فصل: (سورة الأنعام: آية 51)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنعام: آية 51]

{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)}.
{وَأَنْذِرْ بِهِ} الضمير راجع إلى قوله: {ما يُوحى إِلَيَّ} و{الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} إمّا قوم داخلون في الإسلام مقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما يوحى إليه {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يدخلون في زمرة المتقين من المسلمين. وإمّا أهل الكتاب لأنهم مقرّون بالبعث. وإما ناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقًا فيهلكوا، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار، دون المتمرّدين منهم، فأمر أن ينذر هؤلاء. وقوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} في موضع الحال من يحشروا، بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم، ولابد من هذه الحال، لأن كلا محشور، فالمخوف إنما هو الحشر على هذه الحال.

.[سورة الأنعام: آية 52]

{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)}.
ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم وأمره بتقريبهم وإكرامهم، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته ويواظبون عليها. والمراد بذكر الغداة والعشى: الدوام. وقيل معناه: يصلون صلاة الصبح والعصر، ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته. روى أن رؤسا من المشركين قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لو طردت عنا هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين، وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان اللّه عليهم، وأرواح جبابهم- وكانت عليهم جباب من صوف- جلسنا إليك وحادثناك، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أنا بطارد المؤمنين». فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال: «نعم»، طمعًا في إيمانهم. وروى أن عمر رضى اللّه عنه قال: لو فعلت حتى ننظر إلى ما يصيرون. قال فاكتب بذلك كتابا، فدعا بصحيفة وبعلىّ رضى اللّه عنه ليكتب، فنزلت. فرمى بالصحيفة، واعتذر عمر من مقالته. قال سلمان وخباب: فينا نزلت فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته. وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم}، فترك القيام عنا إلى أن تقوم عنه وقال: «الحمد للّه الذي لم يمتني حتى أمرنى أن أصبر نفسي مع قوم من أمتى. معكم المحيا ومعكم الممات». {ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} كقوله: {إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي} وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم، فقال: {ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه اللّه في أعمالهم على معنى: وإن كان الأمر على ما يقولون عند اللّه، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيمة المتقين، وإن كان لهم باطن غير مرضى فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعدّاهم إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدّاك إليهم، كقوله: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}.
فإن قلت: أما كفى قوله: {ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} حتى ضم إليه {وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}؟
قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة، وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنىّ في قوله: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعًا، كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. وقيل: الضمير للمشركين. والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم، حتى يهمك إيمانهم ويحرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} جواب النهى. ويجوز أن يكون عطفا على {فَتَطْرُدَهُمْ} على وجه التسبيب، لأن كونه ظالما مسبب عن طردهم. وقرئ: {بالغدوة والعشى}.

.[سورة الأنعام: آية 53]

{وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}.
{وَكَذلِكَ فَتَنَّا} ومثل ذلك الفتن العظيم، فتنا بعض الناس ببعض، أي ابتليناهم بهم. وذلك أنّ المشركين كانوا يقولون للمسلمين {أَهؤُلاءِ} الذين {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا} أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا، ونحن المقدمون والرؤساء، وهم العبيد والفقراء، إنكارًا لأن يكون أمثالهم على الحق وممنونا عليهم من بينهم بالخير، ونحوه {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا}، {لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ}. ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك: خذلناهم فافتتنوا، حتى كان افتتانهم سببا لهذا القول، لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول مفتون {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} أي اللّه أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان. وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق.

.[سورة الأنعام: آية 54]

{وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)}.
{فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} إما أن يكون أمرًا بتبليغ سلام اللّه إليهم. وإما أن يكون أمرًا بأن يبدأهم بالسلام إكرامًا لهم وتطييبا لقلوبهم. وكذلك قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} من جملة ما يقول لهم ليسرهم ويبشرهم بسعة رحمة اللّه وقبوله التوبة منهم. وقرئ: إنه، فإنه بالكسر على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ} وبالفتح على الإبدال من الرحمة {بِجَهالَةٍ} في موضع الحال، أي عمله وهو جاهل. وفيه معنيان، أحدهما: أنه فاعل فعل الجهلة لأنّ من عمل ما يؤدى إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظانّ فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير. ومنه قول الشاعر:
على أنّها قالت عشيّة زرتها ** جهلت على عمد ولم تك جاهلا

والثاني: أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة. ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته. وقيل: إنها نزلت في عمر رضى اللّه عنه حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما سألوا ولم يعلم أنها مفسدة.

.[سورة الأنعام: آية 55]

{وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}.
وقرئ {وَلِتَسْتَبِينَ} بالتاء والياء مع رفع السبيل لأنها تذكر وتؤنث. وبالتاء على خطاب الرسول مع نصب السبيل. يقال: استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته. والمعنى: ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين، من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يجب أن يعامل به، فصلنا ذلك التفصيل.

.[سورة الأنعام: الآيات 56- 58]

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}.
{نُهِيتُ} صرفت وزجرت، بما ركب في من أدلة العقل، وبما أوتيت من أدلة السمع عن عبادة ما تعبدون {مِنْ دُونِ اللَّهِ} وفيه استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ} أي لا أجرى في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل، وهو بيان للسبب الذي منه وقعوا في الضلال، وتنبيه لكل من أراد إصابة الحق ومجانبة الباطل {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من الهدى في شيء يعنى أنكم كذلك. ولما نفى أن يكون الهوى متبعا نبه على ما يجب اتباعه بقوله: {قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} ومعنى قوله: {إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ}: إنى من معرفة ربى وأنه لا معبود سواه، على حجة واضحة وشاهد صدق {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} أنتم حيث أشركتم به غيره. يقال: أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه، إذا كان ثابتا عندك بدليل. ثم عقبه بما دل على استعظام تكذيبهم باللّه وشدة غضبه عليهم لذلك وأنهم أحقاء بأن يغافصوا بالعذاب المستأصل فقال: {ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} يعنى العذاب الذي استعجلوه في قولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ}. {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} في تأخير عذابكم {يَقُصُّ الْحَقَّ} أي القضاء الحق في كل ما يقضى من التأخير والتعجيل في أقسامه {وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ} أي القاضين. وقرئ: يقص الحق أي يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدّره، من قصر أثره لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي في قدرتي وإمكانى {ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي وامتعاضا من تكذيبكم به. ولتخلصت منكم سريعا {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} وبما يجب في الحكمة من كنه عقابهم.
وقيل: {عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} على حجة من جهة ربى وهي القرآن {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} أي بالبينة. وذكر الضمير على تأويل البيان أو القرآن. فإن قلت: بم انتصب الحق؟ قلت: بأنه صفة لمصدر يقضى، أي يقضى القضاء الحق. ويجوز أن يكون مفعولا به من قولهم: قضى الدرع إذا صنعها، أي يصنع الحق ويدبره. وفي قراءة عبد اللّه: يقضى بالحق. فإن قلت: لم أسقطت الياء في الخط؟ قلت: اتباعا للخط اللفظ، وسقوطها في اللفظ لالتقاء الساكنين. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}.
لو قدرتُ على إبداء ما طلبتم من إقامة البراهين لأجبتكم إلى كل ما اقترحتم عليَّ- شفقةً عليكم، لكن المتفرِّد بالحكم لا يُعَارَضُ فيما يريد. اهـ.

.كلام في معنى حقيقة فعله وحكمه تعالى:

قال في الميزان:
فعله وحكمه تعالى نفس الحق لا مطابق للحق موافق له، بيان ذلك ان الشيء انما يكون حقا إذا كان ثابتا في الخارج واقعا في الاعيان من غير ان يختلقه وهم أو يصنعه ذهن كالإنسان الذي هو احد الموجودات الخارجية والأرض التي يعيش عليها والنبات والحيوانات التي يغتذى، بها والخبر إنما يكون حقا إذا طابق الواقع الثابت في نفسه مستقلا عن ادراكنا والحكم والقضاء إنما يكون حقا إذا وافق السنة الجارية في الكون فإذا أمر الأمر بشئ أو قضى القاضى بشئ فإنما يكون حكم هذا وقضاء ذاك حقا مطلقا إذا وأفق المصلحة المطلقة المأخوذة من السنة الجارية في الكون، ويكون حقا نسبيا إذا وأفق المصلحة النسبية المأخوذة من سنة الكون بالنسبة إلى بعض أجزائه من غير نظر إلى النظام العام العالمي.
فإذا أمرنا آمر بالتزام العدل أو اجتناب الظلم فإنما يعد ذلك حقا لأن نظام الكون يهدى الأشياء إلى سعادتها وخيرها، وقد قضى على الإنسان ان يعيش اجتماعيا، وقضى على كل مجتمع مركب من أجزاء أن يتلائم أجزاؤه ولا يزاحم بعضها بعضا، ولا يفسد طرف منه طرفا، حتى ينال ما قسم له من سعادة الوجود، ويتوزع ذلك بين أجزائه المجتمعين، فمصلحة هذا النوع المطلقة هي سعادته في الحياة، ويطابقها الأمر بالعدل والنهى عن الظلم فكل منهما حكم حق، ولا يطابقها الأمر بالظلم والنهى عن العدل فهما من الباطل، والتوحيد حق لأنه يهدى إلى سعادة الإنسان في حياته الحقيقيه، والشرك باطل لأنه يجر الإنسان إلى شقاء مهلك وعذاب خالد.
وكذلك القضاء بين متخاصمين انما يكون حقا إذا وافق الحكم المشروع المراعى فيه المصلحة الإنسانية المطلقة أو مصلحة قوم خاص أو امة خاصة، والمصلحة الحقيقية- كما- عرفت- مأخوذه من السنة الجارية في الكون مطلقا أو نسبيا.
فقد تبين ان الحق ايا ما كان انما هو مأخوذ من الكون الخارجي والنظام المنبسط عليه والسنة الجارية فيه، ولا ريب ان الكون والوجود مع ما له من النظام والسنن والنواميس فعله سبحانه منه يبتدئ وبه يقوم، واليه ينتهى، فالحق ايا ما كان والمصلحة كيفما فرضت يتبعان فعله ويقتفيان اثره، ويثبتان بالاستناد إليه لا انه تعالى يتبع الحق في فعله ويقفو اثره فهو تعالى حق بذاته وكل ما سواه حق به.
ونحن معاشر الآدميين لما كنا نطلب بأفعالنا الاختيارية تتميم نواقص وجودنا ورفع حوائج حياتنا، وكانت أفعالنا ربما طابقت سعادتنا المطلوبة لنا وربما خالفت اضطررنا في ذلك إلى رعاية جانب المصلحة التي نذعن بأنها مصلحة أي فيها صلاح حالنا وسعادة جدنا وأدى ذلك إلى الإذعان بقوانين جارية وأحكام عامة، واعتبار شرائع وسنن اجتماعية لازمة المراعاة واجبة الاتباع لموافاتها المصلحة الإنسانية وموافقتها السعادة المطلوبة.
وأدى ذلك إلى الإذعان بأن للمصالح والمفاسد ثبوتا واقعيا وظروفا من التحقق منحازا عن العالمين:- الذهن والخارج- منعزلا عن الدارين:- العلم والعين- وهى تؤثر أثرها في خارج الكون بالموافقة والمخالفة فإذا طابقت أفعالنا أو أحكامنا المصالح الواقعية الثابتة في نفس الأمر ظهرت فيها المصلحة وانتهت إلى السعادة، وإذا خالفتها وطابقت المفاسد الواقعية الحقيقية ساقتنا إلى كل ضر وشر، وهذا النحو من الثبوت ثبوت واقعى غير قابل للزوال والتغير فللمصالح والمفاسد الواقعية وكذا لما معها من الصفات الداعيه إلى الفعل والترك كالحسن والقبح وكذا للاحكام المنبعثة منها كوجوب الفعل والترك مثلا لكل ذلك ثبوت واقعى يتأبى عن الفناء والبطلان، ويمتنع عن التغير والتبدل وهى حاكمة فينا باعثة لنا إلى أفعال كذا أو صارفة، والعقل ينال هذه الأمور النفس الامرية كما ينال سائر الأمور الكونية.
ثم لما وجدوا أن الأحكام والشرائع الإلهية لا تفارق الأحكام والقوانين الإنسانية المجعولة في المجتمعات من جهة معنى الحكم، وكذا افعاله تعالى لا تختلف مع أفعالنا من جهة معنى الفعل حكموا بأن الأحكام الإلهية والأفعال المنسوبة إلى الله سبحانه كأفعالنا في الانطباق على المصالح الواقعية والاتصاف بصفة الحسن، فالمصالح الواقعية تأثير في أفعاله تعالى وحكومة على احكامه وخاصة من حيث إنه تعالى عالم بحقائق الأمور بصير بمصالح عباده.