فصل: من فوائد الخطيب الشربيني في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الخطيب الشربيني في الآيات:

قال رحمه الله:
{وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر}.
اختلف العلماء في لفظة آزر فقال مجاهد: آزر اسم أبي إبراهيم وهو تارح ضبطه بعضهم بالحاء المهملة وبعضهم بالخاء المعجمة، وقال البخاريّ في تاريخه الكبير: إبراهيم بن آزر وهو في التوراة تارخ فعلى هذا يكون لأبي إبراهيم اسمان: آزر وتارخ مثل يعقوب وإسرائيل اسمان لرجل واحد فيحتمل أن يكون اسمه آزر وتارخ لقب له وبالعكس، فالله سماه آزر وإن كان عند النسابين والمؤرّخين اسمه تارح ليعرف بذلك وكان آزر أبو إبراهيم من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة وقال سعيد بن المسيب ومجاهد: آزر اسم صنم كان والد إبراهيم يعبده وإنما سماه بهذا الاسم لأنّ من عبد شيئًا أو أحبه جعل اسم ذلك المعبود أو المحبوب اسمًا له فهو كقوله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} [الإسراء] وقيل: معناه وإذا قال إبراهيم لأبيه: يا عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والأوّل أصح لأن آزر اسم أبي إبراهيم لأنّ الله تعالى سماه به وأخرج البخاري في أفراده أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه آزر يوم القيامة على وجهه» أي: آزر فترة وغبرة الحديث سماه النبيّ صلى الله عليه وسلم آزر أيضًا ولم يقل أباه تارح كما نقل عن النسابين والمؤرخين فثبت بهذا أنّ اسمه الأصلي آزر لا تارح وكان أهل تلك البلاد وهم الكنعانيون يعتقدون إلهية النجوم في السماء والأصنام في الأرض فيجعلون لكل نجم صنمًا فإذا أرادوا التقرب إلى ذلك النجم عبدوا ذلك الصنم ليشفع لهم عند ذلك النجم فقال إبراهيم منكرًا عليهم منبهًا لهم على ظهور فساد ما هو مرتكبه {أتتخذ} أي: أتكلف نفسك إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى بأن تجعل {أصنامًا آلهة} أي: تعبدها وتخضع لها ولا نفع فيها ولا ضر {إني أراك وقومك} أي: في إتفاقكم على هذا {في ضلال} أي: بعد عن الصراط المستقيم {مبين} أي: ظاهر جدًا ببديهة العقل مع مخالفته لكل نبيّ نباه الله تعالى من آدم عليه السلام فمن بعده، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون.
{وكذلك} أي: ومثل هذا التبصير العظيم الشأن {نري إبراهيم} أي: نبصر وهي حكاية حال ماضية {ملكوت السموات والأرض} أي: عجائبهما وبدائعهما والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة كالرهبوت والرغبوت والرحموت من الرغبة والرهبة والرحمة، وقال ابن عباس: خلق السموات والأرض، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني آيات السموات والأرض وذلك إنه أقيم على صخرة وكشف له عن السموات حتى رأى العرش والكرسي وما في السموات من العجائب وحتى رأى مكانه في الجنة فذلك قوله تعالى: {وآتيناه أجره في الدنيا} [العنكبوت].
معناه: أريناه مكانه في الجنة وكشف له عن الأرض حتى نظر أسفل الأرضين ورأى ما فيها من العجائب.
وروي عن سلمان ورفعه بعضهم عن علي قال: «لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلًا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال الرب تبارك وتعالى: يا إبراهيم إنك رجل مجاب الدعوة فلا تدعو على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال: إمّا أن يتوب إليّ فأتوب عليه وإمّا أن أخرج منه نسمة تعبدني وإمّا أن يبعث إليّ فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته» وفي رواية: «فإن تولى فإنّ جهنم من ورائه».
وقال قتادة: ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار. وقيل: إنّ هذه الرؤية كانت بعين البصيرة لأنّ ذلك لا يدرك إلا بالعقل فأريناه ذلك ليستدل به على توحيدنا {وليكون من الموقنين}: واليقين عبارة عن علم يحصل بسبب التأمّل بعد زوال الشبهة لأنّ الإنسان في أوّل الحال لا ينفك عن شبهة فإذا كثرت الدلائل وتوافقت صارت سببًا لحصول اليقين والطمأنينة في القلب وزالت الشبهة عند ذلك قال ابن عباس في: {وليكون من الموقنين} جلي له الأمر سرّه وعلانيته فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله تعالى إنك لا تستطيع هذا فردّه الله تعالى كما كان قبل ذلك.
{فلما جنّ عليه الليل} أي: دخل فيه {رأى كوكبًا قال هذا ربي فلما أفل} أي: غاب {قال لا أحب الآفلين} وذلك إنّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولد في زمن نمروذ بن كنعان وكان النمروذ أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته وكان له كهان ومنجمون فقالوا له: إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه، ويقال: إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء، وقال السدي: إنّ النمروذ رأى في منامه كأنّ كوكبًا طلع فذهب بضوأي الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعًا شديدًا ودعا السحرة والكهنة فسألهم فقالوا: هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة فيكون هلاكك وهلاك ملكك وأهل بيتك على يديه فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشرة رجلًا فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض فإذا طهرت حيل بينهما فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت فواقعها فحملت بإبراهيم.
قال محمد بن إسحاق: بعث نمروذ إلى كل امرأة حبلى بقربه يحسبها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت صغيرة لم يعرف الحبل ببطنها، وقال السدي: خرج نمروذ بالرجال إلى العسكر ونحاهم عن النساء خوفًا من ذلك ثم بدت له حاجة إلى المدينة ولم يأمن عليها أحدًا من قومه إلا آزر فبعث إليه وأقسم عليه أن لا يدنو من أهله فقال آزر: أنا أشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجته ثم قال: لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم إبراهيم لم يتمالك حتى واقعها فحملت إبراهيم، قال ابن عباس: لما حملت أم إبراهيم به قال الكهان لنمروذ: إن الغلام الذي أخبرناك عنه قد حملته أمّه الليلة فأمر نمروذ بذبح الغلمان.
قال محمد بن إسحاق: لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلًا إلى مغارة وكانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدّت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها وكانت تختلف إليه فتنظر ما فعل فتجده يمص من إصبع ماء ومن إصبع لبنًا ومن إصبع عسلًا ومن إصبع تمرًا ومن إصبع سمنًا، وقال محمد بن إسحاق: كان آزر قد سأل أمّ إبراهيم عن حملها فقالت: ولدت غلامًا فمات فصدقها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرًا حتى قال لأمّه: أخرجيني، فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض وقال: إنّ الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي ما لي إله غيره، ثم نظر في السماء فرأى كوكبًا فقال: هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال: لا أحب الآفلين.
{فلما رأى القمر بازغًا} أي: مبتدئًا في الطلوع {قال هذا ربي} فأتبعه بصره {فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين}، وقيل: إنه كان في السرب سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة سنة، قال بعض أهل التفسير: فلما شبّ إبراهيم وهو في السرب قال لأمّه: من ربي؟ قالت: أنا، قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك قال: فمن رب أبي؟ قالت: اسكت، فسكت ثم رجعت إلى زوجها فقالت: الغلام الذي كنا نحدّث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك، ثم أخبرته بما قال فأتاه أبوه فقال له إبراهيم: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمّك، قال: فمن رب أمّي؟ قال: أنا، قال: فمن ربك؟ قال: نمروذ قال: فمن رب نمروذ؟ فلطمه وقال: اسكت، فلما أخرج من السرب وجنّ عليه الليل رأى المشتري قد طلع- وقيل: الزهرة- وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فتأخر القمر فيها فرأى الكوكب فقال ذلك.
وهل ذلك جار على ظاهره أو مؤوّل جرى بعضهم على الأوّل، وقال: كان إبراهيم مسترشدًا طالبًا للتوحيد حتى وفقه الله تعالى فلم يضره ذلك وأيضًا كان ذلك في طفوليته قبل قيام الحجة عليه فلم يكن كفرًا والأصح الثاني إذ لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء، ثم قال: في تأويله أوجه: أحدها- وهو الأصح: أن إبراهيم ذكر ذلك على وجه الاحتجاج عليهم بقوله: هذا ربي أي: في زعمكم فلما غاب قال: لو كان إلهًا لما غاب كما قال تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان].
أي: عند نفسك وبزعمك وكما أخبر عن موسى أنه قال: {وانظر إلى إلهك} [طه].
أي: في زعمك فلما أفل قال: لا أحبّ الآفلين فضلًا عن عبادتهم فإنّ الانتقال والاحتجاج يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهية فلم ينجح فيهم ذلك {فلما رأى القمر بازغًا} قال لهم: هذا ربي فلما أفل أي: غاب قال: {لئن لم يهدني ربي} أي: يثبتني على الهدى لا إنه لم يكن مهتديًا والأنبياء لم يزالوا يسألون الله تعالى الثبات على الإيمان وكان إبراهيم عليه السلام يقول: وأجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام.
{فلما رأى الشمس بازغة} أي: عند طلوع النهار {قال} لهم {هذا ربي هذا أكبر} أي: من الكواكب والقمر ولم يقل هذه مع أنّ الشمس مؤنثة لأنه أراد هذا الطالع أو رده إلى المعنى وهو الضياء والنور لأنه رآه أضوأ من النجم والقمر أو ذكره لتذكير خبره {فلما أفلت} أي: غربت وقويت عليهم الحجة فلم يرجعوا {قال يا قوم إني بريء مما تشركون} أي: بالله من الأصنام والأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث التي تجعلونها شركاء لخالقها، والوجه الثاني: من التأويل أنه قال ذلك على وجه الاستفهام تقديره: أهذا ربي؟ كقوله تعالى: {أفائن مت فهم الخالدون} [الأنبياء].
أي: أفهم الخالدون وذكره على وجه التوبيخ منكرًا لفعلهم، والوجه الثالث: إنه أراد أن يستدرجهم بهذا القول ويعرّفهم خطأهم وجهلهم ومثل هذا مثل من ورد على قوم يعبدون صنمًا فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدروا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدوّ فشاوروه في أمره فقال: الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى ينكشف عنا ما أصابنا فاجتمعوا حوله يتضرعون فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله تعالى فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يجدون فأسلموا.
فإن قيل: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟
أجيب: بأنّ الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب ولما ظهر خلاف قومه واستمرّوا في شركهم وقالوا له: من تعبد أنت؟ أظهر لهم ما هو عليه من الحق بقوله: {إني وجهت وجهي} أي: أخلصت قصدي وصرفت عبادتي {للذي فطر السموات والأرض} أي: خلقهما وابتدعهما وهو الله تعالى: {حنيفًا} أي: مائلًا إلى الدين القويم عن كل دين يخالفه وأصل الحنيف الميل وهو عن طريق الضلال إلى طريق الاستقامة، وقيل: الحنيف هو الذي يستقبل الكعبة بصلاته {وما أنا من المشركين} تبرأ من الشرك الذي كان عليه قومه أي: وما أنا منكم ولا أعدّ في عدادكم بشيء أقاربكم به.
{وحاجه قومه} أي: خاصموه في التوحيد وهددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن لم يرجع عن الكلام فيها {قال} لهم {أتحاجوني} أي: أتجادلونني {في الله} أي: في وحدانيته، وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف النون وهي نون الرفع عند النحاة ونون الوقاية عند الفراء، والباقون بالتشديد {وقد} أي: والحال إنه قد {هداني} إلى توحيده ومعرفته {ولا أخاف ما تشركون به} شيئًا وذلك إن إبراهيم لما رجع إلى أبيه وصار من الشباب بحالة سقط عنه طمع الذباحين أي: ذباحي نمروذ وضمه آزر إلى نفسه وجعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها لإبراهيم ليبيعها فيذهب بها إبراهيم وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ فلا يشتريها أحد فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب رؤوسها وقال: اشربي استهزاء بقومه وما هم عليه حتى فشا استهزاؤه بها في قومه وأهل قريته فقالوا له: احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسك بخبل أو جنون بعيبك إياها فقال: إنما يكون الخوف ممن يقدر على النفع والضر وهو قوله تعالى: {إلا أن يشاء ربي شيئًا} وهذا استثناء منقطع معناه لكن إن شاء ربي شيئًا من المكروه يصيبني فيكون لأنه قادر على النفع والضر وإنما قال إبراهيم ذلك لاحتمال إنّ الإنسان قد يصيبه في بعض حالاته وأيام عمره وما يكرهه فلو أصابه مكروه نسبوه إلى الأصنام فنفى هذه الشبهة بذلك {وسع ربي كل شيء علمًا} أي: أحاط علمه بكل شيء من معلومه {أفلا تتذكرون} أي: يقع منكم تذكر فتميزوا بين الحق والباطل والقادر والعاجز.
{وكيف أخاف ما أشركتم} به أي: الأصنام وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع {ولا تخافون} أنتم {أنكم أشركتم با} وهو تعالى حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع مع الصانع وتسوية بين المقدور العاجز والقادر الضارّ النافع {ما لم ينزل به} أي: بعبادته {عليكم سلطانًا} أي: حجة وبرهانًا وهو القادر على كلّ شيء {فأيّ الفريقين} أي: حزب الله وحزب ما أشركتم ولم يقل فأينا تعميمها للمغنيّ {أحق بالأمن} أهم الموحدون أو المشركون {إن كنتم تعلمون} من الأحق أي: إن كان لكم علم فأخبروني عما سألتكم عنه والأحق بذلك هم الموحدون فاتبعوهم قال تعالى قاضيًا بينهما: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} أي: لم يخلطوا إيمانهم بشرك.
روي أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله فأينا لم يظلم نفسه فقال: «ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم} [لقمان]».
{أولئك} أي: الموصوفون بما ذكر {لهم الأمن} أي: من العذاب المؤبد {وهم مهتدون}. اهـ.