فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

وقرأ الجمهور {ولتنذر أم القرى} أي أنت يا محمد، وقرأ أبو بكر عن عاصم {ولينذر} أي القرآن بمواعظة وأوامره، واللام في {لتنذر} متعلقة بفعل متأخر تقديره ولتنذر أم القرى أو من حولها أنزلناه، و{أم القرى} مكة سميت بذلك لوجوه أربعة، منها أنها منشأ الدين والشرع ومنها ما روي أن الأرض منها دحية ومنها أنها وسط الأرض وكالنقطة للقرى، ومنه ما لحق عن الشرع من أنها قبلة كل قرية فهي لهذا كله أم وسائر القرى بنات، وتقدير الآية لتنذر أهل أم القرى، {ومن حولها} يريد أهل سائر الأرض، و{حولها} ظرف العامل فيه فعل مضمر تقديره من استقر حولها. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولتنذر أم القرى ومن حولها} {أم القرى} مكة وسميت بذلك لأنها منشأ الدين ودحو الأرض منها ولأنها وسط الأرض ولكونها قبلة وموضع الحج ومكان أول بيت وضع للناس، والمعنى: {ولتنذر} أهل {أم القرى ومن حولها} وهم سائر أهل الأرض قاله ابن عباس، وقيل: العرب وقد استدل بقوله: {أم القرى ومن حولها} طائفة من اليهود زعموا أنه رسول إلى العرب فقط، قالوا: {ومن حولها} هي القرى المحيطة بها وهي جزيرة العرب، وأجيب بأن {ومن حولها} عام في جميع الأرض ولو فرضنا الخصوص لم يكن في ذكر جزيرة العرب دليل على انتفاء الحكم عن ما سواها إلا بالمفهوم وهو ضعيف، وحذف أهل الدلالة المعنى عليه لأن الأبنية لا تنذر كقوله: {واسأل القرية} لأن القرية لا تسأل ولم تحذف من فيعطف {حولها} على {أم القرى} وإن كان من حيث المعنى كان يصح لأن حول ظرف لا يتصرف فلو عطف على أم القرى لزم أن يكون مفعولًا به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوز لأن في استعماله مفعولًا به خروجًا عن الظرفية وذلك لا يجوز فيه لأنه كما قلنا لم تستعمله العرب إلاّ لازم الظرفية غير متصرف فيه بغيرها، وقرأ أبو بكر لينذر أي القرآن بمواعظه وأوامره، وقرأ الجمهور {ولتنذر} خطابًا للرسول والمعنى {ولتنذر} به أنزلناه فاللام تتعلق بمتأخر محذوف دل عليه ما قبله، وقال الزمخشري: {ولتنذر} معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل: أنزلنا للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى} قيل: عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل: أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والإنذار.
واختار العلامة الثاني كونه عطفًا على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار، وادعى أنه لاحاجة مع هذا إلى ذلك التكلف فإن عطف الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير، ودعوى أن الداعي إليه عرو تلك الصفات السابقة عن حرف العطف واقتران هذا به تستدعي القول بأن الصفات إذا تعددت ولم يعطف أولها يمتنع العطف أو يقبح والواقع خلافه، والأولى ما يقال: إن الداعي أن اللفظ والمعنى يقتضيانه، أما المعنى فلأن الإنذار علة لإنزاله كما يدل عليه {وأوحى الي هذا القرآن لأنذركم به} [الأنعام: 19] ولو عطف لكان على أول الصفات على الراجح في العطف عند التعدد، ولا يحسن عطف التعليل على المعلل به ولا الجار والمجرور على الجملة الفعلية.
فإنه نظير هذا رجل قام عندي وليخدمني وهو كما ترى.
ومنه يعلم الداعي اللفظي وجوز أن يكون علة لمحذوف يقدر مؤخرًا أو مقدمًا أي ولتنذر أنزلناه أو وأنزلناه لتنذر، وتقديم الجار للاهتمام أو للحصر الإضافي، وأن يكون عطفًا على مقدر أي لتبشر ولتنذر، وأيًا ما كان ففي الكلام مضاف محذوف أي أهل أم القرى، والمراد بها مكة المكرمة، وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى وحجهم وهم يتجمعون عندها تجمع الأولاد عند الأم المشفقة ويعظمونها أيضًا تعظيم الأم، ونقل ذلك عن الزجاج والجبائي، ولأنها أعظم القرى شأنًا فغيرها تبع لها كما يتبع الفرع الأصل.
وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها فكأنها خرجت من تحتها كما تخرج الأولاد من تحت الأم أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس.
ونقل ذلك عن السدي وقرأ أبو بكر عن عاصم {لّيُنذِرَ} بالياء التحتية على الإسناد المجازي للكتاب لأنه منذر به.
{وَمَنْ حَوْلَهَا} من أهل المدر والوبر في المشارق والمغارب لعموم بعثه صلى الله عليه وسلم الصادع بها القرآن في غير آية، واللفظ لا يأبى هذا الحمل فلا متمسك بالآية لطائفة من اليهود زعموا أنه صلى الله عليه وسلم مرسل للعرب خاصة، على أنه يمكن أن يقال: خص أولئك بالذكر لأنهم أحق بإنذاره عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} [الشعراء: 214] ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وأمّا جملة {ولتنذر أمّ القرى} فوجود واو العطف في أوّلها مانع من تعليق {لتنذر} بفعل {أنزلناه}، ومِن جعْل المجرور خبرًا عن {كتاب} خلافًا للتفتزاني، إذ الخبر إذا كان مجرورًا لا يقترن بواو العطف ولا نظير لذاك في الاستعمال، فوجود لام التّعليل مع الواو مانع من جعلها خبرًا آخر ل {كتاب}، فلا محيص عند توجيه انتظامها مع ما قبلها من تقدير محذوف أو تأويل بعض ألفاظها، والوجه عندي أنّه معطوف على مقدّر ينبئ عنه السّياق.
والتّقدير: ليُؤمن أهل الكتاب بتصديقه ولتنذر المشركين.
ومثل هذا التّقدير يطّرد في نظائر هذه الآية بحسب ما يناسب أن يقدّر.
وهذا من أفانين الاستعمال الفصيح.
ونظيره قوله تعالى: {هذا بلاغ للنّاس ولِينْذروا به وليعلموا أنّما هو إله واحد وليذّكّر أولوا الألباب} في سورة [إبراهيم: 52].
ووقع في الكشاف أنّ {ولتنذر} معطوف على ما دلّت عليه صفة الكتاب، كأنّه قيل: أنزلناه للبركات وتصديقِ ما تقدّمَه والإنذارِ. اهـ.
وقال ابن عاشور:
وهذا وإن استتبّ في هذه الآية فهو لا يحسن في آية سورة إبراهيم، لأنّ لفظ {بلاغ} اسم ليس فيه ما يشعر بالتّعليل، و{للنّاس} متعلّق به واللاّم فيه للتّبليغ لا للتّعليل، فتعيّن تقدير شيء بعده نحو لينتبهوا أو لئلاّ يؤخذوا على غفلة وليُنْذَروا به.
والإنذار: الإخبار بما فيه توقّع ضرّ، وضدّه البشارة.
وقد تقدّم عند قوله تعالى: {إنّا أرسلناك بالحقّ بشيرًا ونذيرًا} في سورة [البقرة: 119].
واقتُصر عليه لأنّ المقصود تخويف المشركين إذ قالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91].
وأمّ القرى: مَكّة، وأمّ الشيء استعارة شائعة في الأمر الّذي يُرجع إليه ويلتفّ حوله، وحقيقة الأمّ الأنثى الّتي تلد الطفل فيرجع الولد إليها ويلازمها، وشاعت استعارة الأمّ للأصل والمرجع حتّى صارت حقيقة، ومنه سمّيت الراية أمًّا، وسُمّي أعلى الرأس أمّ الرأس، والفاتحة أمّ القرآن.
وقد تقدّم ذلك في تسمية الفاتحة.
وإنّما سمّيت مكّة أمّ القرى لأنّها أقدم القرى وأشهرها وما تقرّت القرى في بلاد العرب إلاّ بعدها، فسمّاها العرب أمّ القرى، وكان عرب الحجاز قبلها سكّان خيام.
وإنذار أمّ القرى بإنذار أهلِها، وهذا من مجاز الحذف كقوله تعالى: {واسألْ القرية} [يوسف: 82]، وقد دلّ عليه قوله: {ومن حولها}، أي القبائل القاطنة حول مكّة مثل خُزاعة، وسعد بن بَكْر، وهوازن، وثقيف، وكنانة.
ووجه الاقتصار على أهل مكّة ومن حولها في هذه الآية أنّهم الّذين جرى الكلام والجدال معهم من قوله: {وكذّب به قومك وهو الحقّ} [الأنعام: 66]، إذ السّورة مكّية وليس في التّعليل ما يقتضي حصر الإنذار بالقرآن فيهم حتّى نتكلّف الادّعاء أنّ {من حولها} مراد به جميع أهل الأرض.
وقرأ الجمهور {ولتنذر أمّ القرى} بالخطاب، وقرأه أبو بكر وحده عن عاصم {ولينذر} بياء الغائب على أن يكون الضّمير عائدًا إلى {كتاب}. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}، يتوهم منه الجاهل أن إنذاره صلى الله عليه وسلم مخصوص بأم القرى وما يقرب منها دون الأقطار النائية عنها لقوله تعالى: {وَمَنْ حَوْلَهَا}، ونظيره قوله تعالى في سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ}.
وقد جاءت آيات أخر تصرّح بعموم إنذاره صلى الله عليه وسلم لجميع الناس كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}، وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاس}، والجواب من وجهين:
الأول: أن المراد بقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} شامل لجميع الأرض كما رواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن قوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة- حرسها الله- كجزيرة العرب مثلا فإن الآيات الأخر نصت على العموم كقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه عند عامة العلماء ولم يخالف فيه إلا أبو ثور، وقد قدمنا ذلك واضحا بأدلته في سورة المائدة، فالآية على هذا القول كقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}، فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم كما هو واضح والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

ظاهر هذا يقتضي أن الإيمان بالآخرة جار مجرى السبب للإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم.
والعلماء ذكروا في تقرير هذه السببية وجوهًا: الأول: أن الذي يؤمن بالآخرة هو الذي يؤمن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب، ومن كان كذلك فإنه يعظم رغبته في تحصيل الثواب، ورهبته عن حلول العقاب، ويبالغ في النظر والتأمل في دلائل التوحيد والنبوة، فيصل إلى العلم والإيمان.
والثاني: أن دين محمد عليه الصلاة والسلام مبني على الإيمان بالبعث والقيامة، وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير هذه القاعدة مثل ما في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فلهذا السبب كان الإيمان بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وبصحة الآخرة أمرين متلازمين، والثالث: يحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام التنبيه على إخراج أهل مكة من قبول هذا الدين، لأن الحامل على تحمل مشقة النظر والاستدلال، وترك رياسة الدنيا، وترك الحقد والحسد ليس إلا الرغبة في الثواب، والرهبة عن العقاب.
وكفار مكة لما لم يعتقدوا في البعث والقيامة، امتنع منهم ترك الحسد وترك الرياسة، فلا جرم يبعد قبولهم لهذا الدين واعترافهم بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام. اهـ.

.قال القرطبي:

{والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ} يريد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ بدليل قوله: {وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وإيمان من آمن بالآخرة ولم يؤمن بالنبيّ عليه السلام ولا بكتابه غير معتدٍّ به. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به} الظاهر أن الضمير في {به} عائد على الكتاب أي الذين يصدقون بأن لهم حشرًا ونشرًا وجزاءً تؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد، إذ ليس فيه كتاب من الكتب الإلهية ولا في شريعة من الشرائع ما في هذا الكتاب ولا ما في هذه الشريعة من تقدير يوم القيامة والبعث، والمعنى: يؤمنون به الإيمان المعتضد بالحجة الصحيحة وإلا فأهل الكتاب يؤمنون بالبعث ولا يؤمنون بالقرآن واكتفى بذكر الإيمان بالبعث وهو أحد الأركان الستة التي هي واجب الوجود والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر لأن الإيمان به يستلزم الإيمان بباقيها ولإسماع كفار العرب وغيرهم ممن لا يؤمن بالبعث، أن من آمن بالبعث آمن بهذا الكتاب وأصل الدين خوف العاقبة فمن خالفها لم يزل به الخوف حتى يؤمن، وقيل: يعود الضمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.