فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالتأويل الأول: وهو الأقوى أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب، فإن بحسب قرب الشمس وبعدها من سمت الرأس تحدث الفصول الأربعة، وبسبب حدوث الفصول الأربعة تحدث الأحوال المختلفة في هذا العالم، ثم إن الناس ترصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادات والنحوسات بكيفية وقوعها في طوالع الناس على أحوال مختلفة فلما اعتقدوا ذلك غلب على ظنون أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر، إلا أنهم قالوا إنها وإن كانت مخلوقة للإله الأكبر، إلا أنها هي المدبرة لأحوال هذا العالم وهؤلاء هم الذين أثبتوا الوسائط بين الإله الأكبر، وبين أحوال هذا العالم.
وعلى كلا التقديرين فالقوم اشتغلوا بعبادتها وتعظيمها ثم إنهم لما رأوا أن هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتخذوا لكل كوكب صنمًا من الجوهر المنسوب إليه واتخذوا صنم الشمس من الذهب وزينوه بالأحجار المنسوبة إلى الشمس وهي الياقوت والألماس واتخذوا صنم القمر من الفضة وعلى هذا القياس ثم أقبلوا على عبادة هذه الأصنام وغرضهم من عبادة هذه الأصنام هو عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها وعند هذا البحث يظهر أن المقصود الأصلي من عبادة هذه الأصنام هو عبادة الكواكب.
وأما الأنبياء صلوات الله عليهم فلهم هاهنا مقامان: أحدهما: إقامة الدلائل على أن هذه الكواكب لا تأثير لها ألبتة في أحوال هذا العالم كما قال الله تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 54] بعد أن بين في الكواكب أنها مسخرة.
والثاني: أنها بتقدير أنها تفعل شيئًا ويصدر عنها تأثيرات في هذا العالم إلا أن دلائل الحدوث حاصلة فيها فوجب كونها مخلوقة والاشتغال بعبادة الأصل أولى من الاشتغال بعبادة الفرع، والدليل على أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكرناه أنه تعالى لما حكى عن الخليل صلوات الله عليه أنه قال لأبيه آزر أتتخذ أصنامًا آلهة؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين فأفتى بهذا الكلام أن عبادة الأصنام جهل، ثم لما اشتغل بذكر الدليل أقام الدليل على أن الكواكب والقمر والشمس لا يصلح شيء منها للإلهية وهذا يدل على أن دين عبدة الأصنام حاصله يرجع إلى القول بإلهية هذه الكواكب وإلا لصارت هذه الآية متنافية متنافرة.
وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا طريق إلى إبطال القول بعبادة الأصنام إلا بإبطال كون الشمس والقمر وسائر الكواكب آلهة لهذا العالم مدبرة له.
الوجه الثاني: في شرح حقيقة مذهب عبدة الأصنام ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي رحمه الله فقال في بعض كتبه: إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضًا صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون عنا بالسموات، فلا جرم اتخذوا صورًا وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرؤيا والهيكل فيتخذون صورة في غاية الحسن ويقولون إنها هيكل الإله، وصورة أخرى دون الصورة الأولى ويجعلونها على صورة الملائكة، ثم يواظبون على عبادتها قاصدين بتلك العبادة طلب الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة، فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد أن الله تعالى جسم وفي مكان.
الوجه الثالث: في هذا الباب أن القوم يعتقدون أن الله تعالى فوض تدبير كل واحد من الأقاليم إلى ملك بعينه.
وفوض تدبير كل قسم من أقسام ملك العالم إلى روح سماوي بعينه فيقولون مدبر البحار ملك، ومدبر الجبال ملك آخر، ومدبر الغيوم والأمطار ملك، ومدبر الأرزاق ملك، ومدبر الحروب والمقاتلات ملك آخر، فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا لكل واحد من أولئك الملائكة صنمًا مخصوصًا وهيكلًا مخصوصًا ويطلبون من كل صنم ما يليق بذلك الروح الفلكي من الآثار والتدبيرات، وللقوم تأويلات أخرى سوى هذه الثلاثة ذكرناها في أول سورة البقرة، ولنكتف هاهنا بهذا القدر من البيان والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
ظاهر هذه الآية يدل على أن اسم والد إبراهيم هو آزر، ومنهم من قال اسمه تارح.
قال الزجاج: لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح، ومن الملحدة من جعل هذا طعنًا في القرآن.
وقال هذا النسب خطأ وليس بصواب، وللعلماء هاهنا مقامان:
المقام الأول: أن اسم والد إبراهيم عليه السلام هو آزر، وأما قولهم أجمع النسابون على أن اسمه كان تارح.
فنقول هذا ضعيف لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضًا، وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين مثل قول وهب وكعب وغيرهما، وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى، ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن.
المقام الثاني: سلمنا أن اسمه كان تارح ثم لنا هاهنا وجوه:
الوجه الأول: لعل والد إبراهيم كان مسمى بهذين الاسمين، فيحتمل أن يقال إن اسمه الأصلي كان آزر وجعل تارح لقبًا له، فاشتهر هذا اللقب وخفي الاسم.
فالله تعالى ذكره بالاسم، ويحتمل أن يكون بالعكس، وهو أن تارح كان اسمًا أصليًا وآزر كان لقبًا غالبًا.
فذكره الله تعالى بهذا اللقب الغالب.
الوجه الثاني: أن يكون لفظة آزر صفة مخصوصة في لغتهم، فقيل إن آزر اسم ذم في لغتهم وهو المخطئ كأنه قيل، وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطئ كأنه عابه بزيغه وكفره وانحرافه عن الحق، وقيل آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية، وهو أيضًا فارسية أصلية.
واعلم أن هذين الوجهين إنما يجوز المصير إليهما عند من يقول بجواز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب.
والوجه الثالث: أن آزر كان اسم صنم يعبده والد إبراهيم، وإنما سماه الله بهذا الاسم لوجهين: أحدهما: أنه جعل نفسه مختصًا بعبادته ومن بالغ في محبة أحد فقد يجعل اسم المحبوب اسمًا للمحب.
قال الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} [الإسراء: 71] وثانيها: أن يكون المراد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
الوجه الرابع: أن والد إبراهيم عليه السلام كان تارح وآزر كان عمًا له، والعم قد يطلق عليه اسم الأب، كما حكى الله تعالى عن أولاد يعقوب أنهم قالوا: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [البقرة: 133] ومعلوم أن إسمعيل كان عمًا ليعقوب.
وقد أطلقوا عليه لفظ الأب فكذا ههنا.
واعلم أن هذه التكلفات إنما يجب المصير إليها لو دل دليل باهر على أن والد إبراهيم ما كان اسمه آزر وهذا الدليل لم يوجد ألبتة، فأي حاجة تحملنا على هذه التأويلات، والدليل القوي على صحة أن الأمر على ما يدل عليه ظاهر هذه الآية، أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحرص على تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام وإظهار بغضه، فلو كان هذا النسب كذبًا لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذيبه وحيث لم يكذبوه علمنا أن هذا النسب صحيح والله أعلم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر}.
في {آزر} أربعة أقوال:
أحدها: أنه أسم أبيه، روي عن ابن عباس، والحسن، والسدي، وابن إسحاق.
والثاني: أنه اسم صنم، فأما اسم أبي إبراهيم: فتارح، قاله مجاهد: فيكون المعنى: أتتخذ آزر أصنامًا؟ فكأنه جعل أصنامًا بدلًا من آزر، والاستفهام معناه الإنكار.
والثالث: أنه ليس باسم، إنما هو سبّ بعيب، وفي معناه قولان:
أحدهما: أنه المعوَّج، كأنه عابه نريغه وتعويجه عن الحق، ذكره الفراء.
والثاني: أنه المخطئ، فكأنه قال: يا مخطئ أتتخذ أصنامًا؟ ذكره الزجاج.
والرابع: أنه لقب لأبيه، وليس باسمه، قاله مقاتل بن حيان.
قال ابن الأنباري: قد يغلب على اسم الرجل لقبه، حتى يكون به أشهر منه باسمه، والجمهور على قراءة {آزر} بالنصب.
وقرأ الحسن، ويعقوب بالرفع.
قال الزجاج: من نصب، فموضع {آزر} خفضٌ بدلًا من أبيه؛ ومن رفع فعلى النداء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ}.
تكلّم العلماء في هذا؛ فقال أبو بكر محمد بن محمد بن الحسن الجُوَيْنِي الشافعيّ الأشعريّ في النكت من التفسير له: وليس بين الناس اختلاف في أن اسم والد إبراهيم تَارَح.
والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر.
وقيل: آزر عندهم ذَمٌّ في لغتهم؛ كأنه قال: وإذ قال لأبيه يا مخطئ {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} وإذا كان كذلك فالاختيار الرفع.
وقيل: آزر اسم صنم.
وإذا كان كذلك فموضعه نصب على إضمار الفعل؛ كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر إلها، أتتخذ أصنامًا آلهة.
قلت: ما ادعاه من الاتفاق ليس عليه وفاق؛ فقد قال محمد بن إسحاق والكَلْبِيّ والضحاك: إن آزر أبو إبراهيم عليه السلام وهو تارَح، مثل إسرائيل ويعقوب؛ قلت فيكون له اسمان كما تقدّم.
وقال مقاتل: آزر لقب، وتارَح اسم: وحكاه الثعلبيّ عن ابن إسحاق القُشَيْرِيّ.
ويجوز أن يكون على العكس.
قال الحسن: كان اسم أبيه آزر.
وقال سليمان التَّيْمِيّ: هو سَبٌّ وعَيْب، ومعناه في كلامهم: المعْوَجّ.
وروى المُعْتَمِر بن سليمان عن أبيه قال: بلغني أنها أعوج، وهي أشدّ كلمة قالها إبراهيم لأبيه.
وقال الضحّاك: معنى آزر الشيخ الهمّ بالفارسية.
وقال الفرّاء: هي صفة ذَمٍّ بلغتهم؛ كأنه قال يا مخطئ؛ فيمن رفعه.
أو كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطِئ؛ فيمن خفض.
ولا ينصرف لأنه على أفعل؛ قاله النحاس.
وقال الجوهري: آزر اسم أعجمي، وهو مشتق من آزر فلان فلانًا إذا عاونه؛ فهو مُؤازِرٌ قومَه على عبادة الأصنام.
وقيل: هو مشتق من القوّة، والأزر القوّة؛ عن ابن فارس.
وقال مجاهد ويَمانٍ: آزر اسم صنم.
وهو في هذا التأويل في موضع نصب، التقدير: أتتخذ آزر إلهًا، أتتخذ أصنامًا.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: أتتخذ آزر أصنامًا.
قلت: فعلى هذا آزر اسم جنس. والله أعلم.
وقال الثعلبيّ في كتاب العرائس: إن اسم أبي إبراهيم الذي سمّاه به أبوه تارَخ، فلما صار مع النُّمروذ قَيِّمًا على خِزانة آلهتِهِ سمّاه آزر.
وقال مجاهد: إن آزر ليس باسم أبيه وإنما هو اسم صنم.
وهو إبراهيم بن تارَخْ بن ناخور بن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام ابن نوح عليه السلام.
و{آزر} فيه قراءات: {أإِزْرًا} بهمزتين، الأولى مفتوحة والثانية مكسورة؛ عن ابن عباس.
وعنه {أأزْرا} بهمزتين مفتوحتين.
وقرئ بالرفع، وروى ذلك عن ابن عباس.
وعلى القراءتين الأُوليين عنه {تتخذ} بغير همزة.
قال المَهْدَوِيّ: أإزرًا؟ فقيل: إنه اسم صنم؛ فهو منصوب على تقدير أتتخذ إزرًا، وكذلك أأزرًا.
ويجوز أن يجعل أإِزرًا على أنه مشتق من الأزر وهو الظهر فيكون مفعولًا من أجله؛ كأنه قال: ألِلقوّة تتخذ أصنامًا.
ويجوز أن يكون إِزر بمعنى وِزر، أبدلت الواو همزة.
قال القُشيرِيّ: ذكر في الاحتجاج على المشركين قصة إبراهيم وردّه على أبيه في عبادة الأصنام.
وأوْلَى الناس باتباع إبراهيم العرب؛ فإنهم ذرّيته.
أي واذكر إذ قال إبراهيم.
أو {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} وذَكّر إذ قال إبراهيم.
وقرئ {آزرُ} أي يا آزرُ، على النداء المفرد، وهي قراءة أبَيّ ويعقوب وغيرِهما.
وهو يقوّي قول من يقول: إن آزر اسم أب إبراهيم.
{أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} مفعولان ل {تتخذ} وهو استفهام فيه معنى الإنكار. اهـ.

.قال الفخر:

قالت الشيعة: إن أحدًا من آباء الرسول عليه الصلاة والسلام وأجداده ما كان كافرًا وأنكروا أن يقال أن والد إبراهيم كان كافرًا وذكروا أن آزر كان عم إبراهيم عليه السلام.
وما كان والدًا له واحتجوا على قولهم بوجوه:
الحجة الأولى: أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارًا ويدل عليه وجوه: منها قوله تعالى: {الذى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ في الساجدين} [الشعراء: 218، 219].
قيل معناه: إنه كان ينقل روحه من ساجد إلى ساجد وبهذا التقدير: فالآية دالة على أن جميع آباء محمد عليه السلام كانوا مسلمين.
وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم عليه السلام كان مسلمًا.