فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ} تبيين للحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لاتباعه إياه إثر إبطال الباطل الذي فيه الكفرة وبيان عدم اتباعه عليه الصلاة والسلام له في وقت من الأوقات.
والبينة كما قال الراغب الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من البينونة أي الانفصال، وأيًا ما كان فالمراد بها القرآن كما قال الجبائي وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد إني على يقين.
وعن الحسن أن المراد بها النبوة وهو غير ظاهر كتفسيرها بالحجج العقلية أو ما يعمها، والتنوين للتفخيم أي بينة جليلة الشأن.
{مّن رَّبّى} أي كائنة من جهته سبحانه.
ووصفها بذلك لتأكيد ما أفاده التنوين.
وجوز أن تكون {مِنْ} اتصالية، وفي الكلام مضاف أي بينة متصلة بمعرفة ربي، وقيل: هي أجلية متعلقة بما تعلق به الخبر ويقدر المضاف أيضًا أي كائن على بينة لأجل معرفة ربي والأول أظهر، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريف ورفع المنزلة ما لا يخفى.
وقوله سبحانه: {وَكَذَّبْتُم بِهِ} كما قال أبو البقاء جملة إما مستأنفة أو حالية بتقدير قد في المشهور جيء بها لاستقباح مضمونها واستبعاد وقوعه مع تحقق ما يقتضي عدمه أو للتفرقة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم، والضمير للبينة، والتذكير باعتبار المعنى المراد، وقال الزجاج: لأنها بمعنى البيان، وجوز أن يكون الضمير لربي على معنى إن صدقت به ووحدته وأنتم كذبتم به وأشركتم.
وقوله تعالى: {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بالقرآن وهو عدم مجيء ما وعد فيه من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم بطريق الاستهزاء أو الإلزام بزعمهم {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} [يونس: 48] وقال الإمام: إنه عليه الصلاة والسلام كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك، والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك (العذاب) فقال لهم: {مَا عِندِى} إلخ وكأن الكلام مبين أيضًا لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لعدم الالتفات إلى نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عنه والإخبار بنزول العذاب بسببه أي ليس عندي ما يستعجلونه من العذاب الموعود به وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيب القرآن أو عدم الالتفات إلى النهي عنه والوعيد عليه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به أي ليس أمره مفوضًا إليّ.
{إِنِ الحكم} أي ما الحكم في تأخير ذلك {أَلاَ لِلَّهِ} وحده من غير أن يكون لغيره سبحانه دخل ما فيه بوجه من الوجوه.
واختار بعضهم التعميم في متعلق الحكم أي ما الحكم في ذلك تأخيرًا أو تعجيلًا أو ما الحكم في جميع الأشياء فيدخل فيه ما ذكر دخولًا أوليًا؛ ورجح الأول بأن المقصود من قوله سبحانه: {إِنِ الحكم} إلخ التأسف على وقوع خلاف المطلوب كما يشهد به موارد استعماله وهو على التأخير فقط.
{يَقُصُّ} أي يتبع {الحق} والحكمة فيما يحكم به ويقدره كائنًا ما كان أو يبينه بيانًا شافيًا من قص الأثر أو الخبر وهو من قبيل التكميل للخاص على ما اخترناه بإردافه بأمر عام كقوله تعالى: {بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلّ شيء قَدِيرٌ} [الملك: 1].
وقرأ الكسائي وغيره {يقضي} من القضاء وحذفت الياء في الخط تبعًا لحذفها في اللفظ لالتقاء الساكنين، وأصله أن يتعدى بالباء لا بنفسه فنصب {الحق} إما على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه أي يقضي القضاء الحق أو على أنه مفعول به ويقضي متضمن معنى ينفذ أو هو متعد من قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره كقول الهذلي: مسرودتان قضاهما داود.
وفي الكلام على هذا استعارة تبعية.
واحتج مجاهد للقراءة الأولى بعدم الباء المحتاج إليها في الثانية وقد علمت فساده.
واحتج أبو عمرو للثانية بقوله سبحانه: {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} فإن الفصل إنما يكون في القضاء لا في القصص ولو كان ذلك في الآية لقيل خير القاصين.
وأجاب أبو علي الفارسي بأن القصص هاهنا بمعنى القول وقد جاء الفصل فيه قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته ثُمَّ فُصّلَتْ} [هود: 1] {وَنُفَصّلُ الايات} [التوبة: 11] على أنك تعلم بأدنى التفات إلى أن القص هنا قد يؤول بلا تكلف وبعد إلى معنى القضاء.
وفي إرشاد العقل السليم أن أصل القضاء الفصل بتمام الأمر وأصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة الحق أو الخصم عن التعدي إلى صاحبه، وجملة {وَهُوَ خَيْرُ} إلخ تذييل مقرر لمضمون ما قبله مشير إلى أن قص الحق هاهنا بطريق خاص هو الفصل بين الحق والباطل فافهم.
واحتج بعض أهل السنة بقوله سبحانه: {إِنِ الحكم} إلخ لإفادته الحصر على أنه لا يقدر العبد على شيء من الأشياء إلا إذا قضى الله تعالى به فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله تعالى به وحكم، وكذلك في جميع الأفعال.
وقالت المعتزلة: إن قوله سبحانه: {يَقْضِى الحق} معناه أن كل ما يقضي به فهو الحق، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر والمعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق ولا يخفى ما فيه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من إبطال الشرك بدليل الوحي الإلهي المؤيِّد للأدلَّة السابقة إلى إثبات صدق الرسالة بدليل من الله مؤيِّد للأدلّة السابقة أيضًا، لييأسوا من محاولة إرجاع الرسول عليه الصلاة والسلام عن دعوته إلى الإسلام وتشكيكه في وحيه بقولهم: ساحر، مجنون، شاعر، أساطيرُ الأولين، ولييأسوا أيضًا من إدخال الشكّ عليه في صدق إيمان أصحابه، وإلقاء الوحشة بينه وبينهم بما حاولوا من طرده أصحابَه عن مجلسه حين حضور خصومه، فأمره الله أن يقول لهم إنَّه على يقين من أمر رَبِّه لا يتزعزعُ.
وعطف على ذلك جواب عن شبهة استدلالهم على تكذيب الوعيد بما حلّ بالأمم من قبلهم بأنَّه لو كان صدقًا لعجّل لهم العذاب، فقد كانوا يقولون: {اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتِنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] ويقولون: {ربَّنا عجِّل لنا قطّنا قبل يوم الحساب} [ص: 16]، فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم {قُل لو أنّ عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم} [الأنعام: 58]، وأكَّد الجملة بحرف التأكيد لأنَّهم ينكرون أن يكون على بيِّنه من ربِّه.
وإعادة الأمر بالقول لتكرير الاهتمام الذي تقدّم بيانه عند قوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} [الأنعام: 40].
والبيِّنة في الأصل وصف مُؤنّثُ بَيِّن، أي الواضحة، فهي صفة جرت على موصوف محذوف للعلم به في الكلام، أي دلالة بيِّنة أو حجّة بيِّنة.
ثم شاع إطلاق هذا الوصف فصار اسمًا للحجّة المثبِتة للحقّ التي لا يعتريها شك، وللدلالة الواضحة، وللمعجزة أيضًا، فهي هنا يجوز أن تكون بمعنى الدلالة البيِّنة، أي اليقين.
وهو أنسب بـ {على} الدالة على التمكّن، كقولهم: فلان على بصيرة، أي أنّي متمكِّن من اليقين في أمر الوحي.
ويجوز أن يكون المراد بالبيِّنة القرآن، وتكون (على) مستعملة في الملازمة مجازًا مرسلًا لأنّ الاستعلاء يستلزم الملازمة، أي أنِّي لا أخالف ما جاء به القرآن.
و{مِن ربِّي} صفة ل {بيّنة} يفيد تعظيمها وكمالها.
و(مِنْ) ابتدائية، أي بيّنة جائية إليّ من ربّي، وهي الأدلَّة التي أوحاها الله إليه وجاء بها القرآن وغيرُه.
ويجوز أن تكون (مِنْ) اتّصالية، أي على يقين متّصل بربِّي، أي بمعرفته توحيده، أي فلا أتردّد في ذلك فلا تطمعوا في صرفي عن ذلك، أي أنِّي آمنتُ بإله واحد دلَّت على وجوده ووحدانيته دلائل خلقه وقدرته، فأنا موقن بما آمنت به لا يتطرّقني شك.
وهذا حينئذٍ مسوق مساق التعريض بالمشركين في أنَّهم على اضطراب من أمر آلهتهم وعلى غير بصيرة.
وجملة {وكذّبتم به} في موضع الحال من {بيّنة}.
وهي تفيد التعجّب منهم أنْ كذّبوا بما دلَّت عليه البيّنة.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {إنِّي على بيِّنة من ربِّي}، أي أنا على بيِّنة وأنتم كذّبتم بما دلَّت عليه البيِّنات فشتَّان بيني وبينكم.
والضمير في قوله: {به} يعود إلى البيِّنة باعتبار تأويلها بالبيان أو باعتبار أن ماصْدَقَها اليقين أو القرآن على وجه جَعْل (مِنْ) ابتدائية، أي وكذّبتم باليقين مكابرة وعنادًا، ويعود إلى ربِّي على وجه جعل (مِنْ) اتِّصالية، أي كنت أنا على يقين في شأن ربّي وكذّبتم به مع أنّ دلائل توحيده بيِّنة واضحة.
ويعود إلى غير مذكور في الكلام، وهو القرآن لشهرة التداول بينهم في شأنه فإذا أطلق ضمير الغائب انصرف إليه بالقرينة.
والباء التي عدّي بها فعل {كذّبتم} هي لتأكيد لصوق معنى الفعل بمفعوله، كما في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6].
فلذلك يدلّ فعل التكذيب إذا عدّي بالباء على معنى الإنكار، أي التكذيب القويّ.
ولعلّ الاستعمال أنّهم لا يُعدّون فعل التكذيب بالباء إلاّ إذا أريد تكذيب حجّة أو برهان ممّا يحسب سببَ تصديق، فلا يقال: كذّبتُ بفلان، بل يقال: كذّبت فلانًا قال تعالى: {لَمَّا كذبوا الرسل} [الفرقان: 37] وقال: {كذّبت ثمودُ بالنُذُر} [القمر: 23].
والمعنى التعريضيّ بهم في شأن اعتقادهم في آلهتهم باق على ما بيَّنّاه.
وقوله: {ما عندي ما تستعجلون به} استئناف بياني لأنّ حالهم في الإصرار على التكذيب ممّا يزيدهم عنادًا عند سماع تسفيه أحلامهم وتنقّص عقائدهم فكانوا يقولون: لو كان قولك حقًّا فأين الوعيد الذي تَوعّدتنا.
فإنّهم قالوا: {اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] وقالوا: {أو تُسْقِط السماء علينا كما زعمت كِسَفا} [الإسراء: 92] فأمر بأن يجيب أن يقول: {ما عندي ما تستعجلون به}.
والاستعجال طلب التعجيل بشيء، فهو يتعدّى إلى مفعول واحد، وهو المطلوب منه تعجيل شيء.
فإذا أريد ذكر الأمر المعجّل عدّي إليه بالباء.
والباء فيه للتعدية.
والمفعول هنا محذوف دلّ عليه قوله: {ما عندي}.
والتقدير: تستعجلونني به.
وأمّا قوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1] فالأظهرُ أنّ ضمير الغائب عائد لاسم الجلالة، وسيأتي في أوّل سورة النحل.
ومعنى {ما عندي} أنّه ليس في مقدرتي، كما يقال: ما بيدي كذا.
فالعندية مجاز عن التصرّف بالعلم والمقدرة.
والمعنى: أنِّي لست العليم القدير، أي لست إلهًا ولكنّني عبد مرسل أقف عند ما أرسلتُ به.
وحقيقة (عندَ) أنَّها ظرف المكان القريب.
وتستعمل مجازًا في استقرار الشيء لشيء وملكه إيَّاه، كقوله: {وعنده مفاتح الغيب} [الأنعام: 59].
وتستعمل مجازًا في الاحتفاظ بالشيء، كقوله: {وعنده علم الساعة} [الزخرف: 85] {وعند الله مَكْرُهم} [إبراهيم: 46] ولا يحسن في غير ذلك.
والمراد بـ {ما تستعجلون به} العذاب المتوعَّد به.
عبَّر بطريق الموصولية لما تنبئ به الصلة من كونه مؤخّرًا مدّخرًا لهم وأنّهم يستعجلونه وأنّه واقع بهم لا محالة، لأنّ التعجيل والتأخير حالان للأمر الواقع؛ فكان قوله: {تستعجلون} في نفسه وعيدًا.
وقد دلّ على أنَّه بيد الله وأنّ الله هو الذي يقدّر وقته الذي ينزل بهم فيه، لأنّ تقديم المسند الظرف أفاد قصر القلب، لأنّهم توهّموا من توعّد النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاهم أنّه توعّدهم بعقاب في مقدرته.
فجعلوا تأخّره إخلافًا لتوعّده، فردّ عليهم بأنّ الوعيد بيد الله، كما سيصرّح به في قوله: {إنِ الحكم إلاّ لله}.
فقوله: {إن الحكم إلاّ لله} تصريح بمفهوم القصر، وتأكيد له.
وعلى وجه كون ضمير {به} للقرآن، فالمعنى كذّبتهم بالقرآن وهو بيِّنة عظيمة، وسألتم تعجيل العذاب تعجيزًا لي وذلك ليس بيدي.
وجملة {يقصّ الحقّ} حال من اسم الجلالة أو استئناف، أي هو أعلم بالحكمة في التأخير أو التعجيل.
وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وأبو جعفر {يقُصّ} بضمّ القاف وبالصاد المهملة فهو من الاقتصاص، وهو اتِّباع الأثر، أي يجري قدره على أثر الحقّ، أي على وفقه؛ أو هو من القصص، وهو الحكاية أي يحكي بالحق، أي أنّ وعده واقع لا محالة فهو لا يخبر إلاّ بالحق.
و{الحقّ} منصوب على المفعولية به على الاحتمالين.
وقرأ الباقيون {يَقْض} بسكون القاف وبضاد معجمة مكسورة على أنَّه مضارع (قضى)، وهو في المصحف بغير ياء.