فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل} على الأول وهو الحق المبين عطفٌ على {قال إبراهيم} داخلٌ تحت ما أُمر بذكره بالأمرِ بذكرِ وقتِه، وما بينهما اعتراضٌ مقرِّرٌ لما سبق وما لحِق، فإن تعريفَه عليه السلام ربوبيتَه ومالكيتَه للسمواتِ والأرض وما فيهما وكونَ الكلِّ مقهورًا تحت ملكوتِه مفتقِرًا إليه في الوجود وسائرَ ما يترتبُ عليه من الكمالات، وكونَه من الراسخين في معرفة شؤونه تعالى، الواصلين إلى ذُروة عينِ اليقين مما يقضي بأن يَحكُم عليه السلام باستحالة إلهية ما سواه سبحانه من الأصنام والكواكب، وعلى الثاني هو تفصيلٌ لما ذُكر من إراءةِ ملكوتِ السموات والأرض، وبيانٌ لكيفية استدلالِه عليه السلام، ووصولِه إلى رتبة الإيقان، ومعنى {جَنّ عليه الليلُ} ستره بظلامه، وقوله تعالى: {رَأَى كَوْكَبًا} جوابُ لمّا، فإن رؤيتَه إنما تتحقق بزوال نورِ الشمس عن الحسّ، وهذا صريحٌ في أنه لم يكن في ابتداءِ الطلوع بل كان غَيبتُه عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس، والتحقيقُ أنه كان قريبًا من الغروب كما ستعرفه، قيل: كان ذلك الكوكبُ هو الزُّهُرَة، وقيل: هو المشتري.
وقوله تعالى: {قَالَ هذا رَبّى} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من (الجملة) الشرطيةِ السابقةِ المتفرعة على بيان إراءتِه عليه السلام ملكوتَ السمواتِ والأرض فإن ذلك مما يحمِلُ السامعَ على استكشاف ما ظهرَ منه عليه السلام من آثار تلك الإراءةِ وأحكامِها، كأنه قيل: فماذا صنعَ عليه السلام حين رأى الكوكب؟ فقيل: قال على سبيل الوضْع والفرضِ: هذا ربي مجاراةً مع أبيه وقومِه الذين كانوا يعبُدون الأصنامَ والكواكب، فإن المستدِلَّ على فساد قولٍ يحكيه على رأي خصمِه، ثم يَكُرُّ عليه بالإبطال، ولعل سلوكَ هذه الطريقة في بيان استحالةِ ربوبيةِ الكواكب دون بيانِ استحالةِ إلهية الأصنام لما أن هذا أخفى بُطلانًا واستحالةً من الأول، فلو صدَعَ بالحق من أول الأمرِ كما فعله في حقّ عبادةِ الأصنام لتمادَوْا في المكابرة والعِناد، ولجُّوا في طُغيانهم يعمَهون. وقيل: قاله عليه السلام على وجه النظر والاستدلال، وكان ذلك في زمان مراهقتِه وأولِ أوانِ بلوغه، وهو مبنيٌّ على تفسير الملكوتِ بآياتهما، وعَطْفِ قوله تعالى: {لِيَكُونَ} على ما ذُكر من العلة المقدرة، وجَعْلِ قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ} الخ، تفصيلًا لما ذُكر من الإراءة وبيانًا لكيفية الاستدلال، وأنت خبير بأن كلَّ ذلك مما يُخِلُّ بجزالة النظمِ الجليل، وجلالةِ منصِبِ الخليلِ عليه الصلاة والسلام. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل} يحتمل أن يكون عطفًا على {وَإِذْ قَالَ إبراهيم} [الأنعام: 74] وما بينهما اعتراض مقرر لما سبق ولحق، فإن تعريفه عليه السلام ربوبيته ومالكيته تعالى للسموات والأرض وما فيهن وكون الكل مقهورًا تحت ملكوته مفتقرًا إليه عز شأنه في جميع أحواله وكونه من الراسخين في المعرفة الواصلين إلى ذروة عين اليقين مما يقتضي بأن يحكم باستحالة ألوهية ما سواه سبحانه من الأصنام والكواكب التي كان يعبدها قومه، واختاره بعض المحققين، ويحتمل أن يكون تفصيلًا لما ذكر من إراءة الملكوت وبيانا لكيفية استدلاله عليه السلام ووصوله إلى رتبة الإيقان، والترتيب ذكري لتأخر التفصيل عن الإجمال في الذكر، ومعنى {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل} ستره بظلامه، وهذه المادة بمتصرفاتها تدل على الستر، وعن الراغب أصل الجن الستر عن الحاسة يقال: جنه الليل وأجنه وجن عليه فجنه وجن عليه ستره وأجنه جعل له ما يستره.
وقوله سبحانه: {رَأَى كَوْكَبًا} جواب لما فإن رؤيته إنما تتحقق عادة بزوال نور الشمس عن الحس وهذا كما قال شيخ الإسلام صريح في أنه لم يكن في ابتداء الطلوع بل كان بعد غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس، والتحقيق عنده أنه كان قريبًا من الغروب وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى سبب ذلك، والمراد بالكوكب فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المشتري.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنه الزهرة.
{قَالَ هذا رَبّى} استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق، وهذا منه عليه السلام على سبيل الفرض وإرخاء العنان مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فإن المستدل على فساد قول يحكيه ثم يكر عليه بالإبطال وهذا هو الحق الحقيق بالقبول.
وقيل: إن في الكلام استفهامًا إنكاريًا محذوفًا، وحذف أداة الاستفهام كثير في كلامهم، ومنه قوله:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا

وقوله:
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى: {فَلاَ اقتحم العقبة} [البلد: 11] إن المعنى أفلا اقتحم وجعل من ذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ} [الشعراء: 22] وقيل: إنه مقول على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قومًا: هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء، وقيل: إنه عليه السلام أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوا ولم يلتفتوا فمال إلى طريق يستدرجهم إلى استماع الحجة وذلك بأن ذكر كلامًا يوهم كونه مساعدًا لهم على مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئنًا بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإن لم يقبلوا.
وقرر الإمام هذا بأنه عليه السلام لما لم يجد إلى الدعوة طريقًا سوى هذا الطريق وكان مأمورًا بالدعوة إلى الله تعالى كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر ومعلوم أنه عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان، وإذا جاز ذلك لبقاء شخص واحد فبأن يجوز لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى، فكلام إبراهيم عليه السلام كان من باب الموافقة ظاهرًا للقوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم له أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل، ثم قال: ومما يقوي هذا القول أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً في النجوم فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ} [الصافات: 88، 89] وذلك لأن القوم كانوا يستدلون بعلم النجوم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم في الظاهر مع أنه كان بريئًا عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام، فمتى جازت الموافقة لهذا الغرض فلم لا تجوز في مسألتنا لمثل ذلك، وقيل: إن القوم بينما كانوا يدعونه عليه السلام إلى عبادة النجوم وكانت المناظرة بينهم قائمة على ساق إذ طلع النجم فقال: {هذا رَبّى} على معنى هذا هو الرب الذي تدعونني إليه2.
وقيل وقيل والكل ليس بشيء عند المحققين لاسيما ما قرره الإمام، وتلك الأقوال كلها مبنية على أن هذا القول كان بعد البلوغ ودعوة القوم إلى التوحيد وسياق الآية وسباقها شاهدا عدل على ذلك.
وزعم بعضهم أنه كان قبل البلوغ ولا يلزمه اختلاج شك مؤد إلى كفر لأنه لما آمن بالغيب أراد أن يؤيد ما جزم به بأنه لو لم يكن الله تعالى إلهًا وكان ما يعبده قومه لكان إما كذا وإما كذا والكل لا يصلح لذلك فيتعين كون الله تعالى إلهًا وهو خلاف الظاهر ويأباه السياق والسباق كما لا يخفى.
وزعم أنه عليه السلام قال ما قال إذ لم يكن عارفًا بربه سبحانه والجهل حال الطفولية قبل قيام الحجة لا يضر ولا يعد ذلك كفرًا مما لا يلتفت إليه أصلًا، فقد قال المحققون المحقون: إنه لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء، وقد قص الله تعالى من حال إبراهيم عليه السلام خصوصًا في صغره ما لا يتوهم معه شائبة مما يناقض ذلك فالوجه الأول لا غير.
ولعل سلوك تلك الطريقة في بيان استحالة ربوبية الكوكب دون بيان استحالة إلهية الأصنام كما قيل لما أن هذا أخفى بطلانا واستحالة من الأول فلو صدع بالحق من أول الأمر كما فعله في حق عبادة الأصنام لتمادوا في المكابرة والعناد ولجوا في طغيانهم يعمهون، وكان تقديم بطلان إلهية الأصنام على ما ذكر من باب الترقي من الخفي إلى الأخفى.
وقيل: إن القوم كانوا يعبدون الكواكب فاتخذوا لكل كوكب صنمًا من المعادن المنسوبة إليه كالذهب للشمس والفضة للقمر ليتقربوا إليها فكان الصنم كالقبلة لهم فأنكر أولا عبادتهم للأصنام بحسب الظاهر ثم أبطل منشآتها وما نسبت إليه من الكواكب بعدم استحقاقها لذلك أيضًا، ولعلهم كانوا يعتقدون تأثيرها استقلالا دون تأثير الأصنام ولهذا تعرض لبطلان الالهية في الأصنام والربوبية فيها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فلمَّا جنّ} تفريع على قوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} [الأنعام: 75] بقرينة قوله: {رأى كوكبًا} فإنّ الكوكب من ملكوت السماوات، وقولِه في المعطوف عليه {نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} [الأنعام: 75].
فهذه الرؤية الخاصّة التي اهتدى بها إلى طريق عجيب فيه إبكات لقومه مُلجئ إيّاهم للاعتراف بفساد معتقدهم، هي فرع من تلك الإراءة التي عمَّت ملكوت السماوات والأرض، لأنّ العطف بالفاء يستدعي مزيد الاتِّصال بين المعطوف والمعطوف عليه لما في معنى الفاء من التفريع والتسبّب، ولذلك نعُدّ جعل الزمخشري {فلما جنّ} عطفًا على {قال إبراهيم لأبيه} [الأنعام: 74]، وجعْله ما بينهما اعتراضًا، غيرَ رشيق.
وقوله: {جَنّ عليه الليل} أي أظلم الليل إظلامًا على إبراهيم، أي كان إبراهيم محوطًا بظلمة الليل، وهو يقتضي أنَّه كان تحت السَّماء ولم يكن في بيت.
ويؤخذ من قوله بعده {قال يا قوم إنِّي بريء مِمَّا تشركون} أنَّه كان سائرًا مع فريق من قومه يشاهدون الكواكب، وقد كان قوم إبراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصوّرون لها أصنامًا.
وتلك ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم.
يقال: جَنَّة الليل، أي أخفاه، وجَنان الليل بفتح الجيم، وجنُّه: ستره الأشياء المرئية بظلامه الشديد.
يقال: جنَّة الليل، وهو الأصل.
ويقال: جَنّ عليه الليل، وهذا يقصد به المبالغة في الستر بالظلمة حتَّى صارت كأنَّها غطاء، ومع ذلك لم يسمع في كلامهم جنّ اللَّيل قاصرًا بمعنى أظلم.
وظاهر قوله: {رأى كوكبًا} أنَّه حصلت له رؤية الكواكب عَرَضًا من غير قصد للتأمّل وإلاّ فإنّ الأفق في الليل مملوء كواكبَ، وأنّ الكواكب كان حين رآه واضحًا في السماء مشرقًا بنوره، وذلك أنور ما يكون في وسط السماء.
فالظاهر أنَّه رأى كوكبًا من بينها شديد الضوء.
فعن زيد بن علي أنّ الكوكب هو الزهرة.
وعن السدّي أنَّه المشتري.
ويجوز أن يكون نَظَر الكواكب فرأى كوكبًا فيكون في الكلام إيجاز حذف مثل {أنِ اضربْ بعصاك البحر فانفلق} [الشعراء: 63]، أي فضرب فانفلق.
وجملة {رأى كوكبًا} جواب {لمَّا}.
والكوكب: النجم.
وجملة: {قال هذا ربِّي} مستأنفة استئنافًا بيانيًا جوابًا لسؤال ينشأ عن مضمون جملة {رأى كوكبًا} وهو أن يسأل سائل: فماذا كان عندما رآه، فيكون قوله: {قال هذا ربِّي} جوبًا لذلك.
واسم الإشارة هنا لقصد تمييز الكوكب من بين الكواكب ولكنْ إجراؤه على نظيريه في قوله حين رأى القمر وحين رأى الشمس {هذا ربِّي هذا ربِّي} يعيّن أنّ يكون القصد الأصلي منه هو الكناية بالإشارة عن كون المشار إليه أمرًا مطلوبًا مبحوثًا عنه فإذا عُثر عليه أشير إليه، وذلك كالإشارة في قوله تعالى: {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث} [الروم: 56]، وقوله: {قالت فذلكنّ الذي لمتنّني فيه} [يوسف: 32] ولم يقل فهو الذي لمتنني.
ولعلّ منه قوله: {هذه بضاعتُنا رُدّت إلينا} [يوسف: 65] إذ لم يقتصروا على بضاعتُنا ردّت إلينا.
وفي صحيح البخاري قال الأحنف بن قيس: «ذَهَبْتُ لأنْصُر هذا الرجل» (يعني عليّ بن أبي طالب) ولم يتقدّم له ذكر، لأنّ عليًّا وشأنه هو الجاري في خواطر الناس أيام صفّين، وسيأتي قوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء} [الأنعام: 89] يعني كفَّار قريش، وفي حديث سؤال القبر: «فيقال له ما علمك بهذا الرجل» يعني الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأغراض الداعية للتعريف باسم الإشارة التي أهملها علماء البلاغة فيصحّ هنا أن يجعل مستعملًا في معنييه الصريح والكناية.
وتعريف الجزأين مفيد للقصر لأنَّه لم يقل: هذا ربّ.
فدلّ على أنّ إبراهيم عليه السلام أراد استدراج قومه فابتدأ بإظهار أنَّه لا يَرى تعدّد الآلهة ليصل بهم إلى التوحد واستبقى واحدًا من معبوداتهم ففرض استحقاقه الإلهية كيلا ينفروا من الإصغاء إلى استدلاله.
وظاهر قوله: {قال} إنَّه خاطب بذلك غيره، لأنّ القول حقيقته الكلام، وإنَّما يساق الكلام إلى مخاطب.
ولذلك كانت حقيقة القول هي ظاهر الآية من لفظها ومن ترتيب نظمها إذْ رُتِّب قوله: {فلما جنّ} على قوله: {وكذلك نري إبْراهيم ملكوت السماوات والأرض} [الأنعام: 75] وقوله: {وليكون من الموقنين} [الأنعام: 75] ورتّب ذلك كلّه على قوله: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتَّخذ أصنامًا آلهة} [الأنعام: 74] الآية، ولقوله تعالى: {قال هذا ربِّي} وإنَّما يقوله لمخاطب، ولقوله عقب ذلك {يا قوم إنِّي بريء ممَّا تشركون}، ولأنَّه اقتصر على إبطال كون الكواكب آلهة واستدلّ به على براءته ممَّا يشركون مع أنَّه لا يلزم من بطلان إلهية الكواكب بطلان إلهية أجرام أخرى لولا أنّ ذلك هو مدّعى قومه؛ فدلّ ذلك كلّه على أنّ إبراهيم عليه السلام قال ذلك على سبيل المجادلة لقومه وإرخاء العنان لهم ليصلوا إلى تلقّي الحجّة ولا ينفِروا من أول وهلة فيكون قد جمع جمعًا من قومه وأراد الاستدلال عليهم.
وقوله: {هذا ربِّي} أي خالقي ومدبِّري فهو مستحقّ عبادتي.
قاله على سبيل الفرض جريًا على معتقد قومه ليصل بهم إلى نقض اعتقادهم فأظهر أنَّه موافق لهم ليهشّوا إلى ذلك ثم يكُرّ عليهم بالإبطال إظهارًا للإنصاف وطلب الحقّ.
ولا يريبك في هذا أنّ صدور ما ظاهره كُفر على لسانه عليه السلام لأنَّه لمّا رأى أنّه ذلك طريق إلى إرشاد قومه وإنقاذهم من الكفر، واجتهد فرآه أرجى للقبول عندهم ساغ له التصريح به لقصد الوصول إلى الحقّ وهو لا يعتقده، ولا يزيد قولُه هذا قومَه كفرًا، كالذي يُكره على أن يقول كلمة الكفر وقلبُه مطمئنّ بالإيمان فإنَّه إذا جاز ذلك لحفظ نفس واحدة وإنقاذها من الهلاك كان جوازه لإنقاذ فريق من النَّاس من الهلاك في الدنيا والآخرة أولى.
وقد يكون فعل ذلك بإذن من الله تعالى بالوحي.
وعلى هذا فالآية تقتضي أنّ قومه يعبدون الكواكب وأنَّهم على دين الصابئة وقد كان ذلك الدين شائعًا في بلدان الكلدان التي نشأ فيها إبراهيم عليه السلام وأنّ الأصنام التي كانوا يعبدونها أرادوا بها أنّها صور للكواكب وتماثيلُ لها على حسب تخيّلاتهم وأساطيرهم مثلما كان عليه اليونان القدماء، ويحتمل أنَّهم عبدوا الكواكب وعبدوا صورًا أخرى على أنَّها دون الكواكب كما كان اليونان يقسمون المعبودات إلى آلهة وأنصاف آلهة.
على أنّ الصابئة يعتقدون أنّ للكواكب روحانيات تخدمها.
وأفل النجم أفولًا: غاب، والأفول خاصّ بغياب النيِّرات السماوية، يقال: أفلّ النجم وأفَلَتْ الشمس، وهو المغيب الذي يكون بغروب الكوكب ورَاء الأفق بسبب الدورة اليومية للكرة الأرضية، فلا يقال: أفَلَتْ الشمس أو أفَل النجم إذا احتجب بسحاب. اهـ.