فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن عاشور:
فإذا علمت هذا علمت أنّ ما وقع في أبيات ثلاثةٍ نظمها البعض، ذكرها الشّيخ إبراهيم البيجوري في مبحث الإيمان من شرحه على جوهرة التَّوحيد:
حَتم على كلّ ذي التكليف معرفة ** بأنبياءٍ على التفصيل قد علموا

في تلك حُجّتنا منهم ثمانية ** من بعد عَشر ويبقَى سبعة وهمُ

إدريس هود شعيب، صالح وكذا ** ذو الكِفّل، آدم، بالمختار قد ختموا

لا يستقيم إلاّ بتكلّف، لأنّ كون معرفة ذلك حتمًا يقتضي ظاهره الاصطلاحيّ أنّه واجب، وهذا لا قائل به فإنْ أراد بالحتم الأمرَ الّذي لا ينبغي إهماله كان مُتأكّدًا لقوله: على كلّ ذي التّكليف.
فلو عوّضه بكلّ ذي التّعليم.
ولعلّه أراد بالحتم أنّه يتحتّم على من علم ذلك عدمُ إنكار كوننِ هؤلاء أنبياءَ بالتّعيين، ولكن شاء بين وجوب معرفة شيء وبين منع إنكاره بعد أن يُعرف.
فأمّا رسالة هود وصالح وشعيب فقد تكرّر ذكرها في آيات كثيرة.
وأمّا معرفة نبوءة ذي الكفل ففيها نظر إذ لم يصرّح في سورة الأنبياء بأكثر من كونه من الصّابرين والصّالحين.
واختلف المفسّرون في عدّه من الأنبياء، ونسب إلى الجمهور القول بأنّه نبيء.
وعن أبي موسى الأشعري ومجاهد: أنّ ذا الكفل لم يكن نبيئًا.
وسيأتي ذكر ذلك في سورة الأنبياء.
وأمّا آدم فإنّه نبيء منذ كونه في الجنّة فقد كلّمه الله غيرَ مرّة.
وقال: {ثمّ اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى} [طه: 122] فهو قد أهبط إلى الأرض مشرّفًا بصفة النّبوءة.
وقصّة ابني آدم في سورة المائدة دالّة على أنّ آدم بلّغ لأبنائه شَرعًا لقوله تعالى فيها {إذ قرّبا قربانًا فتُقبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر قال لأقتلنّك قال إنّما يتقبّل الله من المتّقين لئن بسطتّ إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ العالمين إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النّار وذلك جزاء الظّالمين} [المائدة: 27 29].
فالّذي نعتمده أنّ الّذي ينكر نبوءة معيَّن ممّن سمّي في القرآن في عداد الأنبياء في سورة النّساء وسورة هود وسورة الأنعام وسورة مريم، وكان المنكر محقّقًا علمُه بالآية الّتي وصف فيها بأنّه نبيء ووقف على دليل صحّة ما أنكره وروجع فصمّم على إنكاره، إنّ ذلك الإنكار يكون كفرًا لأنّه أنكر معلومًا بالضّرورة بعد التّنبيه عليه لئلاّ يعتذر بجهلٍ أو تأويلٍ مقبول.
واعلَمْ أنّي تطلّبت كشف القناع عن وجه الاقتصار على تسمية هؤلاء الأنبياء من بين سائر الأنبياء من ذرّيّة إبراهيم أو ذرّيّة نوح، على الوجهين في معاد ضمير {ذرّيّته}.
فلم يتّضح لي وتطلّبت وجه ترتيب أسمائهم هذا التّرتيبَ، وموالاة بعض هذه الأسماء لبعض في العطف فلم يَبْدُ لي، وغالب ظنّي أنّ من هذه الوجوه كون هؤلاء معروفون لأهل الكتاب وللمشركين الّذين يقتبسون معرفة الأنبياء من أهل الكتاب، وأنّ المناسبة في ترتيبهم لا تخلو من أن تكون ناشئة عن الابتداء بذكر أنّ إسحاق ويعقوب موهبة لإبراهيم وهما أب وابنه، فنشأ الانتقال من واحد إلى آخر بمناسبة للانتقال، وأنّ توزيع أسمائهم على فواصل ثلاث لا يخلو عن مناسبة تجمع بين أصحاب تلك الأسماء في الفاصلة الشّاملة لأسمائهم.
ويجوز أنّ خفّة أسماء هؤلاء في تعريبها إلى العربيّة حُروفًا ووزنًا لها أثر في إيثارها بالذّكر دون غيرها من الأسماء نحو (شَمعون وشمويل وحزقيال ونحميا)، وأنّ المعدودين في هذه الآيات الثّلاث توزّعوا الفضائل إذ منهم الرّسل والأنبياء والملوك وأهل الأخلاق الجليلة العزيزة من الصّبر وجهاد النّفس والجهاد في سبيل الله والمصابرة لتبليغ التّوحيد والشّريعة ومكارم الأخلاق، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في آخر الآيات: {أولئك الّذين آتيناهم الكتاب والحكم والنّبوءة} [الأعراف: 89] ومن بينهم أصلًا الأمّتين العربيّة والإسرائيليّة.
فلمّا ذكر إسحاق ويعقوب أردف ذكرُهما بذكر نبيئيْن من ذرّيّة إسحاق ويعقوب، وهما أب وابنه من الأنبياء هما داوود وسليمان مبتدءًا بهما على بقيّة ذرّيّة إسحاق ويعقوب، لأنّهما نالا مَجْدَين عظيمين مجدِ الآخرة بِالنّبوءة ومجد الدنيا بالملك.
ثمّ أردف بذكر نبيئين تماثلًا في أنّ الضرّ أصاب كليهما وأنّ انفراج الكرب عنهما بصبرهما.
وهما أيّوب ويوسف.
ثمّ بذكر رسولين أخوين هما موسى وهارون، وقد أصاب موسى مثلُ ما أصاب يوسفَ من الكيد له لقتله ومن نجاته من ذلك وكفالته في بيت المُلك، فهؤلاء الستّة شملتهم الفاصلة الأولى المنتهية بقوله تعالى: {وكذلك نجزي المحسنين}.
ثمّ بذكر نبيئين أب وابنه وهما زكرياء ويحيى.
فناسبَ أن يذكر بعدهما رسولان لا ذرّيّة لهما، وهما عيسى وإلياس، وهما متماثلان في أنّهما رفعا إلى السّماء.
فأمّا عيسى فرفْعه مذكور في القرآن، وأمّا إلياس فرفعه مذكور في كتب الإسرائليين ولم يذكره المفسّرون من السلف.
وقد قيل: إنّ إلياس هو إدريس وعليه فرفعه مذكور في قوله تعالى: {واذكر في الكتاب إدريس إنّه كان صديقًا نبيئًا ورفعناه مكانًا عليًا} في سورة مريم (56، 57).
وابتدئ بعيسى عطفًا على يحيى لأنّهما قريبان ابنا خالة، ولأنّ عيسى رسول وإلياس نبيء غير رسول.
وهؤلاء الأربعة تضمّنتهم الفاصلة الثّانية المنتهية بقوله تعالى: {كلّ من الصّالحين}.
وعُطف اليسع لأنّه خليفة إلياس وتلميذه، وأدمج بينه وبين إلياس إسماعيل تنهية بذكر النّبيء الّذي إليه ينتهي نسب العرب من ذرّيّة إبراهيم.
وخُتوا بيونس ولوط لأنّ كلًا منهما أرسل إلى أمّة صغيرة.
وهؤلاء الأربعة تضمّنتهم الفاصلة الثّالثة المنتهية بقوله: {وكلًا فضّلنا على العالمين}.
وقوله: {ومن آبائهم} عطف على قوله: {كُلًا}.
فالتَّقدير: وهدينا من آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم.
وجعل صاحب الكشاف (مِن) اسما بمعنى بعض، أي وهدينا بعض آبائهم على طريقته في قوله تعالى: {من الَّذين هادوا يحرّفون} [النساء: 46].
وقدّر ابنُ عطيّة ومن تبعه المعطوف محذوفًا تقديره: ومن آبائهم جمعًا كثيرًا أو مهديين كثيرين، فتكون (مِن) تبعيضية متعلّقة بـ {هدينا}.
والذرّيَّات جمع ذرّيَّة، وهي مَن تناسل من الآدمي من أبناء أدْنَيْن وأبنائهم فيشمل أولاد البنين وأولاد البنات.
ووجه جمعه إرادة أنّ الهدى تعلّق بذرّيّة كلّ من له ذرّيّة من المذكورين للتنبيه على أنّ في هدي بعض الذرّية كرامة للجدّ، فكلّ واحد من هؤلاء مراد وقوعُ الهدي في ذرّيَّته.
وإنْ كانت ذرّياتهم راجعين إلى جدّ واحد وهو نوح عليه السّلام.
ثمّ إن كان المراد بالهدى المقدّر الهُدَى المماثل للهُدى المصرّح به، وهو هُدى النّبوءة، فالآباء يشمل مثل آدم وإدريس عليهم السلام فإنّهم آباء نوح. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)}.
ولم يأت الحق بالثمانية عشر نبيًا متتابعين بل قسمهم بحكمة، فيقول: {وَإِسْمَاعِيلَ واليسع وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًا فَضَّلْنَا عَلَى العالمين}.
ولا يقتصر الأمر على هؤلاء بل يقول سبحانه: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ واجتبيناهم وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
وأنت إن نظرت إلى هؤلاء الثمانية عشر نبيًا المذكورين هنا، ستجد أنهم من الخمسة والعشرين رسولًا الذين أمرنا بالإيمان بهم تفصيلا. وقد جمعوا في قول الناظم:
في تلك حجتنا منهم ثمانية ** من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو

إدريس هود شعيب صالح وكذا ** ذو الكفل آدم بالمختار وقد ختموا

والحق سبحانه وتعالى لم يجعل من الأنبياء ملوكا إلا اثنين: داود وسليمان حتى يعطينا فكرة أن الله إذا أراد أن يقهر خلقًا على شيء لا يقدر عليه أحد يبعث مَلِكًا رسولًا؛ لأن المَلِك لا يقدر عليه عبد لأنَّ القدرة معه، والمجتمع آنذاك كان في حاجة إلى ملك يدير أمره ويضبط شأنه، وسبحانه لا يريد الإيمان بالقوة والخوف والرهبوت إنما يريده بالاختيار، ولذلك جعل أغلب الأنبياء ليسوا ملوكًا.
وفي الحديث: «أفملكا نبيا يجعلك أو عبدًا رسولًا» فاختار أن يكون عبدا رسولا؛ لأن الملك يأتي بسلطانه وبماله، وقد يطغى.
وأراد الحق أن يكون سليمان وداود من الأنبياء وهما ملكان، وتتمثل فيهما القدرة وسعة الملك والسلطان. أمّا أيوب فقد أخذ زاوية أخرى من الزوايا وهي الابتلاء والصبر مع النبوة، وكل نبي فيه قدر مشترك من النبوة، وفيه تميّز شخصي. وكذلك يوسف أخذ الابتلاء أولًا، ثم أخذ الملك والسلطان في النهاية. وموسى وهارون أخذ شهرة الاتْبَاع، ونكاد لا نعرف من الأديان إلا اليهودية والنصرانية، أما زكريا ويحيى وعيسى وإلياس فقد أخذوا ملكة الزهد.
وأما إسماعيل واليسع ويونس ولوطًا فقد أخذوا ما زخرت به حياتهم من عظيم الفعال وكريم الخصال والسلوك القويم والقدوة الطيبة وبقي لهم الذكر الحسن.
إذن فهناك زوايا متعددة للأنبياء.
وعندما وقف العلماء عند عيسى هل يدخل في ذريتهم، وجدوا من يستنبط ويقول: من ذريتهم من ناحية الأم.
وإنما أمهات القوم أوعية ** مستحدثات وللأحساب آباء

والعنصر البشري في عيسى هو الأم. وبمثل هذا احتج أبو جعفر محمد الباقر أمام الحجاج حين قال له: أنتم تدعون أنكم من آل رسول الله ومن نسله، مع أن رسول الله ليس له ذرية!
قال له الإمام الباقر رضي الله عنه: كأنك لم تقرأ القرآن.
قال له: وأي شيء في القرآن؟
قال اقرأ: {ومن ذريته...} إلى أن تقرأ: {وعيسى} فعيسى من ذرية نوح، من أب أَم من أُمّ؟.
قال له: من أُمّ. فقال له: نحن كذلك من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ومِنْ آبائِهِمْ} {آبائهم}: فيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتعلِّقٌ بذلك الفعل المقدر، أي: وهدينا من آبائهم، أو فضَّلنا من آبائهم، ومِنْ تَبْعِيضيَّةٌ قال ابن عطية: وهَدَيْنَا مِنْ آبَائِهِمْ وذرِّيَّاتهم وإخوانهم جماعات، ف مِنْ للتبعيض، والمفعول محذوف.
الثاني: أنه معطوف على {كُلًا}، أي: وفضَّلنا بعض آبائهم.
وقدَّر أبو البقاء هذا الوجه بقوله: وفضلنا كلًا من آبائهم، وهدينا كُلًا من آبائهم.
وإذا كان للتَّبْعِيضِ دلَّت على أن آباء بعضهم كانوا مشركين.
وقوله: {وذُرِّيَّاتهم}، أي: وذرِّيَّة بعضهم، لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما وَلَدٌ، وكان في ذرية بعضهم من كان كَافِرًا.
وقوله: {وإخوانهم} و{اجْتَبَيْنَاهُمْ} يجوز أن يعطف على {فضَّلنا}، ويجوز أن يكون مُسْتأنفًا وكرر لفظ الهداية توكيدًا، ولأن الهِدايةَ أصْلُ كل خير، والمعنى: اصْطَفَيْنَاهُمْ، وأرشدناهم إلى صراط مستقيم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (88):

قوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ربما أوهم تنكيرُه نقصًا فيه، قال مستأنفًا بيانًا لكماله وتعظيمًا لفضله وإفضاله: {ذلك} أي الهدى العظيم الرتبة {هدى الله} أي المستجمع لصفات الكمال {يهدي} أي يخلق الهداية {به} أي بواسطة الإقامة عليه {من يشاء من عباده} أي سواء كان له أب يعمله أو كان له من يحمله على الضلال أولا؛ ولما بين فضل الهدى ونص على رؤوس أهله، تهدد من تركه كائنًا من كان، فقال مظهرًا لعز الإلهية بالغنى المطلق منزهًا نفسه عما لوحظ فيه غيره ولو بأدنى لحظ: {ولو أشركوا} أي هؤلاء الذين ذكرنا من مدحهم ما سمعتَ وبينّا من اختصاصنا لهم ما علمت- شيئًا من شرك وقد أعاذهم الله من ذلك، وأقام بهم معوج المسالك، وأنار بهم ظلام الأرض بطولها والعرض {لحبط عنهم} أي فسد وسقط {ما كانوا يعملون} أي وإن كان في غاية الإتقان بقوانين العلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الهدى هو معرفة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الشرك، لأنه قال بعده: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] وذلك يدل على أن المراد من ذلك الهدي ما يكون جاريًا مجرى الأمر المضاد للشرك.
وإذا ثبت أن المراد بهذا الهدى معرفة الله بوحدانيته.
ثم إنه تعالى صرح بأن ذلك الهدى من الله تعالى، ثبت أن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله تعالى، ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بنفي الشرك فقال: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ} والمعنى أن هؤلاء الأنبياء لو أشركوا لحبط عنهم طاعاتهم وعباداتهم.
والمقصود منه تقرير التوحيد وإبطال طريقة الشرك.
وأما الكلام في حقيقة الإحباط فقد ذكرناه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة. والله أعلم. اهـ.