فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} بأن يشغلك فتنسى الأمر بالإعراض عنهم فتجالسهم ابتداء أو بقاء، وهذا على سبيل الفرض إذ لم يقع وأنى للشيطان سبيل إلى إشغال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا عبر بأن الشرطية المزيدة ما بعدها.
وذهب بعض المحققين أن الخطاب هنا وفيما قبل لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام والمراد غيره، وقيل: لغيره ابتداء أي إذا رأيت أيها السامع وإن أنساك أيها السامع والمشهور عن الرافضة اختيار أن النبي صلى الله عليه وسلم منزه عن النسيان لقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] وأن غيرهم ذهب إلى جوازه وعلى نسبة الأول إليهم نص صاحب الأحكام والجبائي وغيرهما.
وقال الأخير: إن الآية دليل على بطلان قولهم ذلك.
والذي وقفت عليه في معتبرات كتبهم أنهم لا يجوزون النسيان، وكذا السهو على النبي صلى الله عليه وسلم وكذا على سائر الأنبياء عليهم السلام فيما يؤديه عن الله تعالى من القرآن والوحي، وأما ما سوى ذلك فيجوزون عليه عليه الصلاة والسلام أن ينساه ما لم يؤد إلى إخلال الدين.
وأنا أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن في استحالته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفصيل الكلام في ذلك على ما في معتبرات كتبنا أن مذهب جمهور العلماء جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع وهو ظاهر القرآن والأحاديث لكن اتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر عليه بل يعلمه الله تعالى به، ثم قال الأكثرون يشترط تنبهه عليه الصلاة والسلام على الفور متصلًا بالحادثة ولا يقع فيه تأخير، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته صلى الله عليه وسلم واختاره إمام الحرمين، ومنعت ذلك طائفة من العلماء في الأفعال البلاغية والعبادات كما أجمعوا على منعه واستحالته عليه صلى الله عليه وسلم في الأقوال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك.
وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني، وصحح النووي الأول فإن ذلك لا ينافي النبوة، وإذا لم يقر عليه لم يتحصل منه مفسدة ولا ينافي الأمر بالاتباع بل يحصل منه فائدة وهو بيان أحكام الناسي وتقرر الأحكام.
وذكر القاضي أنهم اختلفوا في جواز السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان أحكام الشرع من أفعاله وعاداته وأذكار قلبه فجوزه الجمهور.
وأما السهو في الأقوال البلاغية فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على امتناع تعمده، وأما السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة وما يتعلق بها ولا يضاف إلى وحي فيجوزه قوم إذ لا مفسدة فيه، ثم قال: والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من قال: يمتنع ذلك على الأنبياء عليهم السلام في كل خبر من الأخبار كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدًا ولا سهوًا لا في صحة ولا مرض ولا رضى ولا غضب، وحسبك في ذلك أن سِيَره صلى الله عليه وسلم وكلامه وأفعاله مجموعة يعتنى بها على مر الزمان ويتناولها الموافق والمخالف والمؤمن والمرتاب فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة ولو كان لنقل كما نقل سهوه في الصلاة ونومه عليه الصلاة والسلام عنها واستدراكه رأيه في تلقيح النخل وفي نزوله بأدنى مياه بدر إلى غير ذلك.
وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع.
وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على هذا المبحث عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الآية.
وقرأ ابن عامر {يُنسِيَنَّكَ} بتشديد السين ونسي بمعنى أنسى، وقال ابن عطية: نسي أبلغ من أنسى والنون في القراءتين مشددة وهي نون التوكيد، والمشهور أنها لازمة في الفعل الواقع بعد أن الشرطية المصحوبة بما الزائدة، وقيل: لا يلزم فيه ذلك، وعليه قول ابن دريد:
أما ترى رأسي حاكي لونه ** طرة صبح تحت أذيال الدجى

{فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} أي بعد تذكر الأمر بالإعراض كما عليه جمهور المفسرين.
وقال أبو مسلم: المعنى بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى الدين ونهيك لهم عن الخوض في الآيات وليس بشيء.
وجوز الزمخشري أن تكون {الذكرى} بمعنى تذكير الله تعالى إياه وأن المعنى وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه، ولا يخفى أنه وجه بعيد مبني على قاعدة القبح والحسن التي هدمتها معاول أفكار العلماء الراسخين، ثم إنا لا نسلم أن مجالسة المستهزئين مما ينكره العقول مطلقًا، وذكر ابن المنير أن اللائق على ما قال وإن أنساك دون {أَمَّا يُنسِيَنَّكَ} على أن إنساء الشيطان إن صح فعن السمعي أيسر، وليس هذا أول خوض من الزمخشري في تأويل الآيات بل ذلك دأبه.
{مَعَ القوم الظالمين} أي معهم فوضع المظهر موضع المضمر نعيًا عليهم أنهم بذلك الخوض ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاء، موضع التصديق والتعظيم راسخون في ذلك، وفي الآية كما قال غير واحد إيذان بعدم تكليف الناسي، وهذه من المسائل المتنازع فيها بينهم وعنونوها بمسألة تكليف الغافل وعدوا منه الناسي وللأشعري فيها قولان وصوب عدم التكليف لعدم الفائدة فيه أصلًا بخلاف التكليف بالمحال.
ونقل ابن برهان في الأوسط عن الفقهاء القول بصحة تكليفه على معنى ثبوت الفعل بالذمة، وعن المتكلمين المنع إذ لا يتصور ذلك عندهم، وقد يظن أن الشافعي لنصه على تكليف السكران يرى تكليف الغافل وهو من بعض الظن فإنه إنما كلف السكران عقوبة له لأنه تسبب بمحرم حصل باختياره ولهذا وجب عليه الحد بخلاف الغافل.
وأورد على القول بالامتناع أن العبد مكلف بمعرفة الله تعالى بدون العلم بالأمر وذلك لأن الأمر بمعرفته سبحانه وارد فلا جائز أن يكون واردًا بعد حصولها لامتناع تحصيل الحاصل فيكون واردًا قبله فيستحيل الإطلاق على هذا الأمر لأن معرفة أمره تعالى بدون معرفته سبحانه مستحيل فقد كلف معرفة الله تعالى مع غفلته عن ذلك التكليف.
وأجيب: بأن المعرفة الإجمالية كافية في انتفاء الغفلة والمكلف به هو المعرفة التفصيلية أو بأن شرط التكليف إنما هو فهم المكلف له بأن يفهم الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال لا بأن يصدق بتكليفه وإلا لزام الدور وعدم تكليف الكفار وهو هنا قد فهم ذلك وإن لم يصدق به.
وصاحب المنهاج تبعًا لصاحب الحاصل أجاب بأن التكليف بمعرفة الله تعالى خارج عن القاعدة بالإجماع، وتمام البحث يطلب من كتب الأصول. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وإمَّا ينسينَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} عطف حالة النّسيان زيادة في تأكيد الأمر بالإعراض.
وأسند الإنساء إلى الشيطان فدلّنا على أنّ النسيان من آثار الخلقة التي جعل الله فيها حظًّا العلم الشيطان.
كما ورد أنّ التثاؤب من الشيطان، وليس هذا من وَسْوسة الشيطان في أعمال الإنسان لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من وسوسة الشيطا في ذلك، فالنسيان من الأعراض البشرية الجائزة على الأنبياء في غير تبليغ ما أمروا بتبليغه، عند جمهور علماء السنّة من الأشاعرة وغيرهم.
قال ابن العربي في الأحكام: إنّ كبار الرافضة هم الذين ذهبوا إلى تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم من النسيان. اهـ.
قال ابن عاشور:
وهو قول لبعض الأشعرية وعزي إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفِرائيني فيما حكاه نور الدين الشيرازي في شرح للقصيدة النونية لشيخه تاج الدين السبكي.
ويتعيّن أنّ مراده بذلك فيما طريقه البلاغ كما يظهر ممّا حكاه عنه القرطبي: وقد نَسي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّم من ركعتين في الصلاة الرباعية، ونسي آيات من بعض السور تذّكرها لمّا سمع قراءة رجل في صلاة الليل، كما في الصحيح.
وفي الحديث الصحيح: «إنّما أنا بَشَر أنسَى كما تنسَوْن فإذا نسيتُ فذكّروني» فذلك نسيان استحضارها بعد أن بلَّغها.
وليس نظرنا في جواز ذلك وإنَّما نظرنا في إسناد ذلك إلى الشيطان فإنَّه يقتضي أنّ للشيطان حظًّا له أثر في نفس الرسول، فيجوز أن تكون بعض الأعراض البشرية التي يجوز طروّها على الأنبياء قد جعلها الله في أصل الخلقة من عمل الشياطين، كما جعل بعض الأعراض موكولة للملائكة، ويكون النسيان من جملة الأعراض الموكولة إلى الشياطين كما تكرّر إسناده إلى الشيطان في آيات كثيرة منها.
وهذا مثل كون التثاؤب من الشيطان، وكوْن ذات الجَنْب من الشيطان.
وقد قال أيّوب {أنِّي مسَّني الشيطان بنُصب وعَذَاب} [ص: 41]، وحينئذٍ فالوجه أنّ الأعراض البشرية الجائزة على الأنبياء التي لا تخلّ بتبليغ ولا تُوقعُ في المعصية قد يكون بعضها من أثر عمل الشيطان وأنّ الله عصمهم من الشيطان فيما عدا ذلك.
ويجوز أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم قد خصّ من بين الأنبياء بأن لا سلطة لعمل شيطاني عليه ولو كان ذلك من الأعراض الجائزة على مقام الرسالة، فإنَّما يتعلَّق به من تلك الأعراض ما لا أثر للشيطان فيه.
وقد يدلّ لهذا ما ورد في حديث شقّ الصدر: أنّ جبريل لمَّا استخرج العلقة قال: هذا حظّ الشيطان منك، يعني مركز تصرّفاته، فيكون الشيطان لا يتوصّل إلى شيء يقع في نفس نبيّنا صلى الله عليه وسلم إلاّ بواسطة تدبير شيء يشغل النبي حتَّى ينسى مثل ما ورد في حديث الموطأ حين نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووكَّل بلالًا بأن يكلأ لهم الفجر، فنام بلال حتَّى طلعت الشمس، فإنّ النبي قال: «إنّ الشيطَان أتى بلالًا فلم يزل يُهَدّئُه كما يُهَدّأ الصبيّ حتّى نام» فأمّا نوم النبي والمسلمين عدا بلالًا فكان نومًا معتادًا ليس من عمل الشيطان.
وإلى هذا الوجه أشار عياض في الشفاء.
وقريب منه ما ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ليلة القدر، فخرج ليُعلم الناس فتَلاحَى رجلان فرُفعت.
فإنّ التلاحي من عمل الشيطان، ولم يكن يستطيع رفع ليلة القدر بنفسه فوسوس بالتلاحي.
والحاصل أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الوسوسة، وأمّا ما دونها مثل الإنساء والنزْغ فلا يلزم أن يعصم منه.
وقد يفرّق بين الأمرين: أنّ الوسوسة آثارها وجودية والإنساء والنزغ آثارهما عدمية، وهي الذهول والشغل ونحو ذلك.
فالمعنى إن أنساك الشيطان الإعراض عنهم فإن تذكّرتَ فلا تقعد معهم، فهذا النسيان ينتقل به الرسول صلى الله عليه وسلم من عبادة إلى عبادة، ومن أسلوب في الدّعوة إلى أسلوب آخر، فليس إنساء الشيطان إيَّاه إيقاعًا في معصية إذ لا مفسدة في ارتكاب ذلك ولا يحصل به غرض من كيد الشيطان في الضلال، وقد رفع الله المؤاخذة بالنسيان، ولذلك قال: {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}، أي بعد أن تتذكَّر الأمر بالإعراض.
فالذكرى اسم للتذكّر وهو ضدّ النّسيان، فهي اسم مصدر، أي إذا أغفلت بَعد هذا فقعدت إليهم فإذا تذكَّرت فلا تقعد، وهو ضدّ فأعرض، وذلك أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه.
وقرأ الجمهور: {يُنْسِيَنّك} بسكون النون وتخفيف السين.
وقرأه ابن عامر بفتح النون وتشديد السين من التنسية، وهي مبالغة في أنساه.
ومن العلماء من تأوّل هذه الآية بأنَّها مما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمَّته، كقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} [الزمر: 65] قال أبو بكر بن العربي إذا عذرنا أصحابنا في قولهم ذلك في {لئن أشركت ليحبطنّ} عملك لاستحالة الشرك عليه فلا عذر لهم في هذه الآية لجواز النسيان عليه.
والقوم الظالمون هم الذين يخوضون في آيات الله، فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لزيادة فائدة وصفهم بالظلم، فيعلم أنّ خوضهم في آيات الله ظلم، فيعلم أنَّه خوض إنكار للحقّ ومكابرة للمشاهدة. اهـ.