فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَمَّا الْوُجُوهُ الْأُخْرَى (فَأَوَّلُهَا) أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمُ الَّذِي كُلِّفُوهُ وَدُعُوا إِلَيْهِ- وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ- لَعِبًا وَلَهْوًا حَيْثُ سَخِرُوا بِهِ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ. (الثَّانِي) اتَّخَذُوا مَا هُوَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ دِينًا لَهُمْ. (الثَّالِثُ) أَنَّ الْكَفَّارَ كَانُوا يَحْكُمُونَ فِي دِينِ اللهِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالتَّمَنِّي مِثْلَ تَحْرِيمِ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ، وَمَا كَانُوا يَحْتَاطُونَ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَلْبَتَّةَ، وَيَكْتَفُونَ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ، فَعَبَّرَ اللهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا. (الْخَامِسُ) قَالَ- وَهُوَ الْأَقْرَبُ: إِنَّ الْمُحَقِّقَ فِي الدِّينِ هُوَ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ لِأَجْلِ أَنَّهُ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَصَوَابٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى أَخْذِ الْمَنَاصِبِ وَالرِّيَاسَةِ وَغَلَبَةِ الْخَصْمِ وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ فَهُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا الدِّينَ لِلدُّنْيَا، وَقَدْ حَكَمَ اللهُ عَلَى الدُّنْيَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ يَتَوَسَّلُ بِدِينِهِ إِلَى دُنْيَاهُ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي حَالِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ وَجَدْتَهُمْ مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَدَاخِلِينَ تَحْتَ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ.
أَقُولُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نَحْوًا مِنْ هَذَا فِي التَّفْسِيرِ {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} وَقَدْ جَعَلَ هُوَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُؤَيِّدَةً لَهُ، وَجَعَلَهُ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ اللَّعِبِ وَاللهْوِ، ذَاهِلًا عَنْ كَوْنِهِ لَا يَظْهَرُ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُصِدُوا بِهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ اعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَفِيهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِينِ} [109: 6] وَقَوْلُهُ: {لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} [5: 57] فَاللهُ تَعَالَى لَا يُضِيفُ دِينَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفَّارِ. وَأَمَّا مَعْنَى غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهَا خَدَعَتْهُمْ وَأَغْفَلَتْهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَا هِيَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ، وَعَنْ كَوْنِ الْبَعْثِ حَقًّا، وَالْعَدْلِ الْمَحْضَ مِنَ الْمُحَالِ، فَاشْتَغَلُوا بِلَذَّاتِهَا الْحَقِيرَةِ الْفَانِيَةِ الْمَشُوبَةِ بِالْمُنَغِّصَاتِ عَمَّا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ مُؤَيَّدًا بِالْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَاسْتَبْدَلُوا الْخَوْضَ فِيهَا، بِمَا كَانَ يَجِبُ مِنْ فِقْهِهَا وَتُدَبُّرِهَا.
وَهَذَا الْأَمْرُ بِتَرْكِ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ قَدْ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [15: 3] وَهُوَ تَهْدِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [4، 5] وَوَرَدَ مِثْلُهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ فِي الْآيَتَيْنِ (43: 83، 70: 42) وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، وَأَنَّهُ نُسِخَ بِآيَةِ الْقِتَالِ، رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَضَعَّفَهُ الْمُحَقِّقُونَ. وَإِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ مَعْنَى التَّهْدِيدِ كَانَ مَعْنَاهُ: ذَرْهُمْ وَلَا تَهْتَمَّ بِخَوْضِهِمْ وَلَا تَكْذِيبِهِمْ، وَعَلَيْكَ مَا كُلِّفْتَهُ وَحَمَلْتَهُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} الْبَسْلُ مَصْدَرُ بَسَلَهُ، يُطْلَقُ بِمَعْنَى حَبْسِ الشَّيْءِ وَمَنْعِهِ بِالْقَهْرِ، وَبِمَعْنَى الرَّهْنِ وَالْإِبَاحَةِ، وَأَبْسَلَ الشَّيْءَ كَبَسَلَهُ: أَسْلَمَهُ لِلْهَلَاكِ، وَمِنْهُ أَسَدٌ بَاسِلٌ وَرَجُلٌ بَاسِلٌ، أَيْ شُجَاعٌ مُمْتَنِعٌ عَلَى أَقْرَانِهِ، أَوْ مَانِعٌ لِمَا يُرِيدُ حِفْظَهُ أَنْ يُنَالَ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {بِهِ} لِلْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ الْمُذَكِّرُ، وَبِقَرِينَةِ الْمُقَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةٍ ق: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [50: 45] وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَمَا قَالُوا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَعْنَى الْإِبْسَالِ: الْفَضِيحَةُ، وَالْإِسْلَامُ لِلْهَلَاكِ، وَالْحَبْسُ فِي النَّارِ. وَكَانَ الْأَخِيرُ جَوَابَهُ لِنَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِالْأَخَصِّ لِبَيَانِ الْمُرَادِ، قَالَ نَافِعٌ: أَوَتَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ زُهَيْرًا وَهُوَ يَقُولُ:
وَفَارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ ** يَوْمَ الْوَدَاعِ وَقَلْبٍ مُبْسَلٍ غَلِقًا

وَالْمَعْنَى: وَذَكِّرِ النَّاسَ وَعِظْهُمْ بِالْقُرْآنِ اتِّقَاءَ أَنْ تُبْسَلَ كُلُّ نَفْسٍ فِي الْآخِرَةِ بِمَا كَسَبَتْ، أَيِ اتِّقَاءَ حَبْسِهَا، أَوْ رَهْنِهَا فِي الْعَذَابِ، أَوْ إِسْلَامِهَا إِلَيْهِ، أَوْ مَنْعِهَا مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَتَفَادِيًا مِنْ ذَلِكَ بِمَا بَيَّنَهُ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ. وَيُؤَيِّدُ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [74: 38، 39] الْآيَةَ. وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَخَافَةَ أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تُبْسَلَ. وَبَعْضُهُمْ: لِئَلَّا تُبْسَلَ.
ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى النَّفْسَ الْبِسِلَةَ أَوْ عَلَّلَ إِبْسَالَهَا بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} أَيْ: وَلَيْسَ لَهَا مِنْ غَيْرِ اللهِ وَلِيٌّ، أَيْ نَاصِرٌ يَنْصُرُهَا، أَوْ قَرِيبٌ يَتَوَلَّى أَمْرَهَا، وَلَا شَفِيعٌ يَشْفَعُ لَهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [40: 18] فِي يَوْمٍ وَصَفَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [2: 254] وَالْأَمْرُ فِيهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةِ جَمِيعًا} [39: 44] {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [2: 255] {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [34: 23] {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [21: 28].
فَكُلُّ نَفْسٍ تَأْتِيهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ- وَهُوَ تَعَالَى غَيْرُ رَاضٍ عَنْهَا- فَهِيَ مُبْسَلَةٌ بِمَا كَسَبَتْ مِنْ سَيِّئِ عَمَلِهَا.
{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} الْعَدْلُ- بِالْفَتْحِ- مَا عَادَلَ الشَّيْءَ وَسَاوَاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [5: 95] وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَادِيَ يَعْدِلُ الْمَفْدِيِّ بِمِثْلِهِ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعَدْلُ هَذَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِالْبَاءِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فَكُلُّ عَدْلٍ مَنْصُوبٌ هُنَا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لَا الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَفْدِ النَّفْسُ الْمُبْسَلَةُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِدَاءِ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا- أَيْ لَا يَقَعُ الْأَخْذُ وَلَا يَحْصُلُ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ أَكْلٍ مِنَ الْقَصْعَةِ وَسَيْرٍ مِنَ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ- وَهُوَ مَصْدَرٌ- لَا يُؤْخَذُ أَخْذًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ الْأَخْذُ مَعْنَى الْقَبُولِ، وَأَنْ يُعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْعَدْلِ، وَهُوَ الْفِدَاءُ بِمَعْنَى الْمَفْدِيِّ بِهِ وَإِنْ عُدَّ هُنَا مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِخْدَامِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْعَدْلُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَعْنَى الْمَعْدُولِ بِهِ، أَيِ الْفِدْيَةِ، وَأُسْنِدَ إِلَى الْأَخْذِ وَإِلَى الْقَبُولِ، قَالَ: {وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [2: 48]. وَقَالَ: {وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [2: 123].
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِبْطَالُ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْوَثَنِيَّةِ، وَهُوَ تَعْلِيقُ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ- كَنَيْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ فِي الدُّنْيَا- بِتَقْدِيمِ الْفِدْيَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ عِنْدَهُ أَيْ بِوَسَاطَةِ الْوُسَطَاءِ- وَتَقْرِيرُ أَصْلِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ، وَرِضْوَانَ اللهِ، وَالْقِرَبَ مِنْهُ لَا تُنَالُ إِلَّا بِمَا شَرَعَهُ اللهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ- وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي تَتَزَكَّى بِهِ الْأَنْفُسُ مَعَ الْإِيمَانِ الْإِذْعَانِيِّ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ، وَمِنْ إِبْسَالِهِمْ كَسْبُهُمْ لِلسَّيِّئَاتِ وَالْخَطَايَا، وَاتِّخَاذُهُمُ الدِّينَ لَعِبًا وَلَهْوًا، وَغُرُورُهُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَلَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةٌ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ فِدْيَةٌ.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذَكَرَهُمْ، الَّذِينَ أُسْلِمُوا لِلْهَلَكَةِ، وَارْتُهِنُوا، وَحُبِسُوا عَنْ دَارِ السَّعَادَةِ بِسَبَبِ مَا كَسَبُوا مِنَ الْأَوْزَارِ وَالْآثَامِ، حَتَّى أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ دِينِهِمُ الَّذِي اتَّخَذُوهُ لَعِبًا وَلَهْوًا مَا يَزْجُرُهُمْ عَنْهَا. وَمَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ بَعْدَ الْإِبْسَالِ؟ {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أَيْ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ مَاءٍ حَمِيمٍ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ- وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّدِيدِ الْبُرُودَةِ أَيْضًا- وَعَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمُ الَّذِي ظَلُّوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَيْهِ طُولَ حَيَاتِهِمْ، حَتَّى صَرَفَهُمْ عَمَّا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى- لَوِ اتَّبَعُوهُ- سَبَبَ نَجَاتِهِمْ. أَوِ التَّقْدِيرُ: أُولَئِكَ الْمُبْسَلُونَ بِكَسْبِهِمْ، لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ؛ وَبِهَذَا ظَهَرَ الْفِرَقُ بَيْنَ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ بِالْكَسْبِ وَالتَّعْلِيلِ الثَّانِي بِالْكُفْرِ، فَالْأَوَّلُ ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَالثَّانِي بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ الدَّالِّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، فَلَوْلَا رُسُوخُهُمْ فِي الْكُفْرِ الَّذِي أَفْسَدَ فِطْرَتَهُمْ حَتَّى أَصَرُّوا عَلَيْهِ إِصْرَارًا دَائِمًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ- لَمَا كَانَ مُجَرَّدُ كَسْبِ بَعْضِ السَّيِّئَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ يَنْهَضُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ وَوُقُوعِهِمْ فِي هَذَا الْعَذَابِ كُلِّهِ. وَفِي الْآيَةِ أَكْبَرُ الْعِبَرِ لِمَنْ يَفْقَهُ الْكَلَامَ، وَلَا يَغْتَرُّ بِلَقَبِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّمَا الْمُسْلِمُ مَنِ اتَّخَذَ إِمَامَهُ الْقُرْآنَ وَسُنَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، لَا مَنِ اغْتَرَّ بِالْأَمَانِ وَالْأَوْهَامِ، وَانْخَدَعَ بِالرُّؤَى وَالْأَحْلَام. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}.
قلنا- من قبل: إن اللعب هو الاشتغال بما لا يفيد لقتل الوقت. وعرفنا أن اللعب مجاله قبل التكليف أي قبل سن البلوغ. وإذا شغلك اللعب عن شيء مطلوب منك فهو لهو؛ لأنك لهيت عن امر واجب عليك، فاللهو- إذن- هو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة.
وقوله الحق: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} هو تصوير لا يوجد أبرع منه؛ لأنهم أصحاب العقول التي تغتر بالحياة الدنيا فهي عقول تائهة؛ فالعقل الناضج يفهم الدنيا على أنها أقل شأنًا من أن تكون غاية، ولكنها وسيلة أو مجال وطريق ومزرعة إلى الآخرة.
وعلى العقل الناضج أن يعاملها دون نسيان مهمتها، وآفة الناس أنهم جعلوا الوسائل غايات، وغاية وجود الناس على الأرض أن يعمروها بالعمل الصالح وعبادة الحق، فمن انجرف عن ذلك فله عقابه يوم الغاية الكبرى، وهو يوم الحساب.
إننا نعلم أن غاية الإنسان من الحياة الدنيا ليست أن يعيش عمرًا طويلًا، ولا أن ينال المناصب، ولا أن يحصل على الثراء، ولا أن ينال القوة، فكل ذلك من الأغيار، والأغيار تختلف من إنسان إلى آخر.
وما نختلف فيه نحن البشر ليس غاية لوجودنا، والغاية للوجود الإنساني لابد أن تكون واحدة. وأن نتفق فيها جميعًا، هذه الغاية هي ما نصير إليه بعد الموت. ونجاح كل عمل بمقدار ما يقرب الغاية منه. ولذلك فالمؤمن الحق يرى استقبال البشر لقضية الموت استقبالًا أحمق، فعندما يموت شاب في العشرين نجد من يقول: إنه لم يستمتع بشبابه والمؤمن الحق يرد على مثل هذا القول متسائلًا: أين تريد أن يستمتع بشبابه؟. ويجيب أصحاب الفهم السطحي: لقد مات قبل أن يستمتع بشبابه في هذه الدنيا.
ويقول المؤمن الحق: وهل هذه الدنيا هي الغاية؟. إنها ليست الغاية، بل الغاية هي الحياة الأخرى. ومن مات قبل التكليف فقد أنقذه الله من الحساب وأوطنه الجنة يتلقى نعيمها الدائم. فلماذا- إذن- هذه المبالغة في الحزن على أي ميت؟ والذي يقترب من الغاية يحب هذه الغاية. وهب أن إنسانًا غايته أن يذهب إلى الإسكندرية، والوسيلة إليها قد تكون حصانًا أو عربة أو طائرة، فكل شيء يقربه من الغاية يكون هو الأفضل.
فإذا كان الله يريد أن يأخذ بعضًا من خلقه وهم في بطون أمهاتهم، فهذه إرادته. والذي ذهب من بطن الأم إلى القبر قرب من الغاية، وخلص من المراحل التي كانت في طياتها الفتنة. ودخل الجنة.
وهب أن الوليد عاش إلى عمر المائة وصار شيخًا ومر بكل اختبارات الفتنة واستقام على المنهج، فإلى أين مصيره؟ إنه إلى الجنة.
إذن فعلينا أن نستقبل كل قدر الله بحب: قدر الميلاد أو قدر الخروج من الدنيا، ولذلك يقول الحق سبحانه: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 1- 2].
إنه سبحانه لم يقل إنه خلق الحياة والموت، لا، بل قال: {خَلَقَ الموت والحياة} وذلك حتى يستقبل كل منا الحياة، ويسبقها في الذهن ما ينقض هذه الحياة وهو الموت. إذن فهذه هي الغاية التي يتفق فيها كل الجنس البشري، أما ما عداها فهي أغيار نختلف فيها.
لذلك لا تقل إن الغاية من ابنك أن ينجح في القبول للإعدادية ثم يحصل على الشهادة الإعدادية، ثم يحصل على الثانوية العامة، ثم يحصل على ليسانس الكلية أو بالكالوريوس التخرج أو درجة الماجستير أو درجة الدكتوراة، ثم يصير صاحب شأن في الحياة، لا تقل ذلك؛ لأن كل ذلك ليس غاية في الحياة، ولأن الغاية هي ما لا يوجد بعدها بعد، ولكن علينا أن نقوم بإعمار الأرض كما أمرنا الله ولكن لا نجعلها هي الغاية.
ولذلك قال الحق سبحانه: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} [الحديد: 20].
هذه هي الحياة الدنيا، ولذلك يجب أن نحيا دائمًا على ضوء ما ينجينا من العذاب وهو ذكر الله، إن الحق سبحانه يقول: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [الأنعام: 70]
والذكر هنا مقصود به التذكير بالقرآن وهو المنهج النازل من السماء وطبقه رسول الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذكر أيضًا، أو الذكر هنا مقصود به العذاب الذي ينتظر من يخالف المنهج، وقوله الحق: {وَذَكِّرْ بِهِ}، يدل على أن منطق الفطرة يقتضي أننا نعرف أن الحق لا يمكن أن يعامل المتقين في الدنيا كما يعامل المنحرفين. ومثال ذلك الإنسان الذي يخوض في أعراض الناس ويظلمهم لا يتصور أبدًا- أن يلقى من الحق سبحانه المعاملة التي يعامل بها الإنسانَ الملتزم بمنهج الإيمان؛ فالفطرة تقول لنا: إن الحق يجازي كل إنسان بعمله، سواء أكان الجزاء في الدنيا أم في الآخرة. ومن المأثور عن بعض العرب أنه قال: لن يموت ظلوم حتى ينتقم منه الله. ومن بعد ذلك مات رجل ظلوم ولم ير فيه الناس انتقام السماء، فقال الرجل العربي:
والله إن وراء هذه الدار دارًا يُجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
{وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} والبَسْلُ معناه: المنع، والمنع له صورتان: الأولى منع حركة حياة حي.
. أي أن تحبسه في مكان محدد يتحرك فيه، والثانية: منع من أصل الحياة.. أي أن تهلكه وتزهق روحه، {تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي تُمنع نفس بما كسبت، والمنع إما بالهلاك أو بالحبس حبسًا يديم عليها العذاب. والحبس- في أعراف البشر- وهو وضع إنسان في مكان لكفِّه عن ظلم غيره، أي أننا نمنع شرور إنسان عن المجتمع بوضعه في الحبس.
وعندما جاء الإسلام لم يحبس فردًا إنما حبس المجتمع عن فرد، وهذا عقاب أكبر وأشد؛ فقد ترك الإسلام المجرم حرًّا في المجتمع ولكنه حبس المجتمع عنه؛ فالمجرم يمشي فلا يجد من يكلمه أو يضحك له أو يفرح معه أو يشاركه حزنه.
وحدث ذلك عندما حبس المؤمنون أنفسهم عن ثلاثة تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن إنسانًا منهم جاء ليقرب امرأته فرفضت. وحاول ثان أن يسلم على ابن عمه فما رد عليه السلام فجلس يبكي. وقاطع كل الناس هؤلاء الثلاثة، وهذه هي عظمة الإسلام، لقد سجن المجتمع عن المجرم فتعذب المجرم بقطيعة المجتمع له.