فصل: من فوائد الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن عباس: لما حملت أم إبراهيم، قالت الكهان لنمرود: إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة، فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادت أم إبراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته في نهر يابس، ثم لفته في خرقة فوضعته في حلفاء فرجعت فأخبرت بأنها ولدت وإن الولد في موضع كذا فانطلق أزر يأخذه من ذلك المكان وحفر له سربًا عند نهر فواراه فيه وسدّ عليه بابه بصخرة مخافة السباع، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه.
وقال السدي: لما أعظم بطن أم إبراهيم خشي آزر أن يذبح فانطلق بها إلى أرض بين الكوفة والبصرة يقال لها أورمة فأنزلها في سرب من الأرض وجعل عندها ماء يصلهما وجعل يتعمدها ويكتم ذلك من أصحابه فولدت في ذلك السرب وشب وكان وهو ابن سنة كابن ثلاث سنين وصار من الشباب مخافة أن يسقط في طمع الذباحين ثم ذكر آزر لأصحابه أن لي إبنًا كبيرًا فانطلق به إليهم.
وقال ابن إسحاق: لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلًا إلى مغارة كانت قريبًا منها فولدت فيها إبراهيم فأصلحت من شأنه ما يصنع من المولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل فتجده حيًّا يمص إبهامه.
وقال أبو روق: كانت أم إبراهيم كلما دخلت على إبراهيم وجدته يمص أصابعه، فقالت ذات يوم: لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع عسلًا ومن إصبع لبنًا ومن إصبع تمرًا ومن إصبع سمنًا.
قال محمد بن إسحاق: وكان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل. فقالت: ولدت غلامًا فمات، فصدقها فسكت عنها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلاّ خمسة عشر شهرًا ثم رجع إلى أبيه آزر فأخبره إنه إبنه. وخبرته أم إبراهيم إنه إبنه وأخبرته بما كانت صنعت في غيابه فسر بذلك آزر وفرح فرحًا شديدًا، قالوا: فإنما شب إبراهيم وهو في السرب بعد ما قال لأمه: من ربي؟
قالت: أنا، قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك، قال: فمن ربّ أبي؟ قالت له: أسكت، فسكت، فلما رجعت إلى زوجها قالت: أرأيت الغلام الذي كنّا نتحدّث إنه بغير دين أهل الأرض فإنه إبنك ثم أخبرته بما قال لها، فأتاه أبوه آزر فقال له إبراهيم: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمك، قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا، قال: من ربك أنت؟ قال نمرود، قال: فمن رب نمرود؟ فلطمه لطمة وقال: أسكت وقم، قال لأبويه: أخرجاني، فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل، والخيل، والغنم، فقال: أباه ما هذه؟ قال: إبل وخيل وغنم، فقال: ما لهذه بدّ من أن يكون لها رب وخالق ثم نظر وتفكر في خلق السماوات والأرض. فقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني ربي مالي إله غيره. ثم نظر فإذا المشتري قد طلع ويقال الزهرة وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فرأى الكوكب قبل القمر. فقال: هذا ربي فذلك قوله عز وجل: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل} أي دخل يقال: جن الليل وأجن وجنه الليل وأجنه وجن عليه الليل يجن جنونًا وجنانًا إذا أظلم ومضى كلّ شيء، وإنما سميت الجن لاجتنانها فلا ترى.
قال أبو عبيدة: جنون الليل سواده، وأنشد:
فلولا جنان الليل أدرك ركضنا ** بذي الرمث والأرطي عياض بن ناشب

ورأى كوكبًا ف {قَالَ هذا رَبِّي} اختلفا فيه فأجراه بعضهم على الظاهر. وقالوا: ما كان إبراهيم عليه السلام مسترشدًا متحيرًا طالبًا من التوفيق حتى وفقه اللّه تعالى، وآتاه رشده، فإنما كان هذا منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجّة عليه وفي تلك يقول: لا يكون كفر ولا إيمان.
يدل عليه ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما جن عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربي فعبده حتى غاب فلما غاب {قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغًا قَالَ هذا رَبِّي} فعبده حتى غاب فلما غاب {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ} فعبدها حتى غابت الشمس فلما غابت {قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ}.
وأنكر الآخرون هذا القول، وقالوا: غير جائز أن يكون للّه عز وجل رسول يأتي عليه وقت من الأوقات وهو غير موحد وعارف ومن كلّ معبود سواه بريء.
قالوا: وكيف قومهم هذا على عصمة اللّه وطهره في مستقره ومستودعه وآتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته فقال: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84] وقال: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] رأى كوكبًا فقال: {هذا رَبِّي} على الاعتقاد والحقيقة هذا ما لا يكون أبدًا.
ثم قيل فيه أربعة أوجه من التأويل: الوجه الأول: أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرجهم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموا ويقيم عليهم الحجة ويريهم أنه معظم ما يعظموه ويلتمس الهدى من حيث التمسوا فلما أفل رأيهم النقص الداخل في النجوم ليتبينوا خطأ ما يدعون وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمونها.
قالوا: ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون بدًّا لهم وهو الصنم وأظهر فعظمه فأراهم الإجتهاد [...] كرموا وصدوا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن ذمهم عدو لهم خافه الملك على ملكه فشاور الحواري في أمره.
فقالوا الرأي: أن تدعوا إلهنا حتى يكشف ما قد أضلنا فإنا لمثل هذا اليوم مجتمعون فاجتمعوا حوله يجأرون ويتضرعون وأمر عدوهم يستعجل ويتوكل فلما تبين لهم أن ربّهم لا ينفع ولا يرفع فقال لهم على جهة الإستفهام والتوبيخ لفعلهم {هذا رَبِّي} ومثل هذا يكون ربًّا؟ أي ليس هذا ربي كقول اللّه تعالى: {تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20] يعني أنهم الخالدون.
وكقول موسى عليه السلام لفرعون: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] يعني أو تلك نعمة نعمتها.
قال الهذلي:
رفعوني وقالوا يا خويلد لا ترع ** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

وقال آخر:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ** شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر

والوجه الثالث: أن إبراهيم عليه السلام قال هذا على وجه الاحتجاج على قومه لا على معنى الشك في ربه كأنه قال: هذا ربي عندكم فلمّا أفل قال: وكان الهلال قال: هذا أكبر منه فنظر إلى الذي عكفت عليه هاهنا يعني عندك وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] بقوله حزنه في النار لأبي جهل يعني إنك كذا عند نفسك وأما عندنا فلا عزيزًا ولا كريمًا، في الآية إختصار وإضمار ومعناها قال: يقولون هذا ربي كقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا} [البقرة: 127] أي يقولون ربنا تقبل منا. فلما أفل غاب وزال قال: لا أحب الآفلين ربًا، لا يدوم، فلما رأى القمر بازغًا طالعًا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين عن الهدى فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي.
قال محمد بن مقاتل الرازي: إنما قال هذا ولم يقل هذه لأنه رأى ضوء الشمس ولم ير عين الشمس. فرده إلى الشعاع.
وقال الأخفش: أراد هذا الطالع ربي أو هذا الآتي أراه ربي هذا أكبر لأنه رآه أضوأ وأعظم فلما غربت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} الآية. وكان آزر يصنع الأصنام فلما ضم إبراهيم إلى نفسه جعل يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليصرفها فيذهب بها إبراهيم فينادي: من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد، فإذا زادت عليه ذهب بها إلى نهر فصوّب فيها رؤسها وقال: إشربي إستهزاءً بقومه وبما هم عليه من الضلالة حتى فشى عيبه إياها واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته {وَحَآجَّهُ} أي خاصمه {قَوْمُهُ} في دينه {قَالَ} لهم {أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ} عرّفني التوحيد والحق {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} وذلك إنهم قالوا له: أما تخاف أن تمسك آلهتنا بسوء من برص أو خبل لعيبك إيّاها؟ فقال لهم: ولا أخاف ما تشركون به من الأصنام {إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي} سواء فيكون بما شاء {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} يعني أحاط علمه بكل شيء {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} يعني الأصنام وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} حجة وبرهانًا وهو القاهر القادر على كل شيء ثم قال: {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} أولى بالأمن أنحن ومن اتّبع ديني {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فقال اللّه عز وجل قاضيًا وحاكمًا بينهما {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ} ولم يخلطوا إيمانهم بشرك {أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}.
قال عبد اللّه بن مسعود: لما نزلت هذه الآية طبق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إننا لم نظلم نفسه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] إنما هو الشرك». اهـ.

.من فوائد الجصاص:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ حَالٍ نَظَرَهُ وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى مَا سَبَقَ إلَى وَهْمِهِ وَغَلَبَ فِي ظَنِّهِ؛ لِأَنَّ قَوْمَهُ قَدْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ فَيَقُولُونَ هَذَا صَنَمُ زُحَلَ وَصَنَمُ الشَّمْسِ وَصَنَمُ الْمُشْتَرِي، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ بُلُوغِهِ وَقَبْلَ، إكْمَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَقْلُهُ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ التَّكْلِيفُ، فَقَالَ ذَلِكَ وَقَدْ خَطَرَتْ بِقَلْبِهِ الْأُمُورُ وَحَرَّكَتْهُ الْخَوَاطِرُ وَالدَّوَاعِي عَلَى الْفِكْرِ فِيمَا شَاهَدَهُ مِنْ الْحَوَادِثِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ وَلَدَتْهُ فِي مَغَارٍ خَوْفًا مِنْ نُمْرُودٍ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ الْأَطْفَالَ الْمَوْلُودِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ الْمَغَارِ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ حِينَ شَاهَدَ الْكَوَاكِبَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْمِهِ، وَحَذَفَ الْأَلِفَ وَأَرَادَ: أَهَذَا رَبِّي قَالَ الشَّاعِرُ: كَذَبَتْك عَيْنُك أَمْ رَأَيْت بِوَاسِطٍ غَلَسَ الظَّلَامِ مِنْ الرَّبَابِ خَيَالَا وَمَعْنَاهُ: أَكْذَبَتْك.
وَقَالَ آخَرُ: رَقَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَا تُرَعْ فَقُلْت وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمْ هُمْ مَعْنَاهُ: أَهُمْ هُمْ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} إخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَبٍّ وَلَوْ كَانَ رَبًّا لَأَحْبَبْته وَعَظَّمْته تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَهَذَا الِاسْتِدْلَال الَّذِي سَلَكَ إبْرَاهِيمُ طَرِيقَهُ مِنْ أَصَحِّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَأَوْضَحِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْكَوْكَبَ فِي عُلُوِّهِ وَضِيَائِهِ قَرَّرَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَنْقَسِمُ إلَيْهِ حُكْمُهُ مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا خَالِقًا أَوْ مَخْلُوقًا مَرْبُوبًا، فَلَمَّا رَآهُ طَالِعًا آفِلًا وَمُتَحَرِّكَا زَائِلًا قَضَى بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ لِمُقَارَنَتِهِ لِدَلَالَاتِ الْحَدَثِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِرَبٍّ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمُحْدَثَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إحْدَاثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِيهِ كَمَا اسْتَحَالَ ذَلِكَ مِنْهُ إذْ كَانَ مُحْدَثًا، فَحَكَمَ بِمُسَاوَاتِهِ لَهُ فِي جِهَةِ الْحُدُوثِ وَامْتِنَاعِ كَوْنِهِ خَالِقًا رَبًّا ثُمَّ لَمَّا طَلَعَ الْقَمَرُ فَوَجَدَهُ مِنْ الْعِظَمِ وَالْإِشْرَاقِ وَانْبِسَاطِ النُّورِ عَلَى خِلَافِ الْكَوْكَبِ قَرَّرَ أَيْضًا نَفْسَهُ عَلَى حُكْمِهِ فَقَالَ: هَذَا رَبِّي، فَلَمَّا رَاعَاهُ وَتَأَمَّلَ وَجَدَهُ فِي مَعْنَاهُ فِي بَابِ مُقَارَنَتِهِ لِلْحَوَادِثِ مِنْ الطُّلُوعِ وَالْأُفُولِ وَالِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ حَكَمَ لَهُ بِحُكْمِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ وَأَضْوَأَ مِنْهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مَا شَاهَدَ مِنْ اخْتِلَافِهِمَا مِنْ الْعِظَمِ وَالضِّيَاءِ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ بِالْحُدُوثِ لِوُجُودِ دَلَالَاتِ الْحَدَثِ فِيهِ ثُمَّ لَمَّا أَصْبَحَ رَأَى الشَّمْسَ طَالِعَةً فِي عِظَمِهَا وَإِشْرَاقِهَا وَتَكَامُلِ ضِيَائِهَا قَالَ: هَذَا رَبِّي؛ لِأَنَّهَا بِخِلَافِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ، ثُمَّ لَمَّا رَآهَا آفِلَةً مُنْتَقِلَةً حَكَمَ لَهَا بِالْحُدُوثِ أَيْضًا وَأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ لِشُمُولِ دَلَالَةِ الْحَدَثِ لِلْجَمِيعِ.
وَفِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْحَشْوِ الْقَائِلِينَ بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالتَّقْلِيدِ لَكَانَ أَوْلَاهُمْ بِهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا اسْتَدَلَّ إبْرَاهِيمُ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى قَوْمِهِ ثَبَتَ بِذَلك أَنَّ عَلَيْنَا مِثْلَهُ؛ وَقَدْ قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ ذِكْرِهِ إيَّاهُ مَعَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} فَأَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى الْكُفَّارِ وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ أَحْوَالُ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ عَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ غَيْرُ خَالِقَةٍ وَمَرْبُوبَةٌ غَيْرُ رَبٍّ فَهِيَ دَالَّةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهَا فِي الِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ وَالْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَبًّا خَالِقًا وَأَنَّهُ يَكُونُ مَرْبُوبًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ وَلَا الزَّوَالُ وَلَا الْمَجِيءُ وَلَا الذَّهَابُ، لِقَضِيَّةِ اسْتِدْلَالِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَبَدَ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ فَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَبَدَ كَوْكَبًا أَوْ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ بِكَمَالِ الْعَقْلِ قَبْلَ إرْسَالِ الرُّسُلِ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَدَلَّ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ بِحُجَجِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ قَوْله تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} يعني وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا ذُكِرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُدُوثِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهَا مِنْ مُقَارَنَةِ الْحَوَادِثِ لَهُ لَا يَكُونُ إلَهًا.
وَلَمَّا قُرِّرَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَالَ: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} أَمَّنْ يَعْبُدُ إلَهًا وَاحِدًا أَحَقُّ أَمْ مَنْ يَعْبُدُ آلِهَةً شَتَّى؟ قَالُوا: مَنْ يَعْبُدُ إلَهًا وَاحِدًا، فَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَصَارُوا مَحْجُوجِينَ.
وَقِيلَ إنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ أَمَا تَخَافُ أَنْ يَخْبِلَك آلِهَتُنَا؟ قَالَ لَهُمْ: أَمَا تَخَافُونَ أَنْ تَخْبِلَكُمْ بِجَمْعِكُمْ الصَّغِيرِ مَعَ الْكَبِيرِ فِي الْعِبَادَةِ؟ فَأَبْطَلَ ذَلِكَ حِجَاجُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ رَجَعَ عَلَيْهِمْ مَا أَرَادُوا إلْزَامَهُ إيَّاهُ فَأَلْزَمَهُمْ مِثْلَهُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَأَبْطَلَ قَوْلَهُمْ بِقَوْلِهِ. اهـ.

.من فوائد البيضاوي في الآيات:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ ءازَرَ} هو عطف بيان لأبيه، وفي كتب التواريخ أن اسمه تارح فقيل هما علمان له كإسرائيل ويعقوب، وقيل العلم تارح وآزر وصف معناه الشيخ أو المعوج، ولعل منع صرفه لأنه أعجمي حمل على موازنه أو نعت مشتق من الآزر أو الوزر، والأقرب أنه علم أعجمي على فاعل كعابر وشالخ، وقيل اسم صنم يعبده فلقب به للزوم عبادته، أو أطلق عليه بحذف المضاف. وقيل المراد به الصنم ونصبه بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أتعبد آزر ثم قال: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} تفسيرًا وتقريرًا. ويدل عليه أنه قرئ {أزرًا}، تتخذ أصنامًا بفتح همزة آزر وكسرها وهو اسم صنم. وقرأ يعقوب بالضم على النداء وهو يدل على أنه علم. {إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ في ضلال} عن الحق. {مُّبِينٌ} ظاهر الضلالة.
{وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم} ومثل هذا التبصير نبصره، وهو حكاية حال ماضية. وقرئ: {ترى} بالتاء ورفع الملكوت ومعناه تبصره دلائل الربوبية. {مَلَكُوتَ السموات والأرض} ربوبيتها وملكها. وقيل عجائبها وبدائعها والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة. {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} أي ليستدل وليكون، أو وفعلنا ذلك ليكون.
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هذا رَبّى} تفصيل وبيان لذلك. وقيل عطف على قال إبراهيم وكذلك نري اعتراض فإن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال، وجن عليه الليل ستره بظلامه والكواكب كان الزهرة أو المشتري وقوله: {هذا رَبّى} على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإِفساد، أو على وجه النظر والاستدلال، وإنما قاله زمان مراهقته أو أول أوان بلوغه. {فَلَمَّا أَفَلَ} أي غاب. {قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين} فضلًا عن عبادتهم فإن الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الأمان والحدوث وينافي الألوهية.
{فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغًا} مبتدئًا في الطلوع. {قَالَ هذا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين} استعجز نفسه واستعان بربه في درك الحق، فإنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه إرشادًا لقومه وتنبيهًا لهم على أن القمر أيضًا لتغير حاله لا يصلح للألوهية، وأن من اتخذه إلهًا فهو ضال.
{فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبّى} ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر وصيانة للرب عن شبهة التأنيث. {هذا أَكْبَرُ} كبره استدلالًا أو إظهارًا لشبهة الخصم. {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنّى بَرِيءٌ مّمَّا تُشْرِكُونَ} من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها ومخصص يخصصها بما تختص به، ثم لما تبرأ منها توجه إلى موجدها ومبدعها الذي دلت هذه الممكنات عليه فقال: {إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السموات والأرض حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} وإنما احتج بالأفول دون البزوغ مع أنه أيضًا انتقال لتعدد دلالته، ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال.
{وَحَاجُّهُ قَوْمُهُ} وخاصموه في التوحيد. {قَالَ أَتُحَاجُّونّى في الله} في وحدانيته سبحانه وتعالى. وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام بتخفيف النون. {وَقَدْ هَدَانِ} إلى توحيده. {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} أي لا أخاف معبوداتكم في وقت لأنها لا تضر بنفسها ولا تنفع. {إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئًا} أن يصيبني بمكروه من جهتها، ولعله جواب لتخويفهم إياه من آلهتهم وتهديد لهم بعذاب الله. {وَسِعَ رَبّى كُلَّ شيء عِلْمًا} كأنه علة الاستثناء، أي أحاط به علمًا فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها. {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز.
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} ولا يتعلق به ضر. {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله} وهو حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع بالصانع، وتسوية بين المقدور العاجز بالقادر الضار النافع. {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سلطانا} ما لم ينزل بإشراكه كتابًا، أو لم ينصب عليه دليلًا. {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} أي الموحدون أو المشركون، وإنما لم يقل أينا أنا أم أنتم احترازًا من تزكية نفسه. {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ما يحق أن يخاف منه.
{الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} استئناف منه أو من الله بالجواب عما استفهم عنه، والمراد بالظلم هاهنا الشرك لما روي أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا: أينا لم يظلم نفسه فقال عليه الصلاة والسلام: «ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان لابنه {يا بنى لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}» وليس الإِيمان به أن يصدق بوجود الصانع الحكيم ويخلط بهذا التصديق الإِشراك به. وقيل المعصية. اهـ.