فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{أولئك} أي الأنبياء المذكورون كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي وابن زيد، وقيل: الإشارة إلى المؤمنين الموكلين وروى ذلك عن الحسن وقتادة ولا يخفى ما فيه، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: {الذين هَدَى الله} أي هديناهم إلى الحق والصراط المستقيم، والالتفات إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الهداية وحفظ المهدي إليه اعتمادًا على غاية ظهوره {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} أي اجعل هداهم منفردًا بالاقتداء واجعل الاقتداء مقصورًا عليه، والمراد بهداهم عند جمع طريقهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع القابلة للنسخ فإنها بعد النسخ لا تبقى هدى وهم أيضًا مختلفون فيها فلا يمكن التأسي بهم جميعًا، ومعنى أمره صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بذلك الأخذ به لا من حيث إنه طريق أولئك الفخام بل من حيث إنه طريق العقل والشرع ففي ذلك تعظيم لهم وتنبيه على أن طريقهم هو الحق الموافق لدليل العقل والسمع، وبهذا أجاب العلامة الثاني عما أورده سؤالًا من أن الواجب في الاعتقادات وأصول الدين هو اتباع الدليل من العقل والسمع فلا يجوز سيما للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقلد غيره فما معنى أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء.
وأورد عليه أن اعتقاده عليه الصلاة والسلام حينئذ ليس لأجل اعتقادهم بل لأجل الدليل فلا معنى لأمره بالاقتداء بذلك.
واعترض أيضًا بأن الأخذ بأصول الدين حاصل له قبل نزول الآية فلا معنى للأمر بأخذ ما قد أخذ قبل اللهم إلا أن يحمل على الأمر بالثبات عليه.
وحقق القطب الرازي في حواشيه على الكشاف أنه يتعين أن الاقتداء المأمور به ليس إلا في الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة كالحلم والصبر والزهد وكثرة الشكر والتضرع ونحوها ويكون في الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل منهم قطعًا لتضمنها أن الله تعالى هدى أولئك الأنبياء عليهم السلام إلى فضائل الأخلاق وصفات الكمال وحيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهداهم جميعًا امتنع للعصمة أن يقال: إنه لم يمتثل فلابد أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام قد امتثل وأتى بجميع ذلك وحصل تلك الأخلاق الفاضلة التي في جميعهم فاجتمع فيه من خصال الكمال ما كان متفرقًا فيهم وحينئذ يكون أفضل من جميعهم قطعًا كما أنه أفضل من كل واحد منهم وهو استنباط حسن.
واستدل بعضهم بها على أنه صلى الله عليه وسلم متعبد بشرع من قبله وليس بشيء، وفي أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بهداهم دون الاقتداء بهم ما لا يخفى من الإشارة إلى علو مقامه صلى الله عليه وسلم عند أرباب الذوق.
والهاء في {اقتده} هاء السكت التي تزاد في الوقف ساكنة، وقد تثبت في الدرج ساكنة أيضًا إجراء للوصل مجرى الوقف، وبذلك قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة والكسائي وقرأ ابن عامر {اقتده} بكسر الهاء من غير إشباع وهو الذي تسميه القراء اختلاسًا وهي رواية هشام عنه وروى غيره إشباعها وهو كسرها ووصلها بياء، وزعم أبو بكر بن مجاهد أن قراءة ابن عامر غلط معللًا ذلك بأن الهاء هاء الوقف فلا تحرك في حال من الأحوال وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها.
وتعقبه أبو علي الفارسي بأن الهاء ضمير المصدر وليست هاء السكت أي اقتد الاقتداء ومثله كما قال أبو البقاء قوله:
هذا سراقة للقرآن يدرسه ** والمرء عند الوشا إن يلقها ذيب

فإن الهاء فيه ضمير الدرس لا مفعول لأن يدرس قد تعدى إلى القرآن.
وقال بعضهم: إن هاء السكت قد تحرك تشبيهًا لها بهاء الضمير، والعرب كثيرًا ما تعطي الشيء حكم ما يشبهه وتحمله عليه، وقد روى قول أبي الطيب:
واحر قلباه مما قلبه شبم

بضم الهاء وكسرها على أنها هاء السكت شبهت بهاء الضمير فحركت.
واستحسن صاحب الدر المصون جعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبه الضمير لأن هاءه لا تكسر بعد الألف فكيف ما يشبهها.
وزعم الإمام أن إثبات الهاء في الوصل للاقتداء بالإمام ولا يقتدى به في ذلك لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليدًا للخط وهو وهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} جملة ابتدائية قصد من استئنافها استقلالها للاهتمام بمضمونها، ولأنّها وقعت موقع التّكرير لمضمون الجملتين اللّتين قبلها: جملة {وهديناهم إلى صراط مستقيم} [الأنعام: 87] وجملة {أولئك الذّين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوءة} [الأنعام: 89].
وحقّ التكرير أن يكون مفصولًا، وليبنى عليها التّفريع في قوله: {فبهداهم اقتده}.
والمشار إليهم باسم الإشارة هم المشار إليهم بقوله: {أولئك الّذين آتيناهم الكتاب والحكم والنّبوءة} [الأنعام: 89] فإنّهم الّذين أمر نبيّنا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم.
وتكرير اسم الإشارة لتأكيد تمييز المشار إليه ولما يقتضيه التكرير من الاهتمام بالخبر.
وأفاد تعريف المسند والمسند إليه قصر جنس الّذين هداهم الله على المذكورين تفصيلًا وإجمالًا، لأنّ المهديين من البشر لا يعدون أن يكونوا أولئك المسمّين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، فإنّ من آبائهم آدم وهو الأب الجامع للبشر كلّهم، فأريد بالهدى هدى البشر، أي الصرف عن الضلالة، فالقصر حقيقي.
ولا نظر لصلاح الملائكة لأنّه صلاح جبليّ.
وعدل عن ضمير المتكلّم إلى اسم الجلالة الظاهر لقَرْن هذا الخبر بالمهابة والجلالة.
وقوله: {فبهداهم اقتده} تفريع على كمال ذلك الهُدَى، وتخلُّص إلى ذكر حظّ محمدّ صلى الله عليه وسلم من هُدى الله بعد أن قُدّم قبله مُسْهَبُ ذكر الأنبياء وهديهم إشارة إلى علوّ منزلة محمّد صلى الله عليه وسلم وأنّها منزلة جديدة بالتّخصيص بالذكر حيث لم يذكر مع الأنبياء المتقدّمين، وأنّه جمَعَ هُدى الأوّلين، وأكملت له الفضائل، وجُمع له ما تفرّق من الخصائص والمزايا العظيمة.
وفي إفراده بالذكر وترك عدّه مع الأوّلين رمز بديع إلى فذاذته وتفرّد مقداره، ورَعْي بديع لحال مجيء رسالته بعد مرور تلك العصور المتباعدة أو المتجاورة، ولذلك قُدّم المجرور وهو {بهداهم} على عامله، للاهتمام بذلك الهدى لأنّه هو منزلتك الجامعة للفضائل والمزايا، فلا يليق به الاقتداء بهُدى هو دون هُداهم.
ولأجل هذا لم يسبق للنّبيء صلى الله عليه وسلم اقتداء بأحد ممّن تحنّفوا في الجاهليّة أو تنصَّروا أو تهوّدوا.
فقد لقي النّبيء صلى الله عليه وسلم زيدَ بن عَمْرو بن نُفَيْلٍ قبل النّبوءة في بَلْدَ، وعَرض عليه أن يأكل معه من سُفْرته، فقال زيد إنِّي لا آكل ممّا تذبحون على أنصابكم توهّمًا منه أنّ النبي يدين بدين الجاهليّة، وألهم الله محمّدًا السكوت عن إجابته إلهامًا لحفظ السِرّ المدَّخر فلم يقل له إنّي لا أذبح على نُصُب.
ولقي ورقةَ بن نوفل غير مرّة بمكّة.
ولَقِي بَحيرا الرّاهبَ.
ولم يقتد بأحد من أولئك وبقي على الفطرة إلى أن جاءته الرّسالة.
والاقتداء افتعال من القُدوةَ بضمّ القاف وكسرها وقياسه على الإسوة يقتضي أنّ الكسر فيه أشهر.
وقال في المصباح: الضمّ أكثر.
ووقع في المقامات للحريري وقدوة الشحَّاذين فضُبط بالضمّ.
وذكره الواسطي في إشرح ألفاظ المقامات في القاف المضمومة، وروى فيه فتح القاف أيضًا، وهو نادر.
والقدوة هو الّذي يَعمل غيرُه مثل عمله، ولا يعرف له في اللّغة فعل مجرّد فلم يسمع إلاّ اقتدى.
وكأنّهم اعتبروا القدوة اسمًا جامدًا واشتقّوا منه الافتعال للدّلالة على التّكلّف كما اشتقّوا من اسم الخريف اخترف، ومن الأسوة ائْتسى، وكما اشتقّوا من اسم النمر تَنَمَّر، ومن الحجَر تحجَّر.
وقد تستعمل القدوة اسم مصدر لاقتدى.
يقال: لي في فلان قُدوة كما في قوله تعالى: {لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة} [الممتحنة: 6].
وفي قوله: {فبهداهم اقتده} تعريض للمشركين بأنّ محمّدًا صلى الله عليه وسلم ما جاء إلاّ على سنّة الرّسل كلّهم وأنّه ما كان بدعًا من الرّسل.
وأمْرُ النّبيء صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهُداهم يؤذن بأنّ الله زوى إليه كلّ فضيلة من فضائلهم الّتي اختصّ كلّ واحد بها سواء ما اتّفق منه واتّحد، أو اختلف وافترق، فإنّما يقتدي بما أطلعه الله عليه من فضائل الرّسل وسيرهم، وهو الخُلُق الموصوف بالعظيم في قوله تعالى: {وإنّك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4].
ويشمل هداهم ما كان منه راجعًا إلى أصول الشّرائع، وما كان منه راجعًا إلى زكاء النّفس وحسن الخُلق.
وأمّا مَا كان منه تفاريع عن ذلك وأحكامًا جزئيّة من كلّ ما أبلغه الله إيّاه بالوحي ولم يأمره باتّباعه في الإسلام ولا بيّن له نسخه، فقد اختلف علماؤنا في أنّ الشّرائع الإلهيّة السّابقة هل تعتبر أحكامها من شريعة الإسلام إذا أبلغها الله إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولم يجعل في شريعته ما ينسخها.
وأرى أنّ أصل الاستدلال لهذا أنّ الله تعالى إذا ذكر في كتابه أو أوحى إلى رسوله عليه الصلاة والسلام حكاية حكم من الشرائع السابقة في مقام التّنويه بذلك والامتنان ولم يقارنه ما يدلّ على أنّه شُرِع للتّشديد على أصحابه عقوبة لهم، ولا ما يدلّ على عدم العمل به، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ الله تعالى يريد من المسلمين العمل بمثله إذا لم يكن من أحكام الإسلام ما يخالفه ولا من أصوله ما يأباه، مثل أصل التّيسير ولا يقتضي القياسُ على حكم إسلامي ما يناقض حكمًا من شرائع مَن قَبلنا.
ولا حجّة في الآيات الّتي فيها أمرُ النّبيء صلى الله عليه وسلم باتّباع مَن قبله مثل هذه الآية، ومثل قوله تعالى: {ثمّ أوحينا إليك أن اتّبِعْ ملّة إبراهيم حنيفًا} [النحل: 123] ومثل قوله تعالى: {شَرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى} [الشورى: 13]، لأنّ المقصود من ذلك أصول الدّيانة وأسس التّشريع الّتي لا تختلف فيها الشّرائع، فمن استدلّ بقوله تعالى: {فبهداهم اقتده} فاستدلاله ضعيف.