فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

لمّا أعلن إبراهيم عليه السلام معتَقَده لقومه أخذوا في محاجّته، فجملة {وحاجَّة} عطف على جملة {إنِّي وجَّهْتُ وجهِي للذي فطر السماوات والأرض} [الأنعام: 79].
وعطفت الجملة بالواو دون الفاء لتكون مستقلَّة بالإخبار بمضمونها مع أنّ تفرّع مضمونها على ما قبلها معلوم من سياق الكلام.
والمحاجَّة مفاعلة متصرّفة من الحُجَّة، وهي الدّليل المؤيّد للدعوى.
ولا يعرف لهذه المفاعلة فعْل مجرّد بمعنى استدلّ بحجّة، وإنَّما المعروف فِعْل حَجّ إذا غَلب في الحُجَّة، فإن كانت احتجاجًا من الجانبين فهي حقيقة وهو الأصل، وإن كانت من جانب واحد باعتبار أنّ محاول الغَلَب في الحجَّة لابد أن يتلقَّى من خصمه ما يرُدّ احتجاجه فتحصل المحاولة من الجانبين، فبذلك الاعتبار أطلق على الاحتجاج محاجَّة، أو المفاعلة فيه للمبالغة.
والأوْلى حملها هنا على الحقيقة بأن يكون المعنى حصول محاجَّة بينهم وبين إبراهيم.
وذكر الشيخ ابن عرفة في درس تفسيره: أنّ صيغة المفاعلة تقتضي أنّ المجعول فيها فاعلًا هو البادئ بالمحاجَّة، وأنّ بعض العلماء استشكل قوله تعالى في سورة [البقرة: 258] {ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيمَ في ربِّه} حيث قال: {إذ قال إبراهيم ربّي الذي يحيي ويميت} [البقرة: 258].
فبدأ بكلام إبراهيم وهو مفعول الفعل وأجاب بأنّ إبراهيم بدأ بالمقاولة ونمروذ بدأ المحاجَّة.
ولم يذكر أئمَّة اللّغة هذا القيد في استعمال صيغة المفاعلة.
ويجوز أن يكون المراد هنا أنَّهم سلكوا معه طريق الحجَّة على صحَّة دينهم أو على إبطال معتقده وهو يسمع، فجعل سماعه كلامهم بمنزلة جواب منه فأطلق على ذلك كلمة المحاجَّة.
وأبهم احتجاجهم هنا إذ لا يتعلَّق به غرض لأنّ الغرض هو الاعتبار بثبات إبراهيم على الحقّ.
وحذف متعلّق {حاجّة} لدلالة المقام، ودلالة ما بعده عليه من قوله: {أتحاجّوني في الله} الآيات.
وقد ذكرت حججهم في مواضع في القرآن، منها قوله في سورة [الأنبياء: 52 56] {إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} إلى قوله: {وأنا على ذلكم من الشاهدين}، وقوله في سورة [الشعراء: 72، 73] {قال هل يَسْمعونكم إذْ تدعون أو ينفعونكم أو يضُرّون الآيات} وفي سورة [الصافات: 85 98] {إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون} إلى قوله: {فجعلناهم الأسفلين} وكلّها محاجَّة حقيقيّة، ويدخل في المحاجّة ما ليس بحجَّة ولكنَّه ممّا يرونه حججًا بأن خوّفُوه غضب آلهتهم، كما يدلّ عليه قوله: {ولا أخاف ما تشركون به} الآية.
والتقدير: وحاجّه قومه فقالوا: كيت وكيت.
وجملة {قال أتحاجّوني في الله} جوابُ محاجَّتهم، ولذلك فصلت، على طريقة المحاورات كما قدّمناه في قوله تعالى: {وإذ قال ربّك للملائكة إنِّي جاعل في الأرض خليفة} في سورة [البقرة: 30]، فإن كانت المحاجَّة على حقيقة المفاعلة فقوله: {أتحاجّوني} غلق لباب المجادلة وخَتْم لها، وإن كانت المحاجّة مستعملة في الاحتجاج فقوله: {أتحاجّوني} جواب لمحاجّتهم، فيكون كقوله تعالى: {فإن حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي لله} [آل عمران: 20].
والاستفهام إنكار عليهم وتأييس من رجوعه إلى معتقدهم.
و{في} للظرفية المجازية متعلّقة بـ {تحاجّوني} ودخولها على اسم الجلالة على تقدير مضاف، لأنّ المحاجَّة لا تكون في الذّوات، فتعيّن تقدير ما يصلح له المقام وهو صفات الله الدّالَّة على أنَّه واحد، أي في توحيد الله وهذا كقوله تعالى: {يُجَادلُنا في قوم لُوط} [هود: 74] أي في استئصالهم.
وجملة {وقد هدانِ} حال مؤكَّدة للإنكار، أي لا جدوى لمحاجَّتكم إيّاي بعد أن هداني الله إلى الحقّ، وشأن الحال المؤكّدة للإنكار أن يكون اتّصاف صاحبها بها معروفًا عند المخاطب.
فالظاهر أنّ إبراهيم نزّلهم في خطابه منزلةَ من يعلم أنّ الله هَداه كناية على ظهور دلائل الهداية.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر {أتحاجّوني} بنون واحدة خفيفة وأصله أتحاجّونني بنونين فحذفت إحداهما للتخفيف، والمحذوفة هي الثانية التي هي نون الوقاية على مختار أبي علي الفارسي.
قال: لأنّ الأولى نون الإعراب وأمّا الثّانية فهي موطّئة لياء المتكلّم فيجوز حذفها تخفيفًا، كما قالوا: ليْتِي في لَيْتَنِي.
وذهب سيبويه أنّ المحذوفة هي الأولى لأنّ الثانية جلبت لتحْمِل الكسرة المناسبة للياء ونون الرفع لا تكون مكسورة، وأيًّا ما كان فهذا الحذف مستعمل لقصد التخفيف.
وعن أبي عمرو بن العلاء: أنّ هذه القراءة لحن، فإن صحّ ذلك عنه فهو مخطئ في زعمه، أو أخْطَأ من عزاه إليه.
وقرأه البقية بتشديد النّون لإدغام نون الرفع في نون الوقاية لقصد التخفيف أيضًا، ولذلك تمدّ الواو لتكون المدّة فاصلة بين التقاء الساكنين، لأنّ المدّة خفّة وهذا الالتقاءُ هو الذي يدعونه التقاء الساكنين على حَدّه.
وحذفت ياء المتكلّم في قوله: {وقد هدانِ} للتخفيف وصلًا ووقفًا في قراءة نافع من رواية قالون، وفي الوقف فقط في قراءة بعض العشرة.
وقد تقدّم في قوله تعالى: {أجيب دعوة الداعي إذا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وقوله: {ولا أخاف ما تشركون به} معطوف على {أتحاجّوني} فتكون إخبارًا، أو على جملة {وقد هَدَانِ} فتكون تأكيدًا للإنكار.
وتأكيدُ الإنكار بها أظهر منه لقوله: {وقد هدانِ} لأنّ عدم خوفه من آلهتهم قد ظهرت دلائله عليه.
فقومُه إمَّا عالمون به أو منزّلون منزلة العالم، كما تقدّم في قوله: {وقد هدَانِ} وهو يؤذن بأنَّهم حاجّوه في التّوحيد وخوّفوه بطش آلهتهم ومسَّهم إيَّاه بسوء، إذ لا مناسبة بين إنكار محاجَّتهم إيَّاه وبين نفي خوفه من آلهتهم، ولا بين هدى الله إيّاه وبين نفي خوفه آلهتهم، فتعيَّن أنّهم خوّفوه مكر آلهتهم.
ونظير ذلك ما حكاه الله عن قوم هود {إنْ نقول إلاّ اعتراك بعضُ آلهتنا بسوء} [هود: 54].
وما من قوله: {ما تشركون به} موصولة ماصْدقها آلهتهم التي جعلوها شركاء لله في الإلهيّة.
والضمير في قوله: {به} يجوز أن يكون عائدًا على اسم الجلالة فتكون الباء لتعدية فعل {تشركون}، وأن يكون عائدًا إلى (ما) الموصولة فتكون الباء سببية، أي الأصنام التي بسببها أشركتم.
وقوله: {إلاّ أن يشاء ربِّي شيئًا} استثناء ممّا قبله وقد جعله ابن عطية استثناء منقطعًا بمعنى لكنْ.
وهو ظاهر كلام الطبري، وهو الأظهر فإنَّه لمّا نفى أن يكون يخاف إضرار آلهتهم وكان ذلك قد يتوهَّم منه السّامعون أنَّه لا يخاف شيئًا استدرك عليه بما دلّ عليه الاستثناءُ المنقطع، أي لكن أخاف مشيئة ربِّي شيئًا ممَّا أخافه، فذلك أخافُه.
وفي هذا الاستدراك زيادة نكاية لقومه إذ كان لا يخاف آلهتهم في حين أنَّه يخشى ربَّه المستحقّ للخشية إن كان قومه لا يعترفون بربّ غير آلهتهم على أحد الاحتمالين المتقدّمين.
وجعل الزمخشري ومتابعوه الاستثناء متّصلًا مفرّغًا عن مستثنى منه محذوف دلّ عليه الكلام، فقدّره الزمخشري من أوقات، أي لا أخاف ما تشركون به أبدًا، لأنّ الفعل المضارع المنفي يتعلّق بالمستقبل على وجه عموم الأزمنة لأنَّه كالنَّكرة المنفية، أي إلاّ وقت مشيئة ربِّي شيئًا أخافه من شركائكم، أي بأنْ يسَلّط ربِّي بعضها عليّ فذلك من قدرة ربِّي بواسطتها لا من قدرتها عليّ.
وجوّز أبو البقاء أن يكون المستثنى منه أحوالًا عامّة، أي إلاّ حالَ مشيئة ربِّي شيئًا أخافه منها.
وجملة: {وسع ربِّي كلّ شيء علما} استئناف بياني لأنَّه قد يختلج في نفوسهم: كيف يشاء ربّك شيئًا تخافه وأنت تزعم أنَّك قائم بمرضاته ومؤيد لدينه فما هذا إلاّ شكّ في أمرك، فلذلك فُصلت، أي إنَّما لم آمن إرادة الله بي ضُرّا وإن كنت عبده وناصر دينه لأنَّه أعلم بحكمة إلحاق الضرّ.
أو النفع بمن يشاء من عباده.
وهذا مقام أدب مع الله تعالى: {فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99].
وجملة {أفلا تتذكَّرون} معطوفة على جملة {أتحاجّوني في الله وقد هَدانِ}.
وقُدّمت همزة الاستفهام على فاء العطف.
والاستفهام إنكار لعدم تذّكرهم مع وضوح دلائل التذكّر.
والمراد التذكّر في صفات آلهتهم المنافية لمقام الإلهية، وفي صفات الإله الحقّ التي دلَّت عليها مصنوعاته. اهـ.

.قال الفخر:

إن إبراهيم عليه السلام حاجهم في الله وهو قوله: {لا أُحِبُّ الآفلين} والقوم أيضًا حاجوه في الله، وهو قوله تعالى خبرًا عنهم: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى في الله} فحصل لنا من هذه الآية أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للمدح العظيم والثناء البالغ، وهي المحاجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام، وذلك المدح والثناء هو قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ} وتارة تكون موجبة للذم وهو قوله: {قَالَ أَتُحَاجُّونّى في الله} ولا فرق بين هذين البابين إلا أن المحاجة في تقرير الدين الحق توجب أعظم أنواع المدح والثناء، والمحاجة في تقرير الدين الباطل توجب أعظم أنواع الذم والزجر.
وإذا ثبت هذا الأصل صار هذا قانونًا معتبرًا، فكل موضع جاء في القرآن والأخبار يدل على تهجين أمر المحاجة والمناظرة فهو محمول على تقرير الدين الباطل، وكل موضع جاء يدل على مدحه فهو محمول على تقرير الدين الحق والمذهب الصدق. والله أعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)} يعني قال لهم أترومون سَتْرَ الشموسِ بإسبال أكمامكم عليها أو تريدون أن تجروا ذيولكم وأن تُسْدِلوا سجوفَكم على ضياء النهار وقد تعالى سلطانُه وتوالى بيانُه؟. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} أي: جادلوه، وأرادوا مغالبته بالحجة، فيما ذهب إليه من توحيد الله، ونفي الشركاء عنه، تارة بأدلة فاسدة واقفة في حضيض التقليد، وأخرى بالتخويف، وقد أشير إلى جواب كل منهما {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} أي: أتجادلونني في توحيده، وقد هداني لإقامة الحجج، ورفع الشبه على نفي إلهية ما سواه، وقد ثبت أنها ناقصة في ذواتها، فكمالاتها من غيرها، ولا إلهية للناقص بالذات، لأن كماله لا يكون مطلقًا، و{تحاجوني} بإدغام نون الجمع في نون الوقاية، وقرئ بحذف الأولى.
وقوله تعالى: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} أي: لا أخاف معبوداتكم، لأنها جمادات لا تضر بنفسها ولا تنفع، وهو جواب عما خوفوه عليه الصلاة والسلام في أثناء المحاجة من إصابة مكروه من جهة أصنامهم، كما قال لهود عليه السلام قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]. وتخويفهم، وإن لم يسبق له ذكر فهم من قوله: {وَلاَ أَخَافُ}.
وقال ابن كثير: أي: ومن الدليل على بطلان قولكم؛ إن هذه المعبودات لا تؤثر شيئًا، وأنا لا أخافها ولا أباليها، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تُنظرون. انتهى.
{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} أي: من إصابة مكروه بي من جهتها، وذلك إنما هو من جهته تعالى، من غير دخل لمعبوداتكم فيه أصلًا.
وفي الانتصاف: غاية خوف إبراهيم منها. المعلق على مشيئة الله تعالى لذلك، خوف الضرر عندها بقدرة الله تعالى، لا بها، وكأنه في الحقيقة لم يخف إلا من الله، لأن الخوف الذي أثبته منها معلق بمشيئة الله وقدرته، وهو كالخوف منها- والله أعلم-.
وقوله تعالى: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} كأنه علة الاستثناء، أي: أحاط بكل شيء علمًا. فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها، أي: كرجمه بالنجوم لأنه إذا أحيل شيء إلى علم الله، أشعر بجواز وقوعه. وفي الإظهار في موضع الإضمار، مع التعرض لعنوان الربوبية، إظهار منه عليه الصلاة والسلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى، واستسلام لأمره، واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته.
هذا وجعل المهايمي ذلك علة لاستدراك محذوف، لعلمه من المقام، حيث قال في الآية: ولا أخاف الضرر على نفسي من تأثير ما تشركون به، إلا أن يشاء ربي أن يجعل لهم شيئًا من التأثير، لكنه لا يشاء في شأني لأنه: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} فعلم أنه لو أوجد التأثير فيهم بما يضرون به من بعثه لتوحيده، صار محجوبًا انتهى- والأول أقرب-.
{أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} أي: تعتبرون بأن هذه المعبودات جمادات، لا تضر ولا تنفع، وأن النافع الضار هو الذي خلق السماوات والأرض. اهـ.