر منصوب في معنى المرفوع ويجوز تصريف التاء. فأما مفعولا أرأيت في الآية فقيل: هما محذوفان تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم عند مجيء الساعة؟ ودل عليه قوله: {أغير الله تدعون} وقيل: لا يحتاج هاهنا إلى المفعول لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وأما جواب الشرط فما دل عليه الاستفهام في قوله: {أغير الله} تقديره أرأيتكم الساعة دعوتم الله وحاصل الآية قل يا محمد لهؤلاء الكفار أرأيتكم إن أتاكم العذاب في الدنيا أو عند قيام الساعة، أتخصون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها {بل إياه تدعون} بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة فيكشف ما تدعونه إلى كشفه إن شاء لأن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين.
وعلى هذا يكون قوله: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] باقيًا على إطلاقه لكن في الدنيا، ولو علقت المشيئة بكشف العذاب في الدنيا كان قوله: {ادعوني أستجب} [غافر: 60] أيضًا مقيدًا بالمشيئة {وتنسون ما تشركون} قال ابن عباس: تتركون الأصنام ولا تدعونها لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع، ويجوز أن يراد لا تذكرون الأصنام في ذلك الوقت لأن أذهانكم مغمورة بذكر الله وحده، والمقصود من الآية تبكيت الكفار كأنه قيل: إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله تعالى لا إلى الأصنام فلم تقدمون عبادتها؟ وفيه أن مبنى الدين على الحجة والدليل لا على محض التقليد.
ثم سلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن أعلمه أنه قد أرسل قبله إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا وأصروا على كفرهم خلاف الأقوام المذكورين الذين يفزعون إلى الله في الشدائد. ويحتمل أن يقال: إن حكم الطائفتين واحد لأن التضرع واللجأ إلى الله إزالة البلية لا على سبيل الإخلاص غير معتبر. وفي الآية محذوف تقديره: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلًا} فخالفوهم {فأخذناهم بالبأساء والضراء} وحسن الحذف لكونه مفهومًا. والبأساء والضراء البؤس والضر. أو البأساء القحط والجوع، والضراء الأمراض والأوجاع والرزايا {لعلهم يتضرعون} يتذللون ويتخشعون وأصله الانقياد وترك التمرد. ضرع الرجل ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف. احتج الجبائي بالآية على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم وسلط هذه البأساء والضراء عليهم إرادة أن يتضرعوا ويؤمنوا، فهو يريد الإيمان والطاعة من الكل. وأجيب بأن الترجي في حقه تعالى محال فإنهم يحملونه على الإرادة، ونحن نحمله على أنه تعالى يعاملهم معاملة المترجي. فالترجيح على أن الفسق وتزيين الشيطان وكل ما يفرضونه لابد أن ينتهي إلى خلق الله وتكوينه. أما قوله: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} فمعناه نفي التضرع كأنه قيل: فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. ولكنه جاء بلولا التحضيضية ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا العناد والقسوة والإعجاب، ثم بين أنه لما لم ينجع فيهم المواعظ والزواجر نقلهم من البأساء والضراء إلى الراحة والرخاء ففتح أبواب الخيرات عليهم وسهل موجبات المسرات لديهم كما يفعله الأب المشفق لولده، يخاشنه تارة ويلاينه أخرى. ومعنى {كل شيء} أي كل شيء كان مغلقًا عنهم من الخير {حتى إذا فرحوا بما أوتوا} أي ظنوا أن ذلك باستحقاقهم ولم يزيدوا إلا بطرًا وترفهًا {أخذناهم بغتة} قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت الله يعطي العاصي فإن ذلك استدراج من الله تعالى» قال العلماء: وإنما أخذوا في حال الراحة والرخاء ليكون أشد لتحسرهم على ما فات من السلامة والعطاء {فإذا هم مبلسون} آيسون من كل خير.
وقال الفراء: المبلس الذي انقطع رجاؤه. ويقال للذي سكت عند انقطاع حجته قد أبلس. وقال الزجاج: المبلس الشديد الحسرة الحزين. وإذا هاهنا للمفاجأة وهي ظرف مكان وهم مبتدأ و{مبلسون} خبره وهو العامل في إذا {فقطع دابر القوم} الدابر للشيء من خلفه كالولد للوالد. دبر فلان القوم يدبرهم دبورًا ودبرًا إذا كان أخرهم. أبو عبيدة: دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم. الاصمعي: منهم أحدًا واستأصلهم لأن ذلك جارٍ مجرى النعمة على أولئك الرسل، أو على أولئك الهالكين كيلا يزيدوا كفرًا وعنادًا فيزدادوا عذابًا وعقابًا، أو حمد على ما أنعم عليهم قبل ذلك وهو أن كلفهم وأزال عنهم الأعذار والعلل وبعث الأنبياء والرسل وأخذهم بالبأساء. والضراء ثم نقلهم إلى الآلاء والنعماء إلا أنهم لم يزدادوا إلا انهماكًا في الغي والضلال فطهر وجه الأرض من شركهم. وفيه إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك كل ظالم فإن ذلك من جملة آلاء الله سبحانه، ثم عاد إلى الدلالة على وجود الصانع الحكيم المختار وبيان وحدته جل جلاله فقال: {قل أرأيتم إن أخذ الله} وتقرير ذلك أن أشرف أعضاء الإنسان هو السمع والبصر والقلب كما عدّدنا منافعها في أوائل الكتاب، ولا ريب أن القادر على تحصيل قواها فيه وصرفها عن الآفات والمخافات ليس إلا الله وحده، ومعنى أخذ السمع والبصر تعطيل منافعهما، ومعنى الختم على القلب إزالة العقل حتى يصير كالمجانين. قال ابن عباس: إنه الطبع أو الإماتة حتى لا يعقل الهدى والصلاح {يأتيكم به} أي بذلك الذي أخذ من السمع والبصر والقلب، فوضع الضمير موضع اسم الإشارة بناء على أن الضمير المذكور بحكم الاستعمال يلزم أن يكون لذي عقل ولو فرضًا. والأحسن أن يقال: إنه ذكر أشياء متعددة فوجب أن يعود الضمير إلى جميعها مؤنثًا إذ لا ترجيح، وحيث لم يكن الضمير مؤنثًا علم أنه أراد المذكور مطلقًا فتعين أم يشار إليه بذلك. ثم إنه أقام الضمير المذكور مقامه أو يعود إلى ما أخذ وختم عليه وصح من غير التكلف المذكور بحكم التغليب {انظر} يا محمدًا وكل من له أهلية النظر {كيف نصرف الآيات} نوردها على الوجوه المختلفة المتكاثرة بحيث يكون كل واحد منها يقوّي ما قبله في الإيصال إلى المطلوب. ومعنى ثم التفاوت بين الحالين و{يصدفون} أي يعرضون. ويقال: امرأة صدوف للتي تعرض وجهها عليك ثم تصدف أي تعرض. والصدف ميل في الحافر إلى الشق الوحشي. وصدف الدرة غشاؤها لميل فيه، قال الكعبي: لو خلق الله فيهم الإعراض والصد لم ينكر ذلك عليهم. وقالت الأشاعرة: لولا منع الله تعالى لنجع فيهم الدلائل القاطعة للأعذار.
ثم عمم الدليل بقوله: {قل أرأيتكم إن أتاكم} والمعنى أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحان فوجب أن لا يكون معبودًا إلا هو. ثم العذاب المفروض إما أن يجيء من غير سبق أمارة تدل على ذلك وهو البغتة وأكثر ما يكون ذلك بالليل، أو مع سبق أمارة وهو الجهرة وأكثره بالنهار ولهذا قال الحسن: معناه ليلًا أو نهارًا. أما قوله: {هل يهلك إلا القوم الظالمون} أي لا يهلك مع قوله: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} فمعناه أن الهلاك بالحقيقة وهو هلاك التعذيب والسخط مختص بالظالمين الأشرار لأن الأخيار وإن عمهم العذاب إلا أنهم يستفيدون بذلك ثوابًا جزيلًا، فهو لهم بلاء في الظاهر وآلاء في الحقيقة خلاف الظلمة فإنهم يخسرون الدنيا والآخرة ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أمر المؤمن خير كله إن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له» واعلم أنه ذكر هاهنا {أرأيتكم} مرتين فزاد خطابًا واحدًا، لأن عذاب الاستئصال ما عليه من مزيد فناسب زيادة الخطاب لأجل التأكيد، وفيما بينهما قال: {أرأيتم} حيث لم يكن كذلك، وكذلك في يونس، ثم ذكر أن الأنبياء والرسل بعثوا للتبشير والإنذار فقط ولا قدرة لهم على إظهار الآيات. وإنزال المعجزات التي اقترحوها في قوله: {وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه} وأن ذلك مفوّض إلى مشيئة الله وحكمته فقال: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين} بالثواب على الطاعات {ومنذرين} بالعقاب على المعاصي. فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو من أفعال القلب والعمل الصالح الذي هو من أفعال البدن {فلا خوف عليهم والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب} ومعنى المس التقاء الشيئين من غير فصل. قال في الكشاف: جعل العذبا ماسًا كأنه حي يفعل بهم ما يرد من الآلام وفيه نظر، لأن المس ليس من خواص الأحياء، نعم إنه من خواص الأجسام، فلو ادعيت المبالغة من هذا الوجه لم يكن بعيدًا. قال القاضي: إنه علل عذاب الكافرين بكونهم فاسقين فيكون كل فاسق كافرًا. وأقول: هذا من باب إيهام العكس ولا يلزم العكس، فإن كل كافر فاسق ولا يلزم العكس.