فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

في تفسير قوله تعالى: {مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} وجوه: قال ابن عباس: ما عظموا الله حق تعظيمه.
وروي عنه أيضًا أنه قال معناه: ما آمنوا إن الله على كل شيء قدير.
وقال أبو العالية: ما وصفوه حق صفته.
وقال الأخفش: ما عرفوه حق معرفته، وحقق الواحدي رحمه الله ذلك، فقال يقال: قدر الشيء إذا سبره وحرره، وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدرًا ومنه قوله عليه السلام: «وإن غم عليكم فاقدروا له» أي فاطلبوا أن تعرفوه هذا أصله في اللغة، ثم قال يقال لمن عرف شيئًا هو يقدر قدره، وإذا لم يعرفه بصفاته أنه لا يقدر قدره، فقوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} صحيح في كل المعاني المذكورة. اهـ.
قال الفخر:
إنه تعالى لما حكى عنهم أَنَّهُمْ {ما قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} بين السبب فيه، وذلك هو قولهم ما أنزل الله علي بشر من شيء.
واعلم أن كل من أنكر النبوة والرسالة فهو في الحقيقة ما عرف الله حق معرفته، وتقريره من وجوه: الأول: أن منكر البعثة والرسالة إما أن يقول: إنه تعالى ما كلف أحدًا من الخلق تكليفًا أصلًا، أو يقول: إنه تعالى كلفهم التكاليف، والأول باطل، لأن ذلك يقتضي أنه تعالى أباح لهم جميع المنكرات والقبائح نحو شتم الله، ووصفه بما لا يليق به، والاستخفاف بالأنبياء والرسل وأهل الدين، والإعراض عن شكر النعم، ومقابلة الإنعام بالإساءة.
ومعلوم أن كل ذلك باطل.
وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي، فههنا لابد من مبلغ وشارع ومبين، وما ذاك إلا الرسول.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: العقل كاف في إيجاب الواجبات واجتناب المقبحات؟
قلنا: هب أن الأمر كما قلتم.
إلا أنه لا يمتنع تأكيد التعريف العقلي بالتعريفات المشروعة على ألسنة الأنبياء والرسل عليهم السلام.
فثبت أن كل من منع البعثة والرسالة فقد طعن في حكمة الله تعالى.
وكان ذلك جهلًا بصفة الإلهية، وحينئذ يصدق في حقه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}.
الوجه الثاني: في تقرير هذا المعنى أن من الناس من يقول إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل، لأنه يمتنع إظهار المعجزة على وفق دعواه تصديقًا له، والقائلون بهذا القول لهم مقامان:
المقام الأول: أن يقولوا إنه ليس في الإمكان خرق العادات ولا إيجاد شيء على خلاف ما جرت به العادة.
والمقام الثاني: الذين يسلمون إمكان ذلك.
إلا أنهم يقولون إن بتقدير حصول هذه الأفعال الخارقة للعادات لا دلالة لها على صدق مدعي الرسالة، وكلا الوجهين يوجب القدح في كمال قدرة الله تعالى.
أما المقام الأول: فهو أنه ثبت أن الأجسام متماثلة.
وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمله مثله، وإذا كان كذلك كان جرم الشمس والقمر قابلًا للتمزق والتفرق.
فإن قلنا: إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وصفًا له بالعجز ونقصان القدرة، وحينئذ يصدق في حق هذا القائل: أنه ما قدر الله حق قدره.
وإن قلنا: إنه تعالى قادر عليه، فحينئذ لا يمتنع عقلًا انشقاق القمر، ولا حصول سائر المعجزات.
وأما المقام الثاني: وهو أن حدوث هذه الأفعال الخارقة للعادة عند دعوى مدعي النبوة تدل على صدقهم، فهذا أيضًا ظاهر على ما هو مقرر في كتب الأصول.
فثبت أن كل من أنكر إمكان البعثة والرسالة، فقد وصف الله بالعجز ونقصان القدرة، وكل من قال ذلك فهو ما قدر الله حق قدره.
والوجه الثالث: أنه لما ثبت حدوث العالم، فنقول: حدوثه يدل على أن إله العالم قادر عالم حكيم، وأن الخلق كلهم عبيده وهو مالك لهم على الإطلاق، وملك لهم على الإطلاق، والملك المطاع يجب أن يكون له أمر ونهي وتكليف على عباده، وأن يكون له وعد على الطاعة، ووعيد على المعصية، وذلك لا يتم ولا يكمل إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، فكل من أنكر ذلك فقد طعن في كونه تعالى ملكًا مطاعًا، ومن اعتقد ذلك فهو ما قدر الله حق قدره، فثبت أن كل من قال ما أنزل الله علي بشر من شيء فهو ما قدر الله حق قدره. اهـ.
قال الفخر:
في هذه الآية بحث صعب، وهو أن يقال: هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا: {ما أَنزَلَ الله علَى بَشَرٍ مّن شيء} إما أن يقال: إنهم كفار قريش أو يقال إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فإن كان الأول، فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَاء بِهِ موسى} وذلك لأن كفار قريش والبراهمة كما ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكذلك ينكرون رسالة سائر الأنبياء، فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم، وأما إن كان الثاني وهو أن قائل هذا القول قوم من اليهود والنصارى، فهذا أيضًا صعب مشكل، لأنهم لا يقولون هذا القول، وكيف يقولونه مع أن مذهبهم أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى، والإنجيل: كتاب أنزله الله على عيسى؛ وأيضًا فهذه السورة مكية، والمناظرات التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين اليهود والنصارى كلها مدنية، فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها، فهذا تقرير الإشكال القائم في هذه الآية.
واعلم أن الناس اختلفوا فيه على قولين:
فالقول الأول: إن هذه الآية نزلت في حق اليهود وهو القول المشهور عند الجمهور.
قال ابن عباس: إن مالك بن الصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم، وكان رجلًا سمينًا فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها إن الله يبغض الحبر السمين وأنت الحبر السمين وقد سمنت من الأشياء التي تطعمك اليهود» فضحك القوم، فغضب مالك بن الصيف، ثم التفت إلى عمر فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء.
فقال له قومه: ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال: إنه أغضبني، ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه عن رياستهم، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف، فهذا هو الرواية المشهورة في سبب نزول هذه الآية، وفيها سؤالات:
السؤال الأول: اللفظ وإن كان مطلقًا بحسب أصل اللغة إلا أنه قد يتقيد بحسب العرف.
ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار فغضب الزوج، وقال: إن خرجت من الدار فأنت طالق، فإن كثيرًا من الفقهاء.
قالوا: اللفظ وإن كان مطلقًا إلا أنه بحسب العرف يتقيد لتلك المرة فكذا هاهنا قوله: {مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شيء} وإن كان مطلقًا بحسب أصل اللغة، إلا أنه بحسب العرف يتقيد بتلك الواقعة فكان قوله: {مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شيء} مراده منه أنه ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين، وإذا صار هذا المطلق محمولًا على هذا المقيد لم يكن قوله: {مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَاء بِهِ موسى} مبطلًا لكلامه، فهذا أحد السؤالات:
السؤال الثاني: أن مالك بن الصيف كان مفتخرًا بكونه يهوديًا متظاهرًا بذلك ومع هذا المذهب ألبتة أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغضب المدهش للعقل أو على سبيل لا يمكنه طغيان اللسان، ومثل هذا الكلام لا يليق بالله سبحانه وتعالى إنزال القرآن الباقي على وجه الدهر في إبطاله.
والسؤال الثالث: أن الأكثرين اتفقوا على أن هذه السورة مكية وأنها أنزلت دفعة واحدة، ومناظرات اليهود مع الرسول عليه الصلاة والسلام كانت مدنية، فكيف يمكن حمل هذه الآية على تلك المناظرة؟ وأيضًا لما نزلت السورة دفعة واحدة، فكيف يمكن أن يقال: هذه الآية المعينة إنما نزلت في الواقعة الفلانية؟ فهذه هي السؤالات الواردة على هذا القول، والأقرب عندي أن يقال: لعل مالك بن الصيف لما تأذى من هذا الكلام طعن في نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: ما أنزل الله عليك شيئًا ألبتة، ولست رسولًا من قبل الله ألبتة، فعند هذا الكلام نزلت هذه الآية، والمقصود منها أنك لما سلمت أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام، فعند هذا لا يمكنك الإصرار على أنه تعالى ما أنزل علي شيئًا لأني بشر وموسى بشر أيضًا، فلما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر امتنع عليك أن تقطع وتجزم بأنه ما أنزل الله علي شيئًا، فكان المقصود من هذه الآية بيان أن الذي ادعاه محمد عليه الصلاة والسلام ليس من قبيل الممتنعات، وأنه ليس للخصم اليهودي أن يصر على إنكاره، بل أقصى ما في الباب أن يطالبه بالمعجز فإن أتى به فهو المقصود، وإلا فلا فإما أن يصر اليهودي على أنه تعالى ما أنزل على محمد شيئًا ألبتة مع أنه معترف بأن الله تعالى أنزل الكتاب على موسى، فذاك محض الجهالة والتقليد، وبهذا التقدير يظهر الجواب عن السؤالين الأولين.
فأما السؤال الثالث: وهو قوله: هذه السورة مكية ونزلت دفعة واحدة وكل واحد من هذين الوجهين يمنع من القول بأن سبب نزول هذه الآية مناظرة اليهودي.
قلنا: القائلون بهذا القول قالوا: السورة كلها مكية ونزلت دفعة واحدة إلا هذه الآية، فإنها نزلت بالمدينة في هذه الواقعة، فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا الوجه.
والقول الثاني: أن قائل هذا القول أعني ما أنزل الله على بشر من شيء قوم من كفار قريش فهذا القول قد ذكره بعضهم.
بقي أن يقال: كفار قريش ينكرون نبوة جميع الأنبياء عليهم السلام، فكيف يمكن إلزام نبوة موسى عليهم؟ وأيضًا فما بعد هذه الآية لا يليق بكفار قريش، وإنما يليق باليهود وهو قوله: {تَجْعَلُونَهُ قراطيس تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلّمْتُمْ مّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ} [الأنعام: 91] فمن المعلوم بالضرورة أن هذه الأحوال لا تليق إلا باليهود، وهو قول من يقول: إن أول الآية خطاب مع الكفار، وآخرها خطاب مع اليهود فاسد، لأنه يوجب تفكيك نظم الآية وفساد تركيبها، وذلك لا يليق بأحسن الكلام فضلًا عن كلام رب العالمين، فهذا تقرير الإشكال على هذا القول.
أما السؤال الأول: فيمكن دفعه بأن كفار قريش كانوا مختلطين باليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات القاهرة على يد موسى عليه السلام مثل انقلاب العصا ثعبانًا، وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها والكفار كانوا يطعنون في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بسبب أنهم كانوا يطلبون منه أمثال هذه المعجزات وكانوا يقولون لو جئتنا بأمثال هذه المعجزات لآمنا بك، فكان مجموع هذه الكلمات جاريًا مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى عليه السلام، وإذا كان الأمر كذلك لم يبعد إيراد نبوة موسى عليه السلام إلزامًا عليهم في قولهم: {مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شيء}.
وأما السؤال الثاني: فجوابه: أن كفار قريش واليهود والنصارى، لما كانوا متشاركين في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لم يبعد أن يكون الكلام الواحد واردًا على سبيل أن يكون بعضه خطابًا مع كفار مكة وبقيته يكون خطابًا مع اليهود والنصارى، فهذا ما يحضرنا في هذا البحث الصعب، وبالله التوفيق. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي فيما وجب له واستحال عليه وجاز.
قال ابن عباس: ما آمنوا أنه على كل شيء قدير.
وقال الحسن: ما عظّموه حقَّ عظمته.
وهذا يكون من قولهم: لفلان قَدر.
وشرحُ هذا أنهم لما قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} نَسَبُوا الله عز وجل إلى أنه لا يقيم الحجة على عباده، ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح؛ فلم يعظِّموه حقَّ عظمته ولا عرفوه حقَّ معرفته.
وقال أبو عبيدة: أي ما عرفوا الله حقّ معرفته.
قال النحاس: وهذا معنى حسن؛ لأن معنى قدرت الشيء وقدّرته عرفت مقداره.
ويدلّ عليه قوله تعالى: {إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} أي لم يعرفوه حق معرفته؛ إذ أنكروا أن يرسل رسولا.
والمعنيان متقاربان.
وقد قيل: وما قدروا نِعم الله حق تقديرها.
وقرأ أبو حَيْوَة: {وما قدروا الله حق قدَره} بفتح الدال، وهي لغة.
{إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} قال ابن عباس وغيره: يعني مشركي قريش.
وقال الحسن وسعيد بن جبير: الذي قاله أحد اليهود، قال: لم يُنزل الله كتابًا من السماء.
قال السُّدِّي: اسمه فنحاص.
وعن سعيد بن جُبير أيضًا قال: هو مالك بن الصَّيف، جاء يخاصم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أَنْشُدُك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحَبْر السّمِين»؟ وكان حبرًا سمينًا.
فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشرٍ من شيء.
فقال له أصحابه الذين معه: ويحكا ولا على موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بَشَرٍ من شيء؛ فنزلت الآية. اهـ.