فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}.
هذا بلاغ من رسول الله لكل الخلق بأن أحداث الكون إنما يجريها الحق بإرادته وبمواقيت لا يعلمها إلا هو سبحانه، وهو- جل وعلا- الذي يأذن بها.. أي قل لهم أيها النبي: لو كان في قدرتي وإمكاني ما تستعجلون به من العذاب لانتهى الأمر بيني وبينكم ولأهلكتكم بعقاب وعذاب عاجل غضبا لربي وسخطا عليكم من تكذيبكم به سبحانه ولتخلصت منكم سريعا، لكن الأمر ليس لي، إنه إلى الله الحكيم الذي يعلم ما يستحقه الظالمون. ويقول سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [هود: 8].
وحكمة الله- إذن- هي التي اقتضت تأجيل العذاب إلى وقت يحدده الله، وفي هذا ما يجعل بعضًا من الكافرين يجترئون على الله ويوغلون في الكفر ويقولون ما الذي يمنع عنا العذاب؟
إنهم يقولون ذلك استهزاء وسخرية، ولا يعلمون أن العذاب آت حتمًا ولا خلاص لهم منه؛ لأن الله صادق في وعده ووعيده وسيأتيهم العذاب لأنهم استهزأوا وسخروا فلا مناص لهم عنه ولا مهرب لهم منه.
وفي موقع آخر يقول الحق: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 53- 55].
وهكذا نرى تحدي الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتيهم بالعذاب، لكنه تحدٍ مردود عليه بأن الحق هو الذي يقرر ميلاد كل أمر ولسوف يأتيهم العذاب فجأة، وهو واقع لا محالة وإن جهنم ستحيط بهم، وسيغمرهم العذاب من أعلاهم ومن أسفلهم، ويسمعون صوت الملك الموكل بعذابهم: ذوقوا عذابًا أنكرتموه وهو جزاء أعمالكم. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال الصابوني:
البلاغة:
1- {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} فيه استعارة لأن الموتى عبارة عن الكفار لموت قلوبهم.
2- {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} تأكيد لدفع توهم المجاز لأن الطائر قد يستعمل مجازًا للعمل كقوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13].
3- {صُمٌّ وَبُكْمٌ} تشبيه بليغ أي كالصم والبكم في عدم السماع وعدم الكلام فحذفت منه الأداة ووجه الشبه.
4- {إِيَّاهُ تَدْعُونَ} فيه قصر أي لا تدعون غيره لكشف الضر، فهو قصر صفة على موصوف.
5- {فَقُطِعَ دَابِرُ} كناية عن إهلاكهم بعذاب الاستئصال.
6- {الأعمى والبصير} استعارة عن الكافر والمؤمن.
7- {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ} في هاتين الجملتين من أنواع البديع ما يسمى ردّ الصدر على العجز. اهـ.

.تفسير الآية رقم (59):

قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت هذه الآيات مثبتة لجزئيات من علمه تعالى وقدرته، وكان ختامها العلم بالظالم وغيره، أتبعها الاختصاص بما هو أعم من ذلك، وهو علم مفاتح الغيب الذي لا يصل إليه إلا من حازها، إذ لا يطلع على الخزائن إلا من فتحها، ولا يفتحها إلا من حاز مفاتيحها وعلم كيف يفتح بها، فإثبات ذلك في هذا الأسلوب من باب الترقية في مراقي الاعتقاد من درجة كاملة إلى أكمل منها، فقال عاطفًا على معنى ما سبق، وهو: فعنده خاصة جميع ذلك: {وعنده} أي وحده {مفاتح الغيب} أي التي لا يدرك الغيب إلا من علمها.
ولما كان معنى ذلك الاختصاص، صرح به في قوله: {لا يعلمها إلا هو} وتخصيصها بالنفي دون الخزائن دال على ما فهمته من أن التقييد فيها ب لكم يفهم أنه يجوز أن نقول ذلك للمؤمنين.
ولما ذكر علم الغيب، أتبعه علم الشهادة، لأن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام إلا للكُمَّل من الأنام الذين تجردوا فتعودوا استحضار المعقولات المجردة، والقرآن إنما أنزل لنفع جميع الخلق: الذكي منهم والغبي، فكان ذكر المحسوسات الداخلة تحت القضية العقلية الكلية معينًا على تصور ذلك المعقول ورسوخه في القلب، فقال مؤكدًا لهذا المعقول الكلي المجرد بمثال داخل تحته يجري مجرى المحسوس، وعطفُه بالواو عطفَ الخاص على العام إشارة إلى تعظيمه فقال: {ويعلم ما في البر} وقدمه لأن الإنسان أكثر ملابسة له بما فيه من القرى والمدن والمفاوز والجبال والتلال وكثرة ما بها من الحيوان والنبات النجم وذي الساق والمعادن {والبحر} وأخره لأن إحاطة العقل بأحواله أقل وإن كان الحس يدل على أن عجائبها أكثر، وطولها وعرضها أعظم، وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب، فكان هذا الأمر المحسوس مقويًا لعظمة ذلك الأمر المعقول.
ولما ذكر ما يعم الثابت والمنتقل: خص المنتقل تنصيصًا على الجزئيات وتعظيمًا للعلم بتعظيم المعلومات فقال: {وما تسقط} وأغرق في النفي بقوله: {من ورقة} ونكرها إتمامًا للتعميم {إلا يعلمها} ولما كان هذا مع عظمه ظاهرًا، ذكر ما هو أدق منه فقال: {ولا} أي وما من {حبة} ودل على أن الأرض ليس لها من نفسها نور تنبيهًا على ما أودع هذا الآدمي المكوّن منها من الغرائب بقوله: {في ظلمات الأرض} أي ولو كان في أقصى بطنها، فكيف بماهو في النور وهو أكبر من الحبة.
ولما خص، رجع إلى التعميم ردًا للآخر على الأول فقال: {ولا رطب ولا يابس} أي وجد أو لم يوجد أو سيوجد {إلا في كتاب مبين} أي موضح لأحواله وأعيانه وكل أموره وأحيانه، فثبت أنه فاعل لجميع العالم بجواهره وأعراضه على سبيل الإحكام والإتقان، لأنه وحده عالم بجميع المعلومات، ومن اختص بعلم جميع المعلومات كان مختصًا بصنع جميع المصنوعات قادرًا على جميع المقدورات. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

المفاتح جمع مفتح.
ومفتح، والمفتح بالكسر المفتاح الذي يفتح به والمفتح بفتح الميم الخزانة وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مفتح، قال الفراء في قوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بالعصبة} [القصص: 76] يعني خزائنه فلفظ المفاتح يمكن أن يكون المراد منه المفاتيح ويمكن أن يراد منه الخزائن، أما على التقدير الأول.
فقد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأن المفاتيح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال فالعالم بتلك المفاتيح وكيفية استعمالها في فتح تلك الأغلاق والأقفال يمكنه أن يتوصل بتلك المفاتيح إلى ما في تلك الخزائن فكذلك هاهنا الحق سبحانه لما كان عالمًا بجميع المعلومات عبر عن هذا المعنى بالعبارة المذكورة وقرئ. وأما على التقدير الثاني فالمعنى وعنده خزائن الغيب.
فعلى التقدير الأول يكون المراد العلم بالغيب، وعلى التقدير الثاني المراد منه القدرة على كل الممكنات في قوله: {وَإِن مّن شيء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] وللحكماء في تفسير هذه الآية كلام عجيب مفرع على أصولهم فإنهم قالوا: ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول وأن العلم بالمعلول لا يكون علة للعلم بالعلة.
قالوا: وإذا ثبت هذا فنقول: الموجود إما أن يكون واجبًا لذاته، وإما أن يكون ممكنًا لذاته، والواجب لذاته ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
وكل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بتأثير الواجب لذاته وكل ما سوى الحق سبحانه فهو موجود بإيجاده كائن بتكوينه واقع بإيقاعه.
إما بغير واسطة وإما بواسطة واحدة وإما بوسائط كثيرة على الترتيب النازل من عنده طولًا وعرضًا.
إذا ثبت هذا فنقول: علمه بذاته يوجب عمله بالأثر الأول الصادر منه، ثم علمه بذلك الأثر الأول يوجب عمله بالأثر الثاني لأن الأثر الأول علة قريبة للأثر الثاني.
وقد ذكرنا أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فبهذا علم الغيب ليس إلا علم الحق بذاته المخصوصة ثم يحصل له من علمه بذاته علمه بالآثار الصادرة عنه على ترتيبها المعتبر، ولما كان علمه بذاته لم يحصل إلا لذاته لا جرم صح أن يقال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} فهذا هو طريقة هؤلاء الفرقة الذين فسروا هذه الآية بناء على هذه الطريقة.
ثم اعلم أن هاهنا دقيقة أخرى، وهي: أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة، ومثل هذا الإنسان يكون كالنادر وقوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} قضية عقلية محضة مجردة فالإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدًا.
والقرآن إنما أنزل لينتفع به جميع الخلق.
فههنا طريق آخر وهو أن من ذكر القضية العقلية المحضة المجردة، فإذا أراد إيصالها إلى عقل كل أحد ذكر لها مثالًا من الأمور المحسوسة الداخلة تحت القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهومًا لكل أحد، والأمر في هذه الآية ورد على هذا القانون، لأنه قال أولًا: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} ثم أكد هذا المعقول الكلي المجرد بجزئي محسوس فقال: {وَيَعْلَمُ مَا في البر والبحر} وذلك لأن أحد أقسام معلومات الله هو جميع دواب البر، والبحر، والحس، والخيال قد وقف على عظمة أحوال البر والبحر، فذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظمة ذلك المعقول.
وفيه دقيقة أخرى وهي: إنه تعالى قدم ذكر البر، لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر، وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال، وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات والمعادن.
وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب.
فإذا استحضر الخيال صورة البحر والبر على هذه الوجوه.
ثم عرف أن مجموعها قسم حقير من الأقسام الداخلة تحت قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} فيصير هذا المثال المحسوس مقويًا ومكملًا للعظمة الحاصلة تحت قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} ثم إنه تعالى كما كشف عن عظمة قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} بذكر البر والبحر كشف عن عظمة البر والبحر بقوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في وجه الأرض من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال، ثم يستحضركم فيها من النجم والشجر ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق سبحانه يعلمها ثم يتجاوز من هذا المثال إلى مثال آخر أشد هيئة منه وهو قوله: {وَلاَ حَبَّةٍ في ظلمات الأرض} وذلك لأن الحبة في غاية الصغر وظلمات الأرض موضع يبقى أكبر الأجسام وأعظمها مخفيًا فيها فإذا سمع أن تلك الحبة الصغيرة الملقاة في ظمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج عن علم الله تعالى ألبتة، صارت هذه الأمثلة منبهة على عظمة عظيمة وجلالة عالية من المعنى المشار إليه بقوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} بحيث تتحير العقول فيها وتتقاصر الأفكار والألباب عن الوصول إلى مباديها، ثم إنه تعالى لما قوى أمر ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة فبعد ذكرها عاد إلى ذكر تلك القضية العقلية المحضة المجردة بعبارة أخرى فقال: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ في كتاب مُّبِينٍ} وهو عين المذكور في قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} فهذا ما عقلناه في تفسير هذه الآية الشريفة العالية. ومن الله التوفيق. اهـ.