فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتصور المسلم للأمر على هذا النحو الذي توحي به أصول عقيدته في الحياة والموت والبعث والحساب، كفيل بأن ينزع كل تردد في إفراد الله سبحانه بالحكم- في هذه الأرض- في أمر العباد..
إن الحساب والجزاء والحكم في الآخرة، إنما يقوم على عمل الناس في الدنيا؛ ولا يحاسب الناس على ما اجترحوا في الدنيا إلا أن تكون هناك شريعة من الله تعين لهم ما يحل وما يحرم، مما يحاسبون يوم القيامة على أساسه؛ وتوحد الحاكمية في الدنيا والآخرة على هذا الأساس..
فأما حين يحكم الناس في الأرض بشريعة غير شريعة الله؛ فعلام يحاسبون في الآخرة؟ أيحاسبون وفق شريعة الأرض البشرية التي كانوا يحكمون بها؛ ويتحاكمون إليها؟ أم يحاسبون وفق شريعة الله السماوية التي لم يكونوا يحكمون بها؛ ولا يتحاكمون إليها؟
إنه لابد أن يستيقن الناس أن الله محاسبهم على أساس شريعته هو لا شريعة العباد.
وأنهم إن لم ينظموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم- كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم- وفق شريعة الله في الدنيا، فإن هذا سيكون أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله. وأنهم يومئذ سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا الله سبحانه إلهًا في الأرض؛ ولكنهم اتخذوا من دونه أربابًا متفرقة. وأنهم محاسبون إذن على الكفر بألوهية الله- أو الشرك به باتباعهم شريعته في جانب العبادات والشعائر، واتباعهم شريعة غيره في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وفي المعاملات والارتباطات- والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء..
ثم يحاكمهم إلى فطرتهم التي تعرف حقيقة الألوهية؛ وتلتجئ إلى إلهها الحق في ساعة الشدة؛ ويرسم لهم هذه الفطرة أمام الهول والكرب؛ وكيف يخالفون عنها في اليسر والرخاء.. في مشهد قصير سريع، ولكنه واضح حاسم، وموح مؤثر.
إن الهول والكرب الذي ترتعد له الفرائص ليس مؤجلًا دائمًا إلى يوم الحشر والحساب. فهم يصادفون الهول في ظلمات البر والبحر. فلا يتوجهون عند الكرب إلا لله؛ ولا ينجيهم من الكرب إلا الله.. ولكنهم يعودون إلى ما كانوا فيه من الشرك عند اليسر والرخاء: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعًا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون}..
إن تصور الخطر، وتذكر الهول، قد يردان النفوس الجامحة، ويرققان القلوب الغليظة، ويذكران النفس لحظات الضعف والإنابة؛ كما يذكرانها رحمة الفرج ونعمة النجاة: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعًا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكون من الشاكرين}..
إنها تجربة يعرفها كل من وقع في ضيقة، أو رأى المكروبين في لحظة الضيق.. وظلمات البر والبحر كثيرة. وليس من الضروري أن يكون الليل لتتحقق الظلمات. فالمتاهة ظلام، والخطر ظلام، والغيب الذي ينتظر الخلق في البر والبحر حجاب.. وحيثما وقع الناس في ظلمة من ظلمات البر والبحر لم يجدوا في أنفسهم إلا الله يدعونه متضرعين أو يناجونه صامتين.. إن الفطرة تتعرى حينئذ من الركام؛ فتواجه الحقيقة الكامنة في أعماقها.. حقيقة الألوهية الواحدة.. وتتجه إلى الله الحق بلا شريك؛ لأنها تدرك حينئذ سخافة فكرة الشرك، وتدرك انعدام الشريك! ويبذل المكروبون الوعود:
{لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين}..
والله سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم ليذكرهم بحقيقة الأمر:
{قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب}. فليس هنالك غيره يستجيب، ويقدر على دفع الكروب.
. ثم ليذكرهم بتصرفهم المنكر العجيب:
{ثم أنتم تشركون}..
وهنا يواجههم ببأس الله الذي قد يأخذهم بعد النجاة! فما هي مرة وتنتهي، ثم يفلتون من القبضة كما يتصورون: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}..
وتصور العذاب الغامر من فوق، أو النابع من تحت، أشد وقعًا في النفس من تصوره آتيًا عن يمين أو شمال. فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال! أما العذاب الذي يصب عليه من فوق، أو يأخذه من تحت، فهو عذاب غامر قاهر مزلزل، لا مقاومة له ولا ثبات معه! والتعبير الموحي يتضمن هذا المؤثر القوي في حس الإنسان ووهمه، وهو يقرر حقيقة قدرة الله على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء وكيف شاء.
ويضيف إلى ألوان العذاب الداخلة في قدرة الله؛ والتي قد يأخذ العباد بها متى شاء؛ لونًا آخر بطيئًا طويلًا؛ لا ينهي أمرهم كله في لحظة؛ ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار: {أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض}..
وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد؛ الذي يذوقونه بأيديهم، ويجرعونه لأنفسهم؛ إذ يجعلهم شيعًا وأحزابًا، متداخلة لا يتميز بعضها عن بعض، ولا يفاصل بعضها بعضًا، فهي أبدًا في جدال وصراع، وفي خصومة ونزاع، وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك..
ولقد عرفت البشرية في فترات كثيرة من تاريخها ذلك اللون من العذاب، كلما انحرفت عن منهج الله؛ وتركت لأهواء البشر ونزواتهم وشهواتهم وجهالتهم وضعفهم وقصورهم.. تصريف الحياة وفق تلك الأهواء والنزوات والشهوات والجهالة والضعف والقصور. وكلما تخبط الناس وهم يضعون أنظمة للحياة وأوضاعًا وشرائع وقوانين وقيمًا وموازين من عند أنفسهم؛ يتعبد بها الناس بعضهم بعضًا؛ ويريد بعضهم أن يخضع لأنظمته وأوضاعه وشرائعه وقوانينه البعض الآخر، والبعض الآخر يأبى ويعارض، وأولئك يبطشون بمن يأبى ويعارض. وتتصارع رغباتهم وشهواتهم وأطماعهم وتصوراتهم. فيذوق بعضهم بأس بعض، ويحقد بعضهم على بعض، وينكر بعضهم بعضًا، لأنهم لا يفيئون جميعًا إلى ميزان واحد؛ يضعه لهم المعبود الذي يعنو له كل العبيد، حيث لا يجد أحدهم في نفسه استكبارًا عن الخضوع له، ولا يحس في نفسه صغارًا حين يخضع له.
إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم، ثم يزاول هذا الحق فعلًا! إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعًا ملتبسة؛ لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعًا واحدًا، ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيدًا لبعض؛ ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها- لأنها غير مقيدة بشريعة من الله- ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص.
. ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض! وهم شيع؛ ولكنها ليست متميزة ولا منفصلة ولا مفاصِلة!
والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد!
وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المسلمة في الأرض. وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة- بها والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها، ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية- وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها؛ باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذي يؤثرون البقاء في الجاهلية، والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها.
إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب: {أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض}.. إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيديًا وشعوريًا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها- حتى يأذن الله لها بقيام دار إسلام تعتصم بها- وإلا أن تشعر شعورًا كاملًا بأنها هي الأمة المسلمة وأن ما حولها ومن حولها، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه، جاهلية وأهل جاهلية. وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج؛ وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين.
فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة، ولم تتميز هذا التميز، حق عليها وعيد الله هذا. وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع، ولا تتبين نفسها، ولا يتبينها الناس مما حولها. وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد؛ دون أن يدركها فتح الله الموعود!
إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات.. غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه، ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها..
ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله على أيدي جميع رسل الله، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره، وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم.. لم يقع في مرة واحدة، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتها لقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة- أي الدين- وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها- أي نظام حياتها- وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعًا.
وطريق هذه الدعوة واحد. ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعًا، صلوات الله عليهم وسلامه:
{انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}..
والله نسأل أن يجعلنا ممن يصرف الله لهم الآيات فيفقهون. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم} قال: يعني من أمرائكم {أو من تحت أرجلكم} يعني سفلتكم {أو يلبسكم شيعًا} يعني بالشيع الأهواء المختلفة {ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من وجه آخر عن ابن عباس في قوله: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم} قال: أئمة السوء {أو من تحت أرجلكم} قال: خدم السوء.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {عذابًا من فوقكم} قال: من قبل أمرائكم وأشرافكم {أو من تحت أرجلكم} قال: من قبل سفلتكم وعبيدكم.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي مالك {عذابًا من فوقكم} قال: القذف {أو من تحت أرجلكم} قال: الخسف.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم} قال: الصيحة والحجارة والريح {أو من تحت أرجلكم} قال: الرجفة والخسف وهما عذاب أهل التكذيب {ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: عذاب أهل الاقرار.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {عذابًا من فوقكم} قال: الحجارة {أو من تحت أرجلكم} قال: الخسف {أو يلبسكم شيعًا} قال: الاختلاف والاهواء المفترقة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: عذاب هذه الأمة أهل الاقرار بالسيف {أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض} وعذاب أهل التكذيب الصيحة والزلزلة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري والترمذي والنسائي ونعيم بن حماد في الفتن وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر بن عبد الله قال: «لما نزلت هذه الآية: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم} قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك {أو من تحت أرجلكم} قال: أعوذ بوجهك {أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: هذا أهون أو أيسر».
وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: «لما نزلت {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من ذلك {أو يلبسكم شيعًا} قال: هذا أيسر ولو استعاذه لأعاذه».
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه ونعيم بن حماد في الفتن وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: «في هذه الآية: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما انها كائنة ولم يأت تأويلها بعد».
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله: {قل هو القادر...} الآية. قال: هن أربع وكلهن عذاب، وكلهن واقع لا محالة، فمضت اثنتان بعد وفاة رسول صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعًا وذاق بعضهم بأس بعض، وبقيت اثنتان واقعتان لا محالة، الخسف والرجم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {قل هو القادر} قام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ثم قال: «اللهم لا ترسل على أمتي عذابًا من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم، ولا تلبسهم شيعًا، ولا تذق بعضهم بأس بعض، فأتاه جبريل فقال: إن الله قد أجار أمتك أن يرسل عليهم عذابًا من فوقهم أو من تحت أرجلهم».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوت ربي أن يدفع عن أمتي أربعًا، فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين: دعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعًا، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الرجم والغرق، وأبى أن يرفع القتل والهرج».
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن خزيمة وابن حبان عن سعد بن أبي وقاص: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا ربه طويلًا ثم انصرف إلينا فقال: سألت ربي ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».