فصل: من فوائد الثعلبي في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأمر بذبح كل غلام يولد.
فحملت أم إبراهيم بإبراهيم، ولم يتبيّن حملها، ولم يعرف أحد أنها حامل، حتى أخذها الطَّلْق فخرَّت إلى جبل من الجبال، ودخلت في غار فولدت إبراهيم.
وخرجت ووضعت صخرة على باب الغار.
فجاءه جبريل عليه السلام ووضع إبهامه في فمه، وكان يمصه ويخرج منه اللبن، وكان يجعل سبّابته في فمه فيمصها، ويخرج منها العسل.
حتى كبر وأدرك في أيام قليلة.
ويقال: إن أمه كانت تختلف إليه وترضعه حتى أرضعته سنتين، وتحمل إليه الطعام حتى أدرك في المدة التي يدرك فيها الصبيان فخرج من الغار فنظر إلى السماء، وإلى الأرض، وإلى الجبال، فتفكَر في نفسه ثم قال: إن لهذه الأشياء خالقًا خلقها.
والذي خلق هذه الأشياء هو الذي خلقني فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} وكان في ذلك التفكير إذا نظر إلى نجم يضيء وهو المشتري، فرآه أضوَأ الكواكب.
وقد علم أن الله تعالى أعلى الأشياء ولا يشبهه شيء من خلقه.
ورأى الكواكب أعلى الأشياء وكان أحسنها.
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هذا رَبّى} وقال: هذا بغير فكرة.
فكان ذلك منه زلة.
ويقال: إنما قال ذلك على سبيل الاستفهام أهذا ربي؟ {فَلَمَّا أَفَلَ} يعني: غاب الكوكب {قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين} يعني: لا أحب ربنا يتغير عن حاله ويزول {فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغًا} يعني: طالعًا.
ويقال: إن ذلك كان في وقت السحر، وكان ذلك في آخر الشهر.
فرأى كوكبًا يعني: الزهرة، حين طلعت، وكان من أضوء الكواكب.
فلما ارتفع وطلع الفجر نقص ضوءه {قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين} يعني: لا أحب ربنا يتغير.
فلما رأى القمر فرأى ضوءه أكثر {قَالَ هذا رَبّى} على سبيل الاستفهام {فَلَمَّا أَفَلَ} يعني: نقص ضوءه حين أسفر الصبح {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين} يعني: لئن لم يحفظ ربي قلبي.
لقد كنت اتخذت إلها ما لم يكن إلهًا {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً} يعني: طالعة قد ملأت كل شيء ضوءًا ف {قَالَ هذا رَبّى هذا أَكْبَرُ} يعني: أعظم وأكثر نورًا {فَلَمَّا أَفَلَتْ} يعني: غربت.
علم أنه ليس بإله.
فجاءته أمه فقال لها: من ربي؟ قالت: أنا.
قال: ومن ربك؟ قالت: أبوك.
قال: ومن رب أبي؟ قالت: نمرود بن كنعان.
قال: ومن ربه؟ قالت له: اسكت.
فقال لها: كيف هو؟ هل يأكل ويشرب وينام؟ قالت: نعم.
قال: هذا لا يصلح أن يكون ربًّا وإلها.
فرجعت الأم إلى أب إبراهيم، فأخبرته بالقصة فخرج إليه فسأله مثل ذلك.
ثم قال له في آخره: تعال حتى تعبد الذي خلقني وخلقك وخلق نمرود.
فغضب أبوه، فرجع عنه، ثم دخلت عليه رأفة الوالد لولده، فرجع إليه.
وقال له: ادخل المِصْر لتكون معنا، فدخل فرأى القوم يعبدون الأصنام.
فدعوه إلى عبادة الأصنام ف {قَالَ} لهم حينئذٍ: {قَالَ يا قوم إِنّى بَريء مّمَّا تُشْرِكُونَ} فقيل له من تَعْبُد أنت يا إبراهيم؟ فقال أعبد الله الذي خلقني وخلق السموات والأرض.
فذلك قوله: {إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ} يعني: أخلصت ديني وعملي {لِلَّذِى فَطَر السموات} يعني: خلق السموات {والأرض حَنِيفًا} يقول: إني وجهت وجهي مخلصًا مستقيمًا {وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} على دينكم.
ويقال: إن قوله: {هذا رَبّى} قال ذلك لقومه على جهة الاستهزاء بهم.
كما قال: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] ويقال: أراد بهذا أن يستدرجهم فيظهر قبيح فعلهم، وخطأ مذهبهم وجهلهم.
لأنهم كانوا يعبدون النجوم والشمس، والقمر.
فلما رأى الكوكب قال لهم: {هذا رَبّى}.
وأظهر لهم أنه يعبد ما يعبدون.
فلما غاب الكوكب قال لهم: {لا أُحِبُّ الآفلين} فأخبرهم بأن الآفل لا يصلح أن يكون إلها.
ثم قال في الشمس والقمر هكذا.
كما روي عن عيسى عليه السلام أنه بعث رسولًا إلى ملك أرض.
فلما انتهى إليهم، جعل يسجد ويصلي عند الصنم ويريهم أنه يعبد الصنم، وهو يريد عبادة الله تعالى.
ثم إن الملك ظهر له عدو.
فقالوا لهذا الرسول: أشر علينا بشيء في هذا الأمر.
فقال: نتشفع إلى هذا الذي نعبده.
فجعلوا يسجدون له ويتشفعون إليه، فلا يسمعون منه جوابًا.
فقالوا: إنه لا ينفعنا شيئًا.
قال لهم: لم تعبدون من لا يدفع عنا ضرًا؟ ارجعوا حتى نعبد من ينفعنا.
فقالوا لمن نعبد؟ قال: لرب السماء.
فجعل يدعو ويدعون حتى فرّج، الله عنهم.
فآمن به بعضهم.
وكذلك هاهنا أراد إبراهيم عليه السلام أن يريهم قبح ما يعبدون من دون الله، لعلهم يرجعون فلما لم يرجعوا قال: {قَالَ يا قوم إِنّى بَريء مّمَّا تُشْرِكُونَ} قرأ حمزة والكسائي {رَأَى كَوْكَبًا} بكسر الراء والألف، وهي لغة لبعض العرب والنصب أفصح.
قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} معناه: وحاجّه قومه في دين الله يعني خاصموه ف {قَالَ} لهم إبراهيم {أَتُحَاجُّونّى في الله} يعني: أتخاصموني في دين الله: {وَقَدْ هَدَانَا} الله لدينه.
قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان {أَتُحَاجُّونّى} بتشديد الجيم وتخفيف النون.
وقرأ الباقون بتشديد النون.
لأن أصله {أتحاجونني} بنونين فأدغم أحدهما في الآخر.
فقال: {قَالَ أَتُحَاجُّونّى} يعني: أتجادلوني في دين الله: {وَقَدْ هَدَانِى} يعني: بيّن لي الطريق.
وكانت خصومتهم أنهم حين سمعوه عاب آلهتهم فقالوا له: أما تخاف تخبلك فتهلك؟ فقال: إني لا أخاف ما لا يسمع ولا يبصر.
وقال الكلبي ومقاتل: لما خوّفوه بذلك قال لهم: إنما تخافون أنتم إذ سوّيتم بين الذكر والأنثى، والصغير والكبير.
أما تخافون من الكبير إذ سويتموه بالصغير؟ وهذا قوله: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}.
قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئًا} فيضلني، فأخاف منهم.
ويقال: إلا أن يشاء ربي شيئًا يعني: ملأ علم ربي كل شيء علمًا.
يعني: يعلم السر والعلانية.
ثم قال: {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} يعني: أفلا تتعظون فتؤمنون به؟ قوله تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} يعني: من الأصنام {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سلطانا} يقول: كتابًا وعذرًا وحجة لكم فيه {فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالامن} من العذاب؟ الموحّد أم المشرك {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ذلك.
ثم قال: {الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} قال بعضهم: هذا قول الله تعالى لما حكى قول إبراهيم للنبي صلى الله عليه وسلم قال: على أثر ذلك {الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} يعني: لم يخالطوا تصديقهم بالشرك ولم يعبدوا غيره.
{أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} من الضلالة.
وقال بعضهم: هذا كله قول إبراهيم لقومه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ وَأُعْطِيَ فَشَكَرَ وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ وَظُلِمَ فَغَفَرَ» قيل له: ما لهم يا رسول الله؟ قال: {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}.
قال الفقيه: حدّثنا الخليل بن أحمد.
قال: حدّثنا الماسرجي.
قال: حدّثنا أبو كريب.
قال: حدّثنا ابن إدريس عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود.
قال: لما نزلت هذه الآية: {الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترون إلى قول لقمان لابنه {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابنى لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]» يعني: إن الظلم أراد به الشرك. اهـ.

.من فوائد الثعلبي في الآيات:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ}.
قال محمد بن إسحاق والضحاك والكلبي: وآزر أبو إبراهيم وهو تارخ مثل إسرائيل ويعقوب وكان من أهل كوثى قرية من سواد الكوفة.
وقال مقاتل بن حيان: لأب إبراهيم.
وقال سليمان (التيمي): هو سب وعيب. ومعناه في كلامهم المعوج وقيل: معناه الشيخ الهنم بالفارسية وهو على هذه الأقاويل في محل الخفض على البدل أو الصفحة ولكنه نصب لأنه لا ينصرف.
وقال سعيد بن المسيب، ومجاهد، ويمان: آزر اسم صنم وهو على هذا التأويل في محل نصب.
وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره أتتخذ آزر أصنامًا ألهة.
وقرأ الحسن وأبو يزيد المدني ويعقوب الحضرمي: آزر بالرفع على النداء بالمفرد يعني يا آزر {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} من دون اللّه إلى قوله: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} يعني كما أريناه البصيرة في دينه والحق في خلاف قومه نريه ملكوت السماوات والأرض أي ملكهما والملكوت الملك وبدت فيه وجدت التاء للتأنيث في الجبروت والرهبوت والرحموت.
وحكي عن العرب سراعًا له ملكوت اليمن والعراق.
وقال الكسائي: زيدت فيه التاء للمبالغة. وأنشد:
وشر الرجال الخالب الخلبوت

وقال عكرمة: هو الملك غير إنها بالنبطية ملكوتًا. وقرأها بالياء المعجمة مليًّا.
وقال ابن عباس: يعني خلق السماوات والأرض.
مجاهد وسعيد بن جبير: يعني آيات السماوات والأرض، وذلك إنه أقيم على صخرة وكشفت له عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرض ونظر إلى مكانه في الجنة. وذلك قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا} [العنكبوت: 27] يعني أريناه مكانه في الجنة.
قال قتادة: إن إبراهيم عليه السلام حدث نفسه إنه أرحم الخلق. فرفعه اللّه عز وجل حتى أشرف على أهل الأرض وأبصر أعمالهم فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال لله: دمرّ عليهم، وجعل يلعنهم. فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك، إهبط فلعلّهم يتوبوا.
قيس بن أبي حازم عن علي كرم اللّه وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما أرى اللّه تعالى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي اللّه فدعا اللّه عليه فهلك، ثم أشرف على آخر فدعا اللّه عليه فهلك، ثم أشرف على آخر فلما أراد أن يدعو عليه أوحى اللّه عز وجل إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدعونّ على عبادي فإنهم مني على ثلاث خصال: إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه، وإما أن أُخرج منه نسمة تسبّح، وإما أن (يعود) إلي فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته».
وقال الضحاك: ملكوت السماوات والأرض الشمس والقمر والنجوم. وقال قتادة: خبيء إبراهيم عليه السلام من جبار من الجبابرة فحول له رزق في أصابعه فإذا مص إصبعًا من أصابعه وجد فيها رزقًا فلما خرج أراه اللّه ملكوت السماوات والأرض وكان ملكوت السماوات الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار.
{وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَبًا} إلى آخر الآية.
قال المفسرون: إن إبراهيم عليه السلام ولد في زمن نمرود بن كيفان وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه وقلد التاج عليه ودعاء الناس [...] وكان له كهان ومنجمون. وقالوا: إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه. ويقال إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام.
وقال السدي: رأى نمرود في منامه كأن كوكبًا اطلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعًا شديدًا ودعا السحرة والكهنة والجازة والقافة فسألهم عن ذلك فقالوا: مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة يكون هلاك ملكك وأهل بيتك على يديه. قالوا: فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشر رجلًا، فإذا حاضت إمرأة خليت بينها وبينه، فإذا طهرت عزل بينها، فرجع آزر أبو إبراهيم فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فوقع عليها في طهرها فلقفت فحملت إبراهيم عليه السلام.
قال محمد بن إسحاق: بعث النمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده، إلاّ ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها وذلك إنها كانت جارية حديثة السن لم تعرف الحمل في بطنها.
قال السدي: خرج نمرود بالرجال إلى المعسكر ونحاهم عن النساء خوفًا من ذلك المولود أن يكون فمكث بذلك ما شاء اللّه ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحدًا من قومه إلاّ أزر فبعث إليه ودعاه. فقال: إن لي إليك حاجة أحبّ أن أوصيك بها ولا أبعثك إلاّ لثقتي بك بما أقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك ولا تواقعها، فقال آزر: أنا أشحّ على ديني من ذلك، فأوصاه بحاجته ثم بعثه فدخل المدينة وقضى حاجته، ثم قال: قد دخلت على أهلي ونظرت إليه فلما نظر إلى أم إبراهيم لم يتمالك حتى وقع عليها فحملت بإبراهيم.