فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والإشارة إلى مصدر {نري} لا إلى إراءة أخرى مفهومة من قوله تعالى: {إِنّى أَرَاكَ} [الأنعام: 74] ولا إلى ما أنذر به أباه وضلل قومه من المعرفة والبصارة.
وجوز كل، وقيل: يجوز أن يجعل المشبه التبصير من حيث إنه واقع والمشبه به التبصير من حيث إنه مدلول اللفظ، ونظيره وصف النسبة بالمطابقة للواقع وهي عين الواقع، وجوز كون الكاف بمعنى اللام والإشارة إلى القول السابق، وأنت تعلم ما هو الأجزل والأولى مما تقدم لك في نظائره وليس هو إلا الأول أي ذلك التبصير البديع نبصره عليه السلام.
{مَلَكُوتَ السموات والأرض} أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما لا تبصيرًا آخر أدنى منه، فالملكوت مصدر كالرغبوت والرحموت كما قاله ابن مالك وغيره من أهل اللغة وتاؤه زائدة للمبالغة ولهذا فسر بالملك العظيم والسلطان القاهر، وهو كما قال الراغب مختص به تعالى خلافًا لبعضهم.
وعن مجاهد أن المراد بالملكوت الآيات، وقيل: العجائب التي في السموات والأرض فإنه عليه السلام فرجت له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأَرَضون السبع فنظر إلى ما فيهن.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر فذهب يدعو عليه فأوحى الله تعالى إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدع على عبادي فإنهم مني على ثلاث، إما أن يتوب العاصي فأتوب عليه، وإما أن أخرج من صلبه نسمة تملأ الأرض بالتسبيح وإما أن أقبضه إلي فإن شئت عفوت وإن شئت عاقبت» وروي نحو موقوفًا ومرفوعًا من طرق شتى ولا خلاف فيها لدلائل المعقول خلافًا لمن توهمه، وقيل: ملكوت السموات: الشمس والقمر والنجوم.
وملكوت الأرض: الجبال والأشجار والبحار.
وهذه الأقوال على ما قيل لا تقتضي أن تكون الإراءة بصرية إذ ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بل اطلاعه عليه السلام على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شؤونه عز وجل، ولا ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حسًا كما ينبئ عنه التشبيه السابق.
وقرئ {تري} بالتاء وإسناد الفعل إلى الملكوت أي تبصره عليه السلام دلائل الربوبية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} عطف على جملة: {قال إبراهيم لأبيه آزرَ أتتّخذ أصنامًا آلهة} [الأنعام: 74].
فالمعنى وإذ نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إراءة لا إراءة أوضح منها في جنسها والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى الإراء المأخوذ من قوله: {نُري إبراهيم} أي مثل ذلك الإراء العجيب نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض.
وهذا على طريقة قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمَّة وسطًا} [البقرة: 143].
وقد تقدّم بيانه في سورة البقرة، فاسم الإشارة في مثل هذا الاستعمال يلازم الإفراد والتذكير لأنَّه جرى مجرى المثل.
وقوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} إشارة إلى حجّة مستنبطة من دلالة أحوال الموجودات على وجود صانعها.
والرؤية هنا مستعملة للانكشاف والمعرفة، فالإراءة بمعنى الكشف والتعريف، فتشمل المبصرات والمعقولات المستدلّ بجميعها على الحق وهي إراءة إلهام وتوفيق، كما في قوله تعالى: {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} [الأعراف: 185]، فإبراهيم عليه السلام ابتُدئ في أوّل أمره بالإلهام إلى الحقّ كما ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤية الصادقة.
ويجوز أن يكون المراد بالإراءة العلم بطريق الوحي.
وقد حصلت هذه الإراءة في الماضي فحكاها القرآن بصيغة المضارع لاستحضار تلك الإراءة العجيبة كما في قوله تعالى: {الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا} [فاطر: 9].
والملكوت اتَّفق أئمَّة اللغة على أنَّه مصدر كالرَغَبُوت والرّحَمُوت والرّهَبُوت والجَبَرُوت.
وقالوا: إنّ الواو والتاء فيه للمبالغة.
وظاهره أنّ معناه المِلك بكسر الميم لأنّ مصدر مَلك المِلك بكسر الميم ولمَّا كان فيه زيادة تفيد المبالغة كان معناه المِلك القوي الشديد.
ولذلك فسَّره الزمخشري بالربوبية والإلهية.
وفي اللسان: مُلْك الله وملكوته سلطانُه ولفلان ملكوت العراق، أي سلطانه ومُلكه.
وهذا يقتضي أنَّه مرادف للمُلك بضمّ الميم وفي طبعة اللسان في بولاق رُقمت على ميم مُلكه ضمّة.
وفي الإتقان عن عكرمة وابن عبَّاس: أنّ الملكوت كلمة نَبَطِيَّة.
فيظهر أنّ صيغة (فعلوت) في جميع الموارد التي وردت فيها أنَّها من الصيغ الدخيلة في اللغة العربية، وأنَّها في النبطيّة دالَّة على المبالغة، فنقلها العرب إلى لغتهم لِما فيها من خصوصية القوّة.
ويستخلص من هذا أنّ الملكوت يطلق مصدرًا للمبالغة في المِلك، وأنّ المُلك (بالضمّ) لما كان مِلكًا (بالكسر) عظيمًا يطلق عليه أيضًا المَلَكُوت.
فأمَّا في هذه الآية فهو مجاز على كلا الإطلاقين لأنَّه من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، وهو المملوك، كالخَلق على المخلوق، إمَّا من المِلك بكسر الميم أو من المُلك بضمِّها.
وإضافة ملكوت السماوات والأرض على معنى (في).
والمعنى ما يشمله المُلك أو الملك، والمُراد مُلك الله.
والمعنى نكشف لإبراهيم دلائل مخلوقاتنا أو عظمة سلطاننا كشفًا يطلعه على حقائقها ومعرفة أن لا خالق ولا متصرّف فيما كشفنا له سوانا. اهـ.

.قال الفخر:

اختلفوا في الواو في قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} وذكروا فيه وجوهًا: الأول: الواو زائدة والتقدير: نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليستدل بها ليكون من الموقنين.
الثاني: أن يكون هذا كلامًا مستأنفًا لبيان علة الإراءة والتقدير وليكون من الموقنين نريه ملكوت السموات والأرض.
الثالث: أن الإراءة قد تحصل وتصير سببًا لمزيد الضلال كما في حق فرعون قال تعالى: {وَلَقَدْ أريناه ءاياتنا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وأبى} [طه: 56] وقد تصير سببًا لمزيد الهداية واليقين.
فلما احتملت الإراءة هذين الاحتمالين قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: إنا أريناه هذه الآيات ليراها ولأجل أن يكون من الموقنين لا من الجاحدين والله أعلم. اهـ.
وقال الفخر:
اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقينًا لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل.
واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سببًا لحصول اليقين وذلك لوجوه: الأول: أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة فلا تزال القوة تتزايد حتى ننتهي إلى الجزم.
الثاني: أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد جار مجرى تكرار الدرس الواحد، فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب، فكذا ههنا.
الثالث: أن القلب عند الاستدلال كان مظلمًا جدًا فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة، فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى، فيصير الإشراق واللمعان أتم.
وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر نورها في أول الأمر وهو الصبح.
فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح، ثم كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس، فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام، فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى.
إلا أن الفرق بين شمس العلم وبين شمس العالم أن شمس العالم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حد معين لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود، وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد، فلا نهاية لتصاعدها ولا غاية لازديادها فقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والأرض} إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات، وقوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} إشارة إلى درجات أنوار التجلي وشروق شمس المعرفة والتوحيد. والله أعلم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وليكون من الموقنين} هذا عطف على المعنى، لأن معنى الآية: نريه ملكوت السموات والأرض ليستدل به، وليكون من الموقنين.
وفي ما يوقِن به ثلاثة أقوال:
أحدها: وحدانية الله وقدرته.
والثاني: نبوته ورسالته.
والثالث: ليكون موقنا بعلم كل شيء، حسًا لا خبرًا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وليكون من الموقنين} أي أريناه الملكوت، وقيل: ثم علة محذوفة عطفت هذه عليها وقدرت ليقيم الحجة على قومه، وقال قوم: ليستدل بها على الصانع، وقيل: الواو زائدة ومتعلق الموقنين قيل: بوحدانية الله وقدرته، وقيل: بنبوته وبرسالته.
وقيل: عيانًا كما أيقن بيانًا انتقل من علم اليقين إلى عين اليقين كما سأل في قوله: {أرني كيف تحيي الموتى} والإيقان تقدم تفسيره أول البقرة، وقال أبو عبد الله الرازي: اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا لا يوصف علم الله بكونه يقينًا لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل، وإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سببًا لحصول اليقين إذ يحصل بكل واحد منها نوع تأثير وقوة فتتزايد حتى يجزم. اهـ.

.قال أبو السعود:

واللام في قوله تعالى: {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخر، والجملةُ اعتراضٌ مقرِّر لما قبلها أي وليكون من زُمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجةَ عينِ اليقين من معرفة الله تعالى، فعلنا ما فعلنا من التبصير البديعِ المذكورِ لا لأمرٍ آخرَ فإن الوصولَ إلى تلك الغاية القاصيةِ كمالٌ مترتبٌ على ذلك التبصير لا عينُه وليس القصرُ لبيان انحصار فائدتِه في ذلك، كيف لا وإرشادُ الخلق وإلزامُ المشركين كما سيأتي من فوائده بلا مرْية بل لبيان أنه الأصلُ الأصيلُ والباقي من مستَتْبِعاته. وقيل: هي متعلقة بالفعل السابق والجملةُ معطوفة على علةٍ أخرى محذوفةٍ ينسحبُ عليها الكلامُ أي ليستدِلَّ بها وليكونَ الخ، فينبغي أن يُرادَ بملكوتهما بدائعُهما وآياتُهما لأن الاستدلالَ من غاياتِ إراءَتِها لا من غايات إراءةِ نفسِ الربوبية. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} أي من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى، وهذا لا يقتضي سبق الشك كما لا يخفى، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر، والجملة اعتراض مقرر لما قبلها أي وليكون كذلك فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور، والحصر باعتبار أن هذا الكون هو المقصود الأصلي من ذلك التبصير ونحو إرشاد الخلق وإلزام الكفار من مستتبعاته، وبعضهم لم يلاخظ ذلك فقدر الفعل مقدمًا لعدم انحصار العلة فيما ذكر.
وقيل: هي متعلقة بالفعل السابق، والجملة معطوفة على علة مقدرة ينسحب عليها الكلام أي ليستدل (بها) وليكون، واعترض بأن الاستدلال مع قطع النظر عن كونه سببًا للالتفات لا يكون علة للإراءة فكيف يعطف عليه بإعادة اللام وليس بشيء، وادعى بعضهم أنه ينبغي على ذلك أن يراد بملكوت السموات والأرض بدائعهما وآياتهما لأن الاستدلال من غايات إراءتها لا من غاية إراءة نفس الربوبية، وأنت تعلم أن رؤية الربوبية إنما هي برؤية دلائلها وآثارها، ومن الناس من جوز كون الواو زائدة واللام متعلقة بما قبل وفيه بعد وإن ذكروه وجهًا كالأولين في كل ما جاء في القرآن من هذا القبيل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وعُطِف قوله: {وليَكون من الموقنين} على قوله: {وكذلك} لأنّ {وكذلك} أفاد كون المشبَّه به تعليمًا فائقًا.
ففهم منه أنّ المشبَّه به علّة لأمر مهمّ هو من جنس المشبَّه به.
فالتقدير: وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إراء تبصير وفهم ليَعْلم علمًا على وفق لذلك التفهيم، وهو العلم الكامل وليكون من الموقنين.
وقد تقدّم بيان هذا عند تفسير قوله تعالى: {وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} في هذه السورة [56].
والموقن هو العالم علمًا لا يقبل الشكّ، وهو الإيقان.
والمراد الإيقان في معرفة الله تعالى وصفاته.
وقوله: {وليكون من الموقنين} أبلغ من أن يقال: وليكون موقنًا كما تقدّم عند قوله تعالى: {قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين} في هذه السورة [56]. اهـ.