فصل: وَجْهُ تَفْسِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ بِهَذِهِ الْخَمْسِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالتَّنَبُّؤُ بِنَوْعِ الطِّفْلِ لابد أَنْ يَكُونَ عَنِ الْأَطْفَالِ الَّتِي تُولَدُ فِي مِيعَادِهَا تَمَامًا؛ لِأَنَّ الْأَطْفَالَ الَّتِي تُولَدُ قَبْلَ الْمِيعَادِ قَدْ تَجْعَلُ النَّبَأَ خَطَأً؛ لِأَنَّ الطِّفْلَ إِذَا وُلِدَ قَبْلَ الْمِيعَادِ بِشَهْرَيْنِ يَكُونُ الْمِيعَادُ صَحِيحًا، وَأَمَّا إِذَا وُلِدَ قَبْلَ الْمِيعَادِ بِبِضْعَةِ أَيَّامٍ لِشَهْرٍ يَكُونُ النَّبَأُ كَاذِبًا، وَمِثْلُ الْأَطْفَالِ الْمَوْلُودَةِ قَبْلَ الْمِيعَادِ أَحْوَالُ الْإِجْهَاضِ، وَكُلُّهَا تَخْتَلِفُ فِي عَمَلِ الْحِسَابِ فِي الْحَمْلِ السَّالِفِ.
وَنَشَأَ الْفَشَلُ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى مِنْ تَكْوِينِ بَيْضٍ تَكْوِينًا غَيْرَ قِيَاسِيٍّ، فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَحْدُثَ الْبَيْضُ كُلَّ (28) يَوْمًا مَرَّةً بِانْتِظَامٍ يُحْدُثُ كُلَّ (21) يَوْمًا أَوْ (20) يَوْمًا، وَيَنْشَأُ الْخَطَأُ أَيْضًا بِعَدَمِ الِانْتِظَامِ فِي الدَّوْرَةِ الْبَيْضِيَّةِ OVULATION RHYTHM كَحُدُوثِ الْبَيْضِ فِي الْمِبْيَضَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَمَا يَتَّضِحُ مِنْ وِلَادَةِ تَوْأَمَيْنِ مُخْتَلِفَيِ النَّوْعِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَكَذَلِكَ إِذَا حَدَثَ الْحَمْلُ أَثْنَاءَ الرَّضَاعَةِ وَمُدَّةِ غِيَابِ الْحَيْضِ فَوَقْتَئِذٍ يَصْعُبُ مَعْرِفَةُ أَيِّ مِبْيَضٍ هَيَّأَ الْبُوَيْضَةَ الَّتِي تَلَقَّحَتْ.
فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ مُتَوَسِّطَ نَوْبَةِ الْحَيْضِ هِيَ (28) يَوْمًا أَوْ أَرْبَعَةَ أَسَابِيعَ (وَالْحَيْضُ الْعَلَامَةُ الظَّاهِرِيَّةِ عَلَى الْبَيْضِ) تَتَكَرَّرُ ظَاهِرَةُ تَكْوِينِ الْبِيضِ (13) مَرَّةً فِي أَسَابِيعَ السَّنَةِ، وَهِيَ (52) أُسْبُوعًا، وَأَمَّا إِذَا حَدَثَ الْبَيْضُ فِي كُلِّ (21) يَوْمًا فَتَزْدَادُ الْمَرَّاتُ، وَإِذَا حَدَثَ كُلَّ (30) يَوْمًا فَالْعَدَدُ يَنْقُصُ إِلَى (12) مَرَّةً مَعَ زِيَادَةِ مَرَّةٍ كُلَّ سِتِّ سَنَوَاتٍ.
وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ كُلِّ هَذِهِ الْخَوَاصِّ فِي النِّسَاءِ عِنْدَ التَّنَبُّؤِ بِالنَّوْعِ، وَيُمَكَّنُ الطَّبِيبُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْقَوَاعِدِ وَالْأَمْثِلَةِ الْآتِيَةِ أَنْ يَتَنَبَّأَ بِنَوْعِ الطِّفْلِ فِي الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ إِذَا كَانَ هُوَ طَبِيبَهَا، كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُخْبِرَ النِّسَاءَ عَنِ الشُّهُورِ الَّتِي يَجِبُ الِامْتِنَاعُ فِيهَا إِذَا أُرِيدَ الْحُصُولُ عَلَى نَوْعٍ مَخْصُوصٍ.
يُمْكِنُ عَمَلُ ذَلِكَ بِالْقَرِيبِ بِوَسَاطَةِ جَدْوَلِ الْوِلَادَةِ الِاعْتِيَادِيِّ؛ لِأَنَّنَا إِذَا عَرَفْنَا نَوْعَ الطِّفْلِ الْأَخِيرِ وَيَوْمَ مِيلَادِهِ نَعْرِفُ شَهْرَ تَكْوِينِ الْبَيْضِ، وَبِالطَّبْعِ نَوْعَ الْبُوَيْضَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِكُلِّ سُهُولَةٍ مِنَ الْجَدْوَلِ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ أَنَّ الْأَسْهَلَ اسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ بِوَسَاطَةِ طَرِيقَةِ الْأَرْبَعِينَ أُسْبُوعًا الَّتِي أَذْكُرُهَا هُنَا.
يَجِبُ الْحُصُولُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْآتِيَةِ مِنَ الْمَرِيضَةِ أَوِ الْحَامِلِ حَتَّى يُمْكِنَ التَّنَبُّؤُ بِنَوْعِ الطِّفْلِ:
كَمْ مَرَّةً يَحْدُثُ الْحَيْضُ عِنْدَكُمْ؟ كَمْ يَوْمًا يَمْكُثُ الْحَيْضُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؟ هَلِ الْحَيْضُ مُنْتَظِمٌ؟ فِي أَيِّ يَوْمٍ كَانَ مِيلَادُ الطِّفْلِ الْأَخِيرِ؟ (يُذْكَرُ الْيَوْمُ وَالشَّهْرُ وَالسَّنَةُ) أَنَوْعُ الطَّفْلِ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ مَا مُدَّةُ رَضَاعَتِكِ لِلطِّفْلِ إِذَا كُنْتِ أَنْتِ الَّتِي تُرْضِعِينَهُ؟ مَتَى يَرْجِعُ الْحَيْضُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ؟ هَلْ حَدَثَ إِجْهَاضٌ مُنْذُ الْوِلَادَةِ الْأَخِيرَةِ؟.
مُدَّةُ الْحَمْلِ الِاعْتِيَادِيَّةِ لِلْمَرْأَةِ (280) يَوْمًا أَوْ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ كُلُّ شَهْرٍ أَرْبَعَةُ أَسَابِيعَ- أَيْ أَرْبَعُونَ أُسْبُوعًا فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ. وَلابد مِنْ هَجْرِ الِاصْطِلَاحِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ الْحَمْلُ.
فَإِذَا عَرَفْنَا يَوْمَ مِيلَادِ الطِّفْلِ الْأَخِيرِ نَرْجِعُ أَرْبَعِينَ أُسْبُوعًا حَتَّى نَعْرِفَ شَهْرَ تَكْوِينِ الْبَيْضِ أَوِ الشَّهْرَ الَّذِي تَلَقَّحَتْ فِيهِ الْبُوَيْضَةُ الَّتِي تَكَوَّنَ مِنْهَا الطِّفْلُ، فَإِذَا عَرَفْنَا نَوْعُ الطِّفْلِ نَتَقَدَّمُ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ بِالتَّنَاوُبِ حَتَّى نَصِلَ إِلَى مَرَّةِ تَكْوِينِ الْبَيْضِ الْعَاشِرَةِ قَبْلَ شَهْرِ الْوِلَادَةِ الْمُنْتَظَرِ فِيهِ وِلَادَةُ الطِّفْلِ الْحَدِيثِ مَعَ حِسَابِ نَوْبَةِ تَكْوِينِ بَيْضٍ إِضَافِيَّةٍ بَيْنَ شَهْرَيْ دِيسِمْبِرَ وَيَنَايِرَ- كَانُونُ الْأَوَّلُ وَكَانُونُ الثَّانِي- لِكُلِّ سَنَةٍ تَالِيَةٍ، وَبِذَلِكَ نَعْرِفُ نَوْعَ الْبَيْضَةِ الَّتِي تَلَقَّحَتْ وَالَّتِي تَكُونُ الْمَرْأَةُ حَامِلًا بِهَا، وَبِذَلِكَ نَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ نَوْعِ الطِّفْلِ الْآتِي.
وَلِوُجُودِ (13) مَرَّةَ تَكْوِينِ بِيضٍ فِي السَّنَةِ نَرَى أَنَّ تَكْوِينَ الْبُوَيْضَةِ الْمُلَقَّحَةِ فِي أُكْتُوبَرَ- تِشْرِينُ الْأَوَّلُ- مِنْ سَنَةٍ يَجْعَلُ الْبَيْضَ الثَّانِيَ فِي أُكْتُوبَرَ مِنَ النَّوْعِ الْمُضَادِّ بِسَبَبِ زِيَادَةِ الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشَرَ أَوِ النَّوْبَةِ الثَّالِثَةِ عَشْرَةَ الَّتِي يَلْزَمُ إِضَافَتُهَا بَيْنَ شَهْرَيْ أُكْتُوبَرَ، فَمَثَلًا إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ طِفْلًا فِي شَهْرٍ مِنْ سَنَةٍ وَطِفْلًا آخَرَ فِي نَفْسِ الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ التَّالِيَةِ يَكُونُ الطِّفْلَانِ مُخْتَلِفَيِ النَّوْعِ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِقَاعِدَتِهِ.
فَمَعْرِفَةُ نَوْعِ الْحَمْلِ فِي الرَّحِمِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُعَدُّ مِنْ عُلُومِ الْبَشَرِ الْكَسْبِيَّةِ؛ إِذْ هُوَ مَعْرِفَةُ الْمُسَبَّبِ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ لَا يُعَارِضُ كَوْنَ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِمَا فِي الْأَرْحَامِ مِنْ مَفَاتِحِ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، فَإِنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَصْرِ أَنَّ مَا سَيَحْدُثُ فِي عَالَمِ الْحَيَوَانِ مِنَ التَّكْوِينِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ مِنْ خَزَائِنِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِمَا فِيهَا إِلَّا اللهُ، وَمِفْتَاحُ الْعِلْمِ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْهَا عِنْدَهُ، فَإِذَا هَدَى عِبَادَهُ إِلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الَّتِي هِيَ مِفْتَاحٌ مُوَصِّلٌ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ مَا تَحْتَوِيهِ هَذِهِ الْخِزَانَةُ فَذَلِكَ لَا يَنْفِي مَا ذُكِرَ.
بَعْدَ أَنْ كَتَبْتُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَطُبِعَ فِي الْمَنَارِ بَقِيَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْهُ، فَتَفَكَّرْتُ فِيهِ عِنْدَ النَّوْمِ فَظَهَرَ لِي أَنَّ الْعِلْمَ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي سَبَبِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ عِلْمُ أَحَدٍ عِلْمًا قَطْعِيًّا بِمَا فِي رَحِمِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا حَتَّى مَعَ الْعِلْمِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطُوهَا لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ- دَعِ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ مَا فِي أَرْحَامِ جَمِيعِ الْإِنَاثِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ كُلِّهَا- وَإِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الظَّنُّ الْغَالِبُ فِي حَالِ الْعِلْمِ بِالشُّرُوطِ، وَالْجَهْلُ التَّامُّ فِي حَالِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا. وَالْعِلْمُ الصَّحِيحِ بِمَا فِي الرَّحِمِ هُوَ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صِدْقِ الْحَامِلِ فِيمَا أَخْبَرَتْ مِنْ تَحْدِيدِ شَهْرِ الْوِلَادَةِ وَلَا عَلَى خُلُوِّ الرَّحِمِ مِنْ بَيْضٍ تَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا مِنْ كَوْنِ الْأَصْلِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَرَّةً فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَسَابِيعَ، فَإِنَّهُمْ جَزَمُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ- وَلَا عَلَى تَكَوُّنِ الْبَيْضِ فِي جَانِبَيِ الرَّحِمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَهَوَ الَّذِي يَكُونُ سَبَبُ الْحَمْلِ بِالتَّوْأَمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَاحْتِمَالُ وُقُوعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي كُلِّ حَمْلٍ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا يَنْفِي الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ بِمَا فِي رَحِمِ أَيِّ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، فَمَا الْقَوْلُ فِي الْعِلْمِ بِمَا فِي الْأَرْحَامِ كُلِّهَا؟.
خَطَرَ لِي هَذَا الْمَعْنَى فِي الْفِرَاشِ، وَانْتَقَلَ ذِهْنِي مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (13: 8، 9) فَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَعْلَمُ حَمْلَ كُلِّ أُنْثَى أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى. وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ مِنْ نَقْصِ الْحَمْلِ أَوْ فَسَادِهِ بَعْدَ الْعُلُوقِ، وَمَا تَزْدَادُ مِنَ الْحَمْلِ كَالْحَمْلِ بِالتَّوْأَمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ شَيْخٍ بِمِنًى أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ لَهُ بُطُونًا فِي كُلٍّ مِنْهَا خَمْسَةُ أَوْلَادٍ، فَأَنَّى يَهْتَدِي إِلَى الْعِلْمِ بِمِثْلِ هَذِهِ النَّوَادِرِ الْأَطِبَّاءُ؟ وَسَنَزِيدُ هَذَا الْبَحْثَ إِيضَاحًا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ إِذَا أَطَالَ اللهُ عُمُرَنَا وَوَفَّقَنَا لِتَفْسِيرِهَا.

.وَجْهُ تَفْسِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ بِهَذِهِ الْخَمْسِ:

لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ كَلَامًا فِي وَجْهِ تَفْسِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ بِالْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ لُقْمَانَ، وَكُنْتُ قَدْ فَكَّرْتُ فِي ذَلِكَ فِي أَيَّامِ طَلَبِي لِلْعِلْمِ، فَظَهَرَ لِي أَنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ عِلْمُ شَهَادَةٍ، وَعِلْمُهُ بِمَا لَمْ يُوجَدْ عِلْمُ غَيْبٍ، وَأَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ فَخَزَائِنُهُ أَوْ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِهِ الَّتِي يَسْتَفِيدُ النَّاسُ مِنْ بَيَانِهَا هِيَ تِلْكَ الْخَمْسُ، وَهِيَ لَمْ تُذْكَرْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي الْحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّذِي أَلَّفْتُهُ فِي عَهْدِ الطَّلَبِ فِي سِيَاقِ الْبَحْثِ فِي الْكَشْفِ عَنْ أَنْوَاعِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَبَعْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِهَا بِتِلْكَ الْخَمْسِ قُلْتُ مَا نَصُّهُ:
ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ مَعْلُومَاتِ اللهِ تَعَالَى الْغَيْبِيَّةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ هَذِهِ الْخَمْسِ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهَا مِمَّا قَدْ يَطَّلِعُ بَعْضُ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضِهِ؟ وَمَا مَعْنَى كَوْنِهَا مَفَاتِحَ الْغَيْبِ؟ وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَ هِيَ الَّتِي كَانُوا يَدَّعُونَ عِلْمَهَا، وَالْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ عَلَى الرَّاجِحِ فَلَا يَنْفِي زَائِدًا عَلَى الْمَذْكُورِ. قلت: وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مَفَاتِحَ الْغَيْبِ، وَقَدْ فَتَحَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ بِفَهْمِ مَعْنًى لَطِيفٍ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْخَمْسِ مَفَاتِحَ أَوْ مَفَاتِيحَ لِلْغَيْبِ. وَعَرَضْتُهُ عَلَى مَشَايِخِي كَالْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْقَاوُقْجِيِّ، وَالْعَلَامَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدْ نُشَّابَةْ وَغَيْرِهِمَا فَأُعْجِبُوا بِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَفَاتِحَ جَمْعُ مَفْتَحٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَوْ كَسْرِهَا، بِمَعْنَى الْخَزَائِنِ أَوِ الْمَفَاتِيحِ، وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنِ الْوُجُودِ أَوِ الشُّهُودِ، وَهُوَ عَالَمُ الْبَرْزَخِ، وَعَالَمُ الْآخِرَةِ، وَبَعْضُ عَالَمِ الدُّنْيَا وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ، وَالْحَيَوَانُ الَّذِي لَمْ يُولَدْ، وَكَسْبُ الْأَنْفَسِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عَلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، فَالسَّاعَةُ مِفْتَاحُ عَالِمِ الْآخِرَةِ، وَالْغَيْثُ مِفْتَاحُ عَالَمِ النَّبَاتِ، وَمَا فِي الْأَرْحَامِ مِفْتَاحُ عَالَمِ الْحَيَوَانِ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ} ظَاهِرٌ فِي مَفْتَحِ الْكَسْبِ وَالْأَعْمَالِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أَيْ كَمَا لَا تَدْرِي بِأَيِّ وَقْتٍ إِشَارَةً بِالْمَوْتِ إِلَى عَالَمِ الْبَرْزَخِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: الْعَوَالِمُ ثَلَاثَةٌ، الْأَوَّلُ: الْقَرِيبُ الدَّانِي الَّذِي نُقِيمُ فِيهِ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَالْآخَرُ: الَّذِي نُقِيمُ فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَبَدًا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَالثَّالِثُ: الْوَسَطُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَا نُقِيمُ فِيهِ بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ حَتَّى يَتِمَّ جَمْعُنَا بِانْتِهَاءِ الدُّنْيَا، وَنَفِدُ عَلَى اللهِ تَعَالَى جَمِيعًا، فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَيْسَ مَشْهُودًا لَنَا، وَمَفْتَحُهُمَا السَّاعَةُ وَالْمَوْتُ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْهُ مَا هُوَ مَشْهُودٌ لَنَا وَلَا يَحْصُلُ فِيهِ زِيَادَةٌ يُبْرِزُهَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الْعَدَمِ كَالْأَحْجَارِ وَالْمَعَادِنِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي الْكَوْنِ تَدْرِيجًا أَوْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَمِنْهُ مَا هُوَ غَيْبٌ وَهُوَ مَا يَتَجَدَّدُ بِصُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ تَكُنْ مَشْهُودَةً، وَهُوَ النَّبَاتُ وَمَفْتَحُهُ الْغَيْثُ، وَالْحَيَوَانُ وَمَفْتَحُهُ الْأَرْحَامُ غَالِبًا أَوْ عُبِّرَ بِهَا عَنْهُ، وَكَسْبُ الْحَيَوَانِ وَعَمَلُهُ، وَهُوَ مَفْتَحٌ وَخِزَانَةٌ مِنْ خَزَائِنِ الْغَيْبِ. اهـ.
ثُمَّ ذَكَرْتُ هُنَالِكَ مَا يَرُدُّ عَلَى حَصْرِ الْمَفَاتِحِ بِهَذِهِ الْخَمْسِ أَوْ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ، وَأَجَبْتُ وَفِي الْعِبَارَةِ شَيْءٌ مِنَ الضَّعْفِ، وَهِيَ مِنَ الْقِسْمِ الَّذِي لَا يَزَالُ مُسَوَّدَةً مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ أَوَّلُ تَمْرِينٍ لَنَا عَلَى التَّأْلِيفِ وَالْإِنْشَاءِ، فَإِنَّنَا لَمْ نَتَعَلَّمِ الْإِنْشَاءَ تَعَلُّمًا. وَفِي حَاشِيَتِهَا تَعْلِيقٌ عَلَى كَلِمَةِ وَمَفْتَحُهُ الْأَرْحَامُ غَالِبًا وَجَعْلِ نَحْوِ دُودِ الْفَاكِهَةِ وَالْخَلِّ مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ بَيَّنَّا فِيهِ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ كَوْنِ الْحَيِّ لَا يُولَدُ إِلَّا مِنْ حَيٍّ مِثْلِهِ، فَمَا كَانَ يُقَالُ فِي بَحْثِ التَّوَلُّدِ الذَّاتِيِّ مِنْ تَوَلُّدِ دُودِ الْفَاكِهَةِ مِنْهَا وَكَذَا الْخَلُّ، وَتُوَلُّدِ الْفَأْرَةِ مِنَ التُّرَابِ- كُلُّهُ بَاطِلٌ.
كِتَابَةُ اللهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُبِينُ، وَأُمُّ الْكِتَابِ، وَالذِّكْرُ، وَالزُّبُرُ، وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظِ.
وَرَدَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا آيَاتٌ، فَفِي سُورَةِ يُونُسَ {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [10: 61] وَفِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ بَيَانِ عِلْمِهِ بِمَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا فِي الصُّدُورِ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [11: 6] وَفِي سُورَةِ النَّمْلِ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [27: 74، 75] وَفِي سَبَأٍ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِينَّكُمْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [34: 3] وَفِي سُورَةِ طَهَ {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [20: 51، 52] وَفِي سُورَةِ الْحَدِيدِ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [57: 22] وَفِي سُورَةِ يس {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [36: 12] وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ {لِكُلِّ أَجْلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [13: 38، 39].
وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لِعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [43: 1- 4] وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [21: 105] وَرَدَ الذِّكْرُ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْقُرْآنِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِهِ وَغَيْرِهِ، وَفِي سُورَةِ الْقَمَرِ {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [54: 52، 53] وَفِي سُورَةِ الْبُرُوجِ {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [85: 21، 22] جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ فَسَّرَتْهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي نُورِدُ أَشْهَرَهَا:
رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- مَرْفُوعًا- وَغَيْرِهِ: «لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا: «كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْخَلْقِ. وَرَوَاهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ بِلَفْظِ: «وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ» وَفِيهَا: «ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ- قَالَ- وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» قَالَ شُرَّاحُ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «كَانَ اللهُ» إِلَخْ- إِنَّ الْمُرَادَ بِ «كَانَ» فِي الْأَوَّلِ: الْأَزَلِيَّةُ، وَفِي الثَّانِي: الْحُدُوثُ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ وَالْمَاءَ كَانَا مَبْدَأَ هَذَا الْعَالَمِ، أَيْ عَالِمِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَأَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلُ مَادَّتِهِ، وَالْعَرْشَ مَرْكَزُ التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ لَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ لَنَا فِي سُورَةِ (حم فُصِّلَتْ) أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ الْأَرْضَ مِنْ دُخَانٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ فِي حَالَتِهِ الْبُخَارِيَّةِ يَكُونُ دُخَانًا، أَوْ أَنَّ تِلْكَ الْمَادَّةَ الدُّخَانِيَّةَ مُعْظَمُهَا بُخَارٌ مَائِيٌّ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا عَنْ غَيْرِهِ بِمَعْنَاهُ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ أَوَّلِيَّةَ خَلْقِ الْقَلَمِ نِسْبِيَّةٌ، وَالْعَرْشُ خُلِقَ قَبْلَهُ، وَكَذَا الْمَاءُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ الْأَوَّلُ، وَكَذَا اللَّوْحُ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ. وَلَمْ يَرِدْ فِي خَلْقِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ، بَلْ وَرَدَ فِيهِ آثَارٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ.
فَلِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَثَرِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَلَى تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ وَالْإِمَامِ الْمُبِينِ، وَأُمِّ الْكِتَابِ، وَالذِّكْرِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا بِذَلِكَ الْكِتَابِ الْمُسَمَّى بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمِنَ التَّكَلُّفِ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ هُنَا، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَنْ نُؤْمِنَ بِالْقَلَمِ الْإِلَهِيِّ وَاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمَا كَتَبَ الْقَلَمُ فِي اللَّوْحِ مِنْ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ وَإِحْصَائِهِ جَمِيعَ مَا كَانَ وَيَكُونُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ بَدْءِ تَكْوِينِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نُحَكِّمَ آرَاءَنَا وَأَقْيِسَتَنَا فِي صِفَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا نَقْبَلُ قَوْلَ أَحَدٍ- غَيْرِ الْمَعْصُومِ- فِيمَا يَزْعُمُهُ مِنْ وَصْفِ اللَّوْحِ أَوِ الْقَلَمِ أَوْ تِلْكَ الْكِتَابَةِ، وَمِنَ الْجَهْلِ الْفَاضِحِ أَنْ نُشَبِّهَ ذَلِكَ بِمَا نَعْهَدُهُ مِنْ كِتَابَتِنَا، وَنَحْنُ نَرَى الْبَشَرَ قَدِ اخْتَرَعُوا لِتَدْوِينِ الْكَلَامِ طُرُقًا يَتَلَقَّاهَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى مَسَافَةِ أُلُوفٍ مِنَ الْأَمْيَالِ وَالْفَرَاسِخِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِوَاسِطَةِ الْكَهْرَبَاءِ الَّتِي تُسَخَّرُ لِذَلِكَ بِأَسْلَاكٍ وَبِغَيْرِ أَسْلَاكٍ، فَيَكْتُبُ أَحَدُهُمْ فِي لَوْحِ الْجَوِّ مَا شَاءَ أَنْ يَكْتُبَ فَيَتَكَيَّفُ بِهِ الْهَوَاءُ فِي هَذَا الْجَوِّ الْوَاسِعِ كُلِّهِ وَيَتَلَقَّاهَا آخَرُونَ بِآلَاتٍ عِنْدَهُمْ تَرْسُمُ لَهُمْ مَا رَسَمَ فِي الْهَوَاءِ، فَيَقْرَءُونَهُ وَيُدَوِّنُونَهُ لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِ أَوْ لِمَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ.