فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى البغوي عن ابن عبَّاس قال: لمَّا نزلت {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} [الأنعام: 68] قال المسلمون: كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدًا.
فأنزل الله عزّ وجل: {وما على الذين يتّقون من حسابهم من شيء} يعني إذا قمتم عنهم فما عليكم تبعةُ ما يقولون في حال مجانبتكم إيَّاهم إذ ليس عليكم جرى ذلك وما عليهم أن يمنعوهم.
وقوله: {وما على الذين يتّقون من حسابهم من شيء} تقدّم تفسير نظيره آنفًا، وهو قوله: {ما عليك من حسابهم من شيء} [الأنعام: 68].
ثمّ الحساب هنا مصدر مضاف إلى ضمير الذين يخوضون في الآيات.
فهذا المصدر بمنزلة الفعل المبني للمجهول فيحتمل أن يكون فاعله {الذين يتَّقون} على وزان ما تقدّم في قوله: {ما عليك من حسابهم من شيء} [الأنعام: 52]، أي ما على الذين يتَّقون أن يحاسِبُوا الخائضين، أي أن يمنعوهم من الخوض إذ لم يكلّفهم الله بذلك لأنَّهم لا يستطيعون زجر المشركين، ويحتمل أن يكون فاعله الله تعالى كقوله: {ثمّ إنّ علينا حسابهم} [الغاشية: 26] أي ما على الذين يتَّقون تبعة حساب المشركين، أي ما عليهم نصيب من إثم ذلك الخوض إذا سمعوه.
وقوله: {ولكن ذكرى} عطفت الواو الاستدراكَ على النفي، أي ما عليهم شيء من حسابهم ولكن عليهم الذكرى.
والذكرى اسم مصدر ذكَّر بالتشديد بمعنى وعظ، كقوله تعالى: {تبصرة وذكرى لكلّ عبد منيب} [ق: 8]، أي عليهم إن سمعُوهم يستهزئون أن يعظُوهم ويُخوّفوهم غضب الله فيجوز أن يكون {ذكرى} منصوبًا على المفعول المطلق الآتي بدلًا من فعله.
والتقدير: ولكن يُذكّرونهم ذكرى.
ويجوز أن يكون ذكرى مرفوعًا على الابتداء، والتقدير: ولكن عليهم ذكرى.
وضمير {لعلَّهم يتَّقون} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {حسابهم} أي لعلّ الذين يخوضون في الآيات يتَّقون، أي يتركون الخوض.
وعلى هذا فالتقوى مستعملة في معناها اللغوي دون الشرعي.
ويجوز أن يكون الضمير عائدًا إلى {الذين يتَّقون}، أي ولكن عليهم الذكرى لعلَّهم يتَّقون بتحصيل واجب النهي عن المنكر أو لعلَّهم يستمرّون على تقواهم.
وعن الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى، أي قوله: {وإمَّا ينسينَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [الأنعام: 68] تذكرة لك وليست مؤاخذة بالنسيان، إذ ليس على المتَّقين تبعة سماع استهزاء المستهزئين ولكنّا ذكَّرناهم بالإعراض عنهم لعلَّهم يتَّقون سماعهم.
والجمهور على أنّ هذه الآية ليست بمنسوخة.
وعن ابن عبَّاس والسدّي أنَّها منسوخة بقوله تعالى في سورة [النساء: 140] {وقد نزّل عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتم آيات الله يُكْفَرُ بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتَّى يخُوضُوا في حديث غيره إنَّكم إذن مثلهم} بناء على رأيهم أنّ قوله: {وما على الذين يتَّقون من حسابهم من شيء} أباح للمؤمنين القعود ولم يمنعه إلاّ على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} [الأنعام: 68] كما تقدّم آنفًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)} أي أنك إذا كنت معهم وخاضوا في الحديث فقمت من مجلسهم أو نسيت وقعدت ثم تذكرت فقمت، فأنت تلفتهم إلى أنّ ما أقامك من مجلسهم هو شيء أكثر أهمية من هذا المجلس، إنه احترام تكليف الله فيما أمرك به ونهاك عنه، وليس عليك ولا على الذين يتقون الله من أوزار هؤلاء الظالمين من شيء، وليس عليكم من حسابهم من شيء، ومجرد قيامكم من مجلسهم هو تذكرة لهم لعلهم يتفكرون في منطق الحق ويخشون الله ويبعدون أنفسهم عن الوقوع في الباطل حتى يكونوا في وقاية من عذاب الله وسخطه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، هذه الآية الكريمة يفهم منها أنه لا إثم على من جالس الخائضين في آيات الله بالاستهزاء والتكذيب.
وقد جاءت آية تدل على أن من جالسهم كان مثلهم في الإثم وهي قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} إلى قوله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}.
اعلم أولا أن في معنى قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وجهين للعلماء:
الأول: أن المعنى: وما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شيء، وعلى هذا الوجه فلا إشكال في الآية أصلا.
الوجه الثاني: أن معنى الآية وما على الذين يتقون ما يقع من الكفار في الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء، وعلى هذا القول فهذا الترخيص في مجالسة الكفار للمتقين من المؤمنين كان في أول الإسلام للضرورة ثم نسخ بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}، وممن قال بالنسخ فيه مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير.
فظهر أن لا إشكال على كلا القولين.
ومعنى قوله تعالى: {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} على الوجه الأول أنهم إذا اجتنبوا مجالستهم سلموا من الإثم ولكن الأمر باتقاء مجالستهم عند الخوض في الآيات لا يسقط وجوب تذكيرهم ووعظهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لعلهم يتقون الله بسبب ذلك، وعلى الوجه الثاني فالمعنى أن الترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير لعلهم يتقون الخوض في آيات الله بالباطل إذا وقعت منكم الذكرى لهم وأما جعل الضمير للمتقين فلا يخفى بعده والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال القرطبي:

في هذه الآية ردٌّ من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حُجَجٌ وأتباعَهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوّبوا آراءهم تَقِيّة.
وذكر الطبريّ عن أبي جعفر محمد بن عليّ رضي الله عنه أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.
قال ابن العربيّ: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحِلّ.
قال ابن خُوَيْزَ مَنْدَاد: من خاض في آيات الله تُركت مجالسته وهُجر، مؤمنًا كان أو كافرًا.
قال: وكذلك منع أصحابنا الدخولَ إلى أرض العدوّ ودخولَ كنائسهم والبِيعَ، ومجالسةَ الكفار وأهلِ البِدَع، وألاّ تُعتقد مودّتهم ولا يُسمع كلامهم ولا مناظرتهم.
وقد قال بعض أهل البِدع لأبي عِمران النَّخَعِيّ: اسمع مني كلمة؛ فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة.
ومثله عن أيوب السِّختِيانيّ.
وقال الفُضيل بن عِيَاض: من أحبّ صاحبَ بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه، ومن زوّج كريمته من مُبْتدِع فقد قطع رَحِمَها، ومن جلس مع صاحب بِدْعة لم يُعط الحكمة، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مُبغِض لصاحب بِدْعة رجَوْتُ أن يغفر الله له.
وروى أبو عبد الله الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وَقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» فبطل بهذا كُلِّه قولُ مَن زعم أن مجالستهم جائزة إذا صانوا أسماعهم. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} ونحو هذا في القرآن قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} قال: نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوصون في آيات الله يكذبون بها، فإن نسى فلا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} قال: يستهزئون بها، نهى محمد صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى، فإذا ذكر فليقم، وذلك قول الله: {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك وسعيد بن جبير في قوله: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} قال: الذين يكذبون بآياتنا يعني المشركين {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى} بعد ما تذكر. قال: إن نسيت فذكرت فلا تجلس معهم {وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء} قال: ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك {ولكن ذكرى لعلهم يتقون} ذكروهم ذلك وأخبروهم أنه يشق عليكم مساءتكم، ثم أنزل الله: {وقد نزل عليكم في الكتاب} [النساء: 140] الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فسبوه واستهزأوا به، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن سيرين في قوله: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} قال: كان يرى أن هذه الآية نزلت في أهل الأهواء.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن علي قال: أن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عي ابن جريج قال: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه، فإذا سمعوا استهزأوا، فنزلت {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم...} الآية. قال فجعلوا إذا استهزأوا قام فحذروا، وقالوا: لا تستهزأوا فيقوم، فذلك قوله: {لعلهم يتقون} إن يخوضوا فيقوم، ونزل {وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء} أن تقعد معهم ولكن لا تعقد، ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم} [النساء: 140] إلى قوله: {إنكم إذًا مثلهم} [النساء: 140] نسخ قوله: {وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء} الآية.
وأخرج الفريابي وأبو نصر السجزي في الإِبانة عن مجاهد في قوله: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} قال: هم أهل الكتاب، نهى أن يقعد معهم إذا سمعهم يقولون في القرآن غير الحق.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي وائل قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الكذب ليضحك بها جلساءه فيسخط الله عليه، فذكر ذلك لإِبراهيم النخعي فقال: صدق، أو ليس ذلك في كتاب الله: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم...} الآية.
وأخرج أبو الشيخ عن مقاتل قال: كان المشركون بمكة إذا سمعوا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاضوا واستهزأوا، فقال المسلمون: لا يصلح لنا مجالستهم نخاف أن نخرج حين نسمع قولهم ونجالسهم فلا نعيب عليهم، فأنزل الله في ذلك {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم...} الآية.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا...} الآية. قال: نسختها هذه الآية التي في سورة النساء {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها} [النساء: 140] الآية. ثم أنزل بعد ذلك {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5].
وأخرج النحاس في ناسخة عن ابن عباس في قوله: {وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء} قال: هذه مكية نسخت بالمدينة بقوله: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها} [النساء: 140] الآية.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن مجاهد {وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء} إن قعدوا ولكن لا تقعد.
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: لما هاجر المسلمون إلى المدينة جعل المنافقون يجالسونهم، فإذا سمعوا القرآن خاضوا واستهزأوا كفعل المشركين بمكة، فقال المسلمون: لا حرج علينا قد رخص الله لنا في مجالستهم، وما علينا من خوضهم فنزلت بالمدينة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة قال: أتى عمر بن عبد العزيز بقوم قعدوا على شراب معهم رجل صائم، فضربه وقال: {لا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
يجوز أن تقدر ما حجازية، فيكون مِنْ شيءٍ اسمها، ومن مزيدة فيه لتأكيد الاستغراقِ، و{على الذين يتَّقُون} خبرها عند من يُجيزُ إعمالها مقدمة الخبر مطلقًا، أو يرى ذلك في الظَّرْفِ وعديلِهِ.
و{مِنْ حِسَابِهِمْ} حالٌ من {شيء} لأنه لو تأخَّر لكان صِفَةً، ويجوز أن تكون مُهْمَلةً إما على لُغَةِ تميم وإما على لغة الحجاز لِفَواتِ شرطٍ، وهو تقديم خبرها وإن كان طرفًا، وتحقيق ذلك مما تقدَّم في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 52]