فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة}.
لما ذكر أنه تعالى فضلهم واجتباهم وهداهم ذكر ما فضلوا به، والكتاب: جنس للكتب الإلهية كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل، والحكم: الحكمة أو الحكم بين الخصوم أو ما شرعوه أو فهم الكتاب أو الفقه في دين الله أقوال، وقال أبو عبد الله الرازي: {آتيناهم الكتاب} هي رتبة العلم يحكمون بها على بواطن الناس وأرواحهم و{الحكم} مرتبة نفوذ الحكم بحسب الظاهر و{النبوة} المرتبة الثالثة وهي التي يتفرع على حصولها حصول المرتبتين فالحكام على الخلق ثلاث طوائف. انتهى ملخصًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{أولئك} إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة كما قيل.
واقتصر الإمام على المذكورين من الأنبياء، وعن ابن بشير قال: سمعت رجلًا سأل الحسن عن أولئك فقال له: من في صدر الآية وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: {الذين ءاتيناهم الكتاب} أي جنسه.
والمراد بإيتائه التفهيم التام لما فيه من الحقائق والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق أعم من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء وبالإيراث بقاء فإن ممن ذكر من لم ينزل عليه كتاب معين.
{والحكم} أي فصل الأمر بين الناس بالحق أو الحكمة وهي معرفة حقائق الأشياء {والنبوة} فسرها بعضهم بالرسالة وعلل بأن المذكورين هنا رسل لكن في المحاكمات لمولانا أحمد بن حيدر الصفوي أن داود عليه السلام ليس برسول وإن كان له كتاب ولم أجد في ذلك نصًا.
وذهب بعضهم إلى أن يوسف بن يعقوب عليه السلام ليس برسول أيضًا.
ويوسف في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} [غافر: 34] ليس هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام وإنما هو يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب وهو غريب.
وأغرب منه القول بأنه كان من الجن رسولًا إليهم.
وقال الشهاب: قد يقال إنما ذكر الأعم في النظم الكريم لأن بعض من دخل في عموم آبائهم وذرياتهم ليسوا برسل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} استئناف ابتدائي للتّنويه بهم، فهي فذلكة ثانية، لأنّ الفذلكة الأولى راجعة إلى ما في الجمل السابقة من الهدى وهذه راجعة إلى ما فيها من المهديّين.
واسم الإشارة لزيادة الاعتناء بتمييزهم وإخطار سيرتهم في الأذهان.
والمشار إليهم هم المعيَّنون بأسمائهم والمذكورون إجمالًا في قوله: {ومن آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم} [الأنعام: 87].
و{الّذين آتيناهم الكتاب} خبر عن اسم الإشارة.
والمراد بالكتاب الجنس: أي الكتب.
وإيتاء الكتاب يكون بإنزال ما يكتب، كما أنزل على الرسل وبعضضِ الأنبياء، وما أنزل عليهم يعتبر كتابًا، لأنّ شأنه أن يكتب سواء كتب أم لم يكتب.
وقد نصّ القرآن على أنّ إبراهيم كانت له صُحُف بقوله: {صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 19] وكان لعيسى كلامه الذي كتب في الإنجيل.
ولداوود الكلام الصادر منه تبليغًا عن الله تعالى، وكان نبيئًا ولم يكن رسولًا، ولسليمان الأمثال، والجامعة، والنشيد المنسوب في ثلاثتها أحكامٌ أمر الله بها.
ويقال: إنّ إدريس كتب الحكمة في صحف وهو الّذي يُسمّيه الإسرائليون (أخنوخ) ويدعوه القبط (توت) ويدعوه الحكماء (هُرْمس).
ويكون إيتاء الكتاب بإيتاء الّنبيء فهْم ونبيِينَ الكتب المنزّلة قبله، كما أوتي أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى أمثال يحيى فقد قال تعالى له: {يا يحيى خذ الكتاب بقوّة} [مريم: 12].
والحُكم هو الحكمة، أي العلم بطرق الخير ودفع الشرّ.
قال تعالى في شأن يحيى: {وآتيناه الحكم صبيًا} [مريم: 12]، ولم يكن يحيى حاكمًا أي قاضيًا، وقد يفسّر الحكم بالقضاء بالحقّ كما في قوله تعالى في شأن داوود وسليمان {وكلًا آتينا حُكمًا وعلمًا} [الأنبياء: 79].
وإيتاء هذه الثلاث على التّوزيع، فمنهم من أوتي جميعها وهم الرسل منهم والأنبياء الّذين حكموا بين النّاس مثل داوود وسليمان، ومنهم من أوتي بعضَها وهم الأنبياء غير الرّسل والصّالحون منهم غير الأنبياء، وهذا باعتبار شمول اسم الإشارة لآبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم. اهـ.

.قال الفخر:

المراد فإن يكفر بهذا التوحيد والطعن في الشرك كفار قريش {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اختلفوا في أن ذلك القوم من هم؟ على وجوه، فقيل: هم أهل المدينة وهم الأنصار، وقيل: المهاجرون والأنصار، وقال الحسن: هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدم ذكرهم وهو اختيار الزجاج.
قال الزجاج: والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} وقال أبو رجاء: يعني الملائكة وهو بعيد لأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم، وقال مجاهد هم الفرس، وقال ابن زيد: كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكًا أو نبيًا أو من الصحابة أو من التابعين.
المسألة الثانية:
قوله تعالى: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} يدل على أنه إنما خلقهم للإيمان.
وأما غيرهم فهو تعالى ما خلقهم للإيمان، لأنه تعالى لو خلق الكل للإيمان كان البيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركًا فيه بين المؤمن وغير المؤمن، وحينئذ لا يبقى لقوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} معنى.
وأجاب الكعبي عنه من وجهين:
الأول: أنه تعالى زاد المؤمنين عند إيمانهم وبعده من ألطافه وفوائده وشريف أحكامه ما لا يحصيه إلا الله، وذكر في الجواب وجهًا ثانيًا، فقال: وبتقدير: أن يسوى لكان بعضهم إذا قصر ولم ينتفع صح أن يقال بحسب الظاهر أن لم يحصل له نعم الله كالوالد الذي يسوي بين الولدين في العطية، فإنه يصح أن يقال: إنه أعطى أحدهما دون الآخر إذا كان ذلك الآخر ضيعه وأفسده.
واعلم أن الجواب الأول ضعيف، لأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشتركة فيما بين الكافر والمؤمن؛ والتخصيص عند المعتزلة غير جائز، والثاني: أيضًا فاسد.
لأن الوالد لما سوى بين الولدين في العطية، ثم إن أحدهما ضيع نصيبه، فأي عاقل يجوز أن يقال أن الأب ما أنعم عليه، وما أعطاه شيئًا.
المسألة الثالثة:
دلت هذه الآية على أنه تعالى سينصر نبيه ويقوي دينه، ويجعله مستعليًا على كل من عاداه، قاهرًا لكل من نازعه، وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع، فكان هذا جاريًا مجرى الأخبار عن الغيب، فيكون معجزًا. والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} فيهم خمسة أقاويل:
أحدها: فإن تكفر بها قريش فقد وكلنا بها الأنصار، قاله الضحاك.
والثاني: فإن يكفر بها أهل مكة فقد وكلنا بها أهل المدينة، قاله ابن عباس.
والثالث: فإن تكفر بها قريش فقد وكلنا بها الملائكة، قاله أبو رجاء.
والرابع: أنهم الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى من قبل بقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}، قاله الحسن، وقتادة.
والخامس: أنهم كل المؤمنين، قاله بعض المتأخرين.
ومعنى قوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي أقمنا بحفظها ونصرتها، يعني: كتب الله وشريعة دينه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين {هَؤُلاء} أي كفارُ قريشٍ فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون بما يصدِّقه جميعًا، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على الفاعل لما مر مرارًا من الاهتمام بالمقدَّم والتشويق إلى المؤخّر {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي أمَرْنا بمراعاتها ووفَّقْنا للإيمان بها والقيامِ بحقوقها {قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} أي في وقت من الأوقات، بل مستمرون على الإيمان بها، فإن الجملةَ الاسميةَ الإيجابية كما تفيد دوامَ الثبوت كذلك السلبيةُ تُفيدُ دوامَ النفي بمعونةِ المقام، لا نفيَ الدوام كما حُقِّق في مقامه، قال ابنُ عباس ومجاهدٌ رضي الله تعالى عنهما: هم الأنصارُ وأهلُ المدينة، وقيل: أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: كل مؤمن من بني آدم، وقيل: الفرس، فإن كلًا من هؤلاء الطوائف موَفّقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المُنْزَلة إليهم، عاملون بما فيها من أصول الشرائعِ وفروعِها الباقية في شريعتنا، وبه يتحقق الخروجُ عن عُهدة التوكيل والتكليفِ دون المنسوخة منها، فإنها بانتساخها خارجة عن كونها من أحكامها، وقد مر تحقيقُه في تفسير سورة المائدة.
وقيل: هو الأنبياءُ المذكورون، فالمرادُ بالتوكيل الأمرُ بما هو أعمُّ من إجراء أحكامِها كما هو شأنُها في حق كتابهم ومِنِ اعتقاد حقِّيتِها كما هو شأنُها في حق سائرِ الكتبِ التي من جملتها القرآنُ الكريم، وقيل: هم الملائكةُ فالتوكيل هو الأمرُ بإنزالها وحفظِها واعتقادِ أحقّيتها، وأيًا ما كان فتنكيرُ (قومًا) للتفخيم. والباء الأولى صلة وكلنا على مفعوله الصريح، فلِما ذكر آنفًا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، ولأن فيه نوعَ طولٍ ربما يؤدِّي تقديمُه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم، أو إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف، وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه المذكور، أي فإن يكفُرْ بها هؤلاءِ فلا اعتدادَ به أصلًا، فقد وفّقنا للإيمان بها قومًا فِخامًا ليسوا بكافرين بها قطعًا، بل مستمرون على الإيمان بها، والعملِ بما فيها، ففي إيمانهم بها مندوحةٌ عن إيمان هؤلاء، ومن هذا تبيّن أن الوجه أن يكونَ المرادُ بالقوم إحدى الطوائفِ المذكورة، إذْ بإيمانهم بالقرآن والعملِ بأحكامه تتحقّقُ الغُنية عن إيمان الكَفَرة به والعملِ بأحكامه وأما الأنبياءُ والملائكةُ عليهم السلام فإيمانُهم به ليس من قبيل إيمانِ آحادِ الأمةِ كما أشير إليه. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين {هَؤُلاء} أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة مع دلالة الإشارة والمقام على ما قيل.
وقيل: المراد بهم الكفار الذين جحدوا بنبوته صلى الله عليه وسلم مطلقًا، وأيًا ما كان فكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن يستلزم كفرهم بما يصدقه جميعًا.
وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة.
{فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي أمرنا برعايتها ووفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها {قَوْمًا} فخامًا {لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} في وقت من الأوقات بل مستمرون على الإيمان بها، والمراد بهم على ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد بن حميد عن سعيد بن المسيب أهل المدينة من الأنصار.
وقيل: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مطلقًا، وقيل: كل مؤمن من بني آدم عليه السلام.
وقيل: الفرس فإن كلًا من هؤلاء الطوائف موفقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المنزلة إليهم عاملون بما فيها من أصول الشرائع وفروعها الباقية في شريعتنا.
وعن قتادة أنهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون وعليه يكون المراد بالتوكيل الأمر بما هو أعم من إجراء أحكامها كما هو شأنهم في حق كتابهم ومن اعتقاد حقيتها كما هو شأنهم في حق سائر الكتب التي (نور فرقها) القرآن، ورجح واختار هذا الزجاج ورجحه الزمخشري بوجهين، الأول: أن الآية التي بعد إشارة إلى الأنبياء المذكورين عليهم السلام فإن لم يكن الموكلون هم لزم الفصل بالأجنبي.
الثاني: أنه مرتب بالفاء على ما قبله فيقتضي ذلك، واستبعده بعضهم فإن الظاهر كون مصدق النبوة ومنكرها مغايرًا لمن أوتيها.
وأخرج ابن حميد وغيره عن أبي رجاء العطاري أنهم الملائكة فالتوكيل حينئذ هو الأمر بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها، واستبعده الإمام لأن القوم قلما يقع على غير بني آدم، وأيًا ما كان فتنوين {قَوْمًا} للتفخيم كما أشرنا إليه.
وهو مفعول {وَكَّلْنَا} و{بِهَا} قبله متعلق بما عنده، وتقديمه على المفعول الصريح لما مر ولأن فيه طولًا ربما يؤدي تقديمه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم أو إلى الفصل بين الصفة والموصوف، والباء التي بعد صلة لكافرين قدمت محافظة على الفواصل والتي بعدها لتأكيد النفي.
وجواب الشرط محذوف يدل عليه جملة {فَقَدْ وَكَّلْنَا} إلخ أي فإن يكفر بها هؤلاء فلا اعتداد به أصلًا فقد وفقنا للإيمان قومًا مستمرين على الإيمان بها والعمل بما فيها ففي إيمانهم مندوحة عن إيمان هؤلاء، ومن هذا يعلم أن الأرجح كما قال شيخ الإسلام تفسير القوم بإحدى الطوائف ممن عدا الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إذ بإيمانهم بالقرآن والعمل بأحكامه يتحقق الغنية عن إيمان الكفرة به والعمل بأحكامه ولا كذلك إيمان الأنبياء والملائكة عليهم السلام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والفاء في قوله: {فإن يكفر} عاطفة جملة الشّرط على جملة {أولئك الّذين آتيناهم الكتاب} عقّبت بجملة الشّرط وفرّعت عليها لأنّ الغرض من الجمل السابقة من قوله: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} [الأنعام: 74] هو تشويه أمر الشرك بالاستدلال على فساده بنبذ أهل الفضل والخير إيّاه، فكان للفاء العاطفة عقب ذلك موقع بديع من أحكام نظم الكلام.
وضمير {بها} عائد إلى المذكورات: الكتاب والحكم والنّبوءة.
والإشارة في قوله: {هؤلاء} إلى المشركين من أهل مكّة، وهي إشارة إلى حاضر في أذهان السّامعين، كما ورد في حديث سؤال القبر: «فيقال له ما علمك بهذا الرجل». يعني النّبي صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري قال الأحنف بن قيس: ذهبتُ لأنصر هذا الرجل يعني عليّ بن أبي طالب.
وقد تقصيت مواقع آي القرآن فوجدته يعبّر عن مشركي قريش كثيرًا بكلمة (هؤلاء)، كقوله: {بل متّعت هؤلاء وآباءهم} [الزخرف: 29] ولم أر من نبّه عليه من قبل.
وكُفر المشركين بنبوءة أولئك الأنبياء تابع لكفرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم ولذلك حكى الله عنهم بعْدُ أنّهم {قالوا ما أنزل الله على بشر مِن شيء} [الأنعام: 91].
ومعنى: {وكَّلْنا بها} وفّقْنا للإيمان بها ومراعاتها والقياممِ بحقّها.
فالتّوكيل هنا استعارة، لأنّ حقيقة التّوكيل إسناد صاحب الشيء تدبيرَ شيئه إلى من يتولّى تدبيره ويكفيه كلفةَ حفظه ورعاية ما به بقاؤُه وصلاحُه ونماؤُه.
يقال: وكَّلته على الشيء ووكَّلته بالشيء فيتعدّى بعلى وبالباء.
وقد استعير في هذه الآية للتّوفيق إلى الإيمان بالنّبوءة والكتاب والحكم والنّظر في ما تدعو إليه ورعايته تشبيهًا لتلك الرّعاية برعاية الوكيل، وتشبيهًا للتّوفيق إليها بإسناد النّظر إلى الوكيل، لأنّ الوكالة تقتضي وُجود الشيء الموكّل بيد الوكيل مع حفظه ورعايته، فكانت استعارةُ {وكَّلنا} لهذا المعنى إيجازًا بديعًا يقابل ما يتضمّنه معنى الكفر بها من إنكارها الّذي فيه إضاعة حدودها.
والقوم هم المؤمنون الّذين آمنوا برسالة محمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبمَن قبله من الرّسل وما جاءهم من الكتب والحكم والنّبوءة.
والمقصود الأوّل منهم المؤمنون الّذين كانوا بمكّة ومن آمن من الأنصار بالمدينة إذ كانت هذه السّورة قد نزلت قُبيل الهجرة.
وقد فسّر في الكشاف القوم بالأنبياء المتقدّم ذكرُهم وادّعى أنّ نظم الآية حمله عليه، وهو تكلّف لا حامل إليه.
ووصفُ القوم بأنّهم {ليسوا بها بكافرين} للدّلالة على أنّهم سارعوا إلى الإيمان بها بمجرّد دعوتهم إلى ذلك فلذلك جيء في وصفهم بالجملة الإسميّة المؤلّفة من اسم (ليس) وخبرها لأنّ ليس بمنزلة حرف نفي إذ هي فعل غير متصرّف فجملتها تدلّ على دوام نفي الكفر عنهم، وأدخلت الباء في خبر (ليس) لتأكيد ذلك النّفي فصار دوامَ نفي مؤكّدًا.
والمعنى إنْ يكفر المشركون بنبوءتك ونبوءةِ مَن قبلك فلا يضرّك كفرهم لأنَّا قد وفّقنا قومًا مؤمنين للإيمان بك وبهم، فهذا تسلية للرّسول صلى الله عليه وسلم على إعراض بعض قومه عن دعوته.
وتقديم المجرور على عامله في قوله: {ليسوا بها بكافرين} لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بمعاد الضمير: الكتاب والحكم والنّبوءة. اهـ.