فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم ذكر نوعًا آخر من دلائل التوحيد مقرونًا بنوع من التخويف فقال: {قل هو القادر} واللام للعهد أو للجنس فيفيد أنه هو الذي عرفتموه قادر، وهو الكامل القدرة {على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم} كالمطر أو الحجارة مثل ما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل {أو من تحت أرجلكم} كما أغرق فرعون وخسف بقارون. وقيل: من قبل أكابركم وسلاطينكم أو من جهة سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات {أو يلبسكم شيعًا} هي جمع شيعة أي يخلطكم فرقًا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم أن يوقع القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذابًا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني» «وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف».
قالت الأشاعرة: في قوله: {أو يلبسكم شيعًا} دلالة على أن الأهواء المختلفة والآراء الفاسدة والبدع كلها من الله تعالى وفي قوله: {ويذيق بعضكم بأس بعض} إشارة إلى أن أن المعاصي وأنواع الظلم مستندة إلى الله تعالى وقالت المعتزلة: الآية لا تدل إلا على أنه تعالى قادر على القبيح والنزاع في أنه هل يفعل ذلك أم لا؟ وأجيب بأن الآية دلت على أن القدرة على هذه الأمور تختص به، وهذه الأمور واقعة فيكون هو فاعلها بالضرورة {انظر كيف نصرف الآيات} نقرر الدلائل الواضحات. وقد قال مثل ذلك فيما قبل فالتقدير: انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون فلا نعرض عنهم بل نكررها {لعلهم يفقهون} {وكذب به} أي بالعذاب المذكور في الآية السابقة {قومك} يعني قريشًا ومن دان بدينهم {وهو الحق} أي لابد أن ينزل بهم. وقيل: أي بالقرآن وهو الحق لأنه كتاب منزل من عند الله. وقيل: أي بتصريف الآيات لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات. {قل لست عليكم بوكيل} أي بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر. {لكل نبأ لكل} خبره يخبره الله تعالى: {مستقر} أي استقرار أو موضع استقرار. والمراد بالنبأ المنبأ به لأن النبأ قد حصل، والمقصود أن لعذاب الله تعالى أو لاستيلاء المسلمين على الكفار بالقتل والأسر والقهر وقتًا ومكانًا يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير {وسوف تعلمون} فيه من التهديد ما فيه.
ثم بين أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مجالستهم فقال: {وإذا رأيت} أيها السامع {الذين يخوضون في آياتنا} والخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه اللغو والعبث، ويقرب منه قول المفسرين إنه في الآية الشروع في آيات الله على سبيل الطعن والاستهزاء وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك {فأعرض عنهم} بالقيام عنهم لقوله بعد ذلك {فلا تقعد بعد الذكرى} وقيل: المطلوب إظهار الإنكار وكل طريق أفاد هذا الغرض وإن كان غير القيام عن مجلسهم فإنه يجوز المصير إليه، هذا عند عدم الخوف، أما مع الخوف فهذا الفرض ساقط والتقية واجبة. نعم كل ما أوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم فعله وجب عليه، سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر وإلا لم يبق الاعتماد على التكاليف التي يبلغها {وإما ينسينك الشيطان} أي يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم {فلا تقعد بعد الذكرى} بعد أن تذكر النهي {مع القوم الظالمين} أي معهم فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلًا عليهم بالظلم. قال الليث: الذكرى اسم للتذكرة.
وقال الفراء: هي الذكر. قال في الكشاف بناء على مذهبه: يجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى، بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم. قال الجبائي: إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف، وهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق لا يقع، ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصل إلا مع الفعل لم يكن الكافر قادرًا على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان. قال ابن عباس: قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزلت الرخصة أن يقعدوا معهم ويذكروهم ويفهموهم بقوله: {وما على الذين يتقون} أي الشرك والكبائر والفواحش {من حسابهم} من ذنوبهم التي يحاسبون عليها {من شيء ولكن ذكرى} أي ولكن يذكرونهم تذكيرًا، أو ولكن عليهم أن يذكروهم، أو ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى. ولا يجوز أن يكون عطفًا على محل {من شيء} كقول القائل: ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله: {من حسابهم} يأبى ذلك فإن الذكرى ليس من حساب المشركين. ثم أكد الإعراض عنهم بقوله: {وذر الذين} والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم والمبالاة بهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم كقوله: {فأعرض عنهم وعظهم} [النساء: 63] وصفهم بوصفين الأوّل أنهم {اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا} وفيه وجوه: اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبًا ولهوًا حيث سخروا به واستهزؤا، أو أتخذوا ما هو لعب ولهو يعني عبادة الأوثان وغيرها دينًا لهم، أو المراد ما كانوا يحكمون به بمجرد التقليد والهوى كتحريم البحائر والسوائب، أو المراد أن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا أعيادهم لعبًا ولهوًا لا كالمسلمين حيث اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى. قال ابن عباس: أو هو إشارة إلى من جعل دين الإسلام وسيلة إلى المناصب والرياسات والغلبة والجلال لا لأنه حق وصدق في نفسه. ويؤكد هذا الوجه الوصف الثاني وهو قوله: {وغرتهم الحياة الدنيا} كأنهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا {وذكر به} أي بالقرآن أو بالدين القويم مخافة {أن تبسل نفس} قال الحسن ومجاهد: أن تسلم إلى الهلاك والعذاب وترتهن بسوء فعلها وأصله المنع فالمسلم إليه وهو العذاب يمنع المسلم ومنه الباسل الشجاع لامتناعه من قرنه. وقال قتادة: تحبس في جهنم. وعن ابن عباس: تفتضح {ليس لها} أي النفس {من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل} إن تفد كل فداء لأن الفادي يعدل المفدى بمثله {لا يؤخذ منها} قال في الكشاف: فاعل {يؤخذ} قوله: {منها} لا ضمير العدل لأن العدل هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ.
وأما في قوله: {ولا يؤخذ منها عدل} فبمعنى المفتدى به فصح إسناده. قلت: إن فسر الأخذ بالقبول كما في قوله: {ويأخذ الصدقات} [التوبة: 104] ارتفع الفرق. {أولئك} المتخذون {هم الذين أبسلوا بما كسبوا} ثم بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين بقوله: {لهم شراب من حميم} ثم رد على عبدة الأصنام بقوله: {قل أندعوا من دون الله} النافع الضار {ما لا ينفعنا ولا يضرنا} أي لا يقدر على النفع والضر {ونرد} داخل في الاستفهام أي أنرجع إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله تعالى منه وهدانا للإسلام، فإن الردة عود إلى الحالة الأولى التي كان الإنسان عليها من الجهل كقوله: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا} [النحل: 78] {كالذي استهوته} محله النصب على الحال من الضمير في {نرد} أي أننكص على العقبين مشبهين من استهوته وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه أي سقوطه من الموضع العالي إلى الوهدة العميقة كقوله: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء} [الحج: 31] وقيل: اشتقاقه من اتباع الهوى و{حيران} حال أخرى لكن من الضمير في {استهوته} وكذا الجملة بعده. ومعنى الحيرة التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه منه. ومنه تحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء. {له} أي لهذا المستهوي {أصحاب} رفقة {يدعونه إلى الهدى} أي إن يهدوه الطريق المستوي فيكون مصدرًا. وسمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له {ائتنا} أو الدعاء في معنى القول وهذا بناء على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن والغيلان تستهوي الإنسان وتستولي عليه، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان، والمسلمون يدعونه إلى الحق وقد اعتسف المهمة تابعًا للجن غير ملتفت اليهم. وقيل: إن لذلك الكافر أصحابًا يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى. وروي أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فإنه كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان {قل إن هدى الله} وهو الإسلام {هو} الذي يحق أن يسمى هدى وما وراءه غي وضلال {وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا} قال الزجاج: لابد من تأويل ليستقيم العطف فالتقدير: وأمرنا لنسلم ولنقيم، أو أمرنا أن أسلموا وأن أقيموا: قيل: والسر في العدول عن الظاهر أن المكلف كالغائب ما لم يسلم فإذا أسلم صار كالحاضر. وتقرير الآية أن متعلق الأمر إما أن يكون من باب الأفعال أو من باب التروك. والأول إما أن يكون من أفعال القلوب أو من أفعال الجوارح، ورئيس أفعال القلوب الإيمان بالله والإسلام وهو قوله: {لنسلم} ورئيس أعمال الجوارح الصلاة وهو قوله: {وأن أقيموا} ثم أشار إلى جوامع التروك بقوله: {واتقوه} ثم قال: {وهو الذي إليه تحشرون} ليعلم أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر.
ثم دل على وجود الحاشر بقوله: {وهو الذي خلق السموات والأرض} قائما أو ملتبسًا {بالحق} بالحكم اللطيفة والغايات الصحيحة والأغراض المطابقة، وذلك أنه أودع في هذه الأجرام قوى وخواص وآثارًا تتضمن مصالح الأبدان ومباهج نوع الإنسان وهكذا خلق {يوم يقول كن فيكون قوله الحق} فقوله فاعل {يكون} و{يوم} مفعول {خلق} والمعنى أنه تعالى خلق العالم من الأفلاك والطبائع والعناصر والمواليد، وخلق يوم القيامة لرد الأرواح إلى الأجساد بطريق {كن فيكون} وعلى هذا يجوز أن يكون قوله: {الحق} مبتدأ وخبرًا مستأنفًا، أو قوله: {الحق} مبتدأ و{يوم يقول} ظرف دال على الخبر مثل يوم الجمعة القتال أي القتال واقع يوم الجمعة. والمراد أن قضاءه في ذلك اليوم حق وصدق خالٍ عن الجور والعبث {ويوم ينفخ} ظرف لقوله: {وله الملك} كقوله: {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] والمقصود أنه لا ملك في ذلك اليوم إلا له من غير دافع ولا منازع. والصور باتفاق أكثر أهل الإسلام قرن ينفخ فيه ملك من الملائكة كما جاء في مواضع من القرآن {ونفخ في الصور فصعق} [الزمر: 68] ففزع {فإذا نقر في الناقور} [المدثر: 8] وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة. وخطأه الأئمة فقالوا: كل جمع على لفظ الواحد سبق جمعه واحده فواحده بزيادة هاء فيه كالصوف، أما إذا سبق الواحد الجمع فليس كذلك كغرفة وغرف ولهذا يجمع صورة الإسان على صور بالفتح كقوله: {فأحسن صوركم} [غافر: 64] ومن أسكن فقد أخطأ، ومما يدل على أن الصور هو القرن لا جمع صورة الإنسان أنه تعالى لم يضف النفخ إلى نفسه كما قال: {ونفخت فيه من روحي} [ص: 72] {فنفخنا فيها من روحنا} [الأنبياء: 91] {ثم أنشأناه خلقًا آخر} [المؤمنون: 14] ثم لما بين كمال قدرته بقوله وله الملك ذكر كمال علمه بقوله: {عالم الغيب والشهادة} أي هو العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات {وهو الحكيم} المصيب في أقواله وأفعاله {الخبير} النافذ علمه في بواطن الحقائق من غير اشتباه والتباس، فإن أمر البعث لا يتم إلا بقدرة كاملة وعلم تام كيلا يشتبه المطيع والعاصي والصديق والزنديق. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)} يعني أنه لا يعترض على قدرته سبحانه حدوث مقصود، ولا يتقاصر حكمه عن تصريف موجود. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ}.
ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَثَلًا يَتَّضِحُ لِمَنْ عَقَلَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَا تَقَرَّرَ فِيهَا وَفِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا مِنْ بَيِّنَاتِ التَّوْحِيدِ وَدَلَائِلِهِ، وَيُظْهِرُ لَهُمْ سُوءَ حَالِهِمْ وَقُبْحَ مَآلِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَيُعَلِّلُ لَهُمْ مَا بُدِئَ بِهِ سِيَاقُ الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ فِيهِ- أَيِ التَّوْحِيدِ- مِنَ النَّهْيِ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَعَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، وَيَشْرَحُ لَهُمْ مَفْهُومَهُ، وَيُفَصِّلُ لَهُمْ مَضْمُونَهُ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مُقَابِلَهُ. وَأَعْنِي بِهَذَا السِّيَاقِ مَا فِي حَيِّزِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} [40: 66] إِلَخْ. وَحَيِّزُ قَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [63] وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِالْأَمْرِ بِالْإِسْلَامِ الْمُقَابِلِ لِطَرِيقِ الضَّلَالِ وَالْهَوَى، وَبَدَأَ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ بِبَيَانِ أَعْظَمِ أَعْمَالِ طَرِيقِ الْهُدَى، وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ فِي التَّذْكِيرِ بِدَلَائِلِ ذَلِكَ، وَعَاقِبَتِهِ، وَصِدْقِ وَعِيدِهِ تَعَالَى، وَكَمَالِ عِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِيهِ، قَالَ: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ} رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَاتْرُكُوا دِينَ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ اللهُ: {قُلْ أَنَدْعُوا} الْآيَةَ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: خُصُومَةٌ عَلَّمَهَا اللهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ يُخَاصِمُونَ بِهَا أَهْلَ الضَّلَالَةِ. وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ السُّدِّيِّ؛ إِذْ لَا يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ لِجَمِيعِهِمْ، بَلْ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمِينَ دَائِمًا وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ مِنْ دَعْوَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لِأَبِيهِ إِلَى الشِّرْكِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ رَدًّا عَلَيْهِمْ، فَلَقَّنَهُمُ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْحُجَّةَ الْمُؤَثِّرَةَ- بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَثَلِ الْجَلِيِّ الْوَاضِحِ لِحَالَيِ الشِّرْكِ وَضَلَالِهِ وَالتَّوْحِيدِ وَهِدَايَتِهِ- فِي سِيَاقِ حُجَجِ الْحَقِّ الْكَثِيرَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى: قُلْ أَنَدْعُو- مُتَجَاوِزِينَ دُعَاءَ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى اسْتِجَابَةِ دُعَائِنَا- مَا لَا يَضُرُّنَا وَلَا يَنْفَعُنَا- كَالْأَصْنَامِ وَسَائِرِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ- وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بِالْعَوْدِ إِلَى ضَلَالَةِ الشِّرْكِ الْفَاضِحَةِ بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ إِلَى الْإِسْلَامِ!.
وَمِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهَا بَيَّنَتْ عِلَّةَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ فِي الِاسْتِفْهَامِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ دُعَاءَ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى تَحَوُّلٌ وَارْتِدَادٌ مِنْ دُعَاءِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي يَكْشِفُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ- إِلَى دُعَاءِ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ نُكُوصٌ عَلَى الْأَعْقَابِ، وَتَقَهْقُرٌ إِلَى الْوَرَاءِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِيمَنْ عَجَزَ بَعْدَ قُدْرَةٍ، أَوْ سَفُلَ بَعْدَ رِفْعَةٍ، أَوْ أَحْجَمَ بَعْدَ إِقْدَامٍ عَلَى مَحْمَدَةٍ: نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَارْتَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَالْأَصْلُ فِيهِ رُجُوعُ الْهَزِيمَةِ أَوِ الْخَيْبَةِ وَالْعَجْزِ عَنِ السَّيْرِ الْمَحْمُودِ، ثُمَّ صَارَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ تَحَوُّلٍ مَذْمُومٍ.