فصل: من الدلالات العلمية للآية الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من الدلالات العلمية للآية الكريمة:

للبذور النباتية اسمان متمايزان أولهما (الحب) وثانيهما (النوي)، ويعبر بلفظة (الحب) أو (الحبوب) عن البذور المستخدمة كمحاصيل غذائية أساسية للإنسان من مثل حبوب القمح (الحنطة) والشعير، والذرة، والشوفان وكلها من بذور النباتات الوعائية، المزهرة، ذات البذور المكونة من فلقة واحدة، أما البذور ذات الفلقتين فيطلق عليها اسم (البذور) من مثل بذور العائلة القرنية التي منها الفول، والحمص، البازلاء، الفاصوليا، اللوبيا، العدس، الترمس، فول الصويا، الفول السوداني، الحلبة، البامية، كما قد تطلق علي البذور التي لا يأكلها الإنسان من مثل بذور البرسيم، والقطن وغيرها. أما البذور التي لها قدر من الصلابة فيطلق عليها اسم النوي (ومفردها نواة) كما قد تجمع علي أنواء، وذلك مثل نواة كل من البلح، والمشمش، والبرقوق، والخوخ، والزيتون وغيرها، واللفظة تذكر وتؤنث، وقد وردت في القرآن الكريم مرة واحدة. وأيا كانت طبيعة غلاف أو اغلفة البذرة رقيقة هشة، أو سميكة خشبية أو قرنية صلبة فإن الله تعالى قد اعطي للجنين الكامن بداخلها القدرة علي شقها وفلقها بمجرد توافر الشروط اللازمة لإنباته، وذلك من أجل تيسير خروج النبتة الجنينية النامية من داخل البذرة في عملية معجزة تعرف باسم عملية إنبات البذور التي تتكاثر بها معظم النباتات الراقية.
والنباتات البذرية التي منها معظم طعوم واحتياجات الناس تضم أكثر من ربع مليون نوع من أنواع النباتات الراقية علي اختلاف أوضاعها التصنيفية، ويمثل كل نوع منها بعشرة أصناف في المتوسط علي أقل تقدير، ويمثل الصنف الواحد بأعداد لاتحصي من الأفراد، ويستمر كل فرد من هذه الأفراد في التكاثر عن طريق انتشار أو استنبات بذوره إلي ما شاء الله. وقد يطلق علي كل المحاصيل المستخدمة كمواد غذائية أساسية للانسان اسم (الغلة) وجمعها (الغلال) بمعني ما تغله الأرض، وإن كانت لم ترد هذه اللفظة في القرآن الكريم.. وأصل كلمة (الحبة) مستمد من قلب كل شيء أو ثمرته، فحبة القلب سويداؤه، وحبة النبات ثمرته، و(الحبة) و(الحب) بكسر الحاء تقال لبذور نباتات الصحراء مما ليس بقوت للإنسان من مثل بذور الأعشاب، والرياحين، والحشائش، استنادا إلي ما جاء بالحديث الشريف:... فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل.
وجاء ذكر كلمة (حبة) في القرآن الكريم ست مرات في خمس من الآيات.

.ماهية البذور:

البذور في النباتات الراقية هي البويضات المخصبة، وعلي ذلك فإنها هي وسيلة التكاثر في معظم هذه النباتات لأنها تحوي أجنتها الكامنة في حالة من السكون المؤقت، والجنين يشغل حيزا ضئيلا جدا من حجم البذرة، أما باقي حجمها فيتكون من مواد غذائية غير حية مكتنزة يحتاج إليها الجنين في مراحل إنباته الأولي حتي يخرج منه المجموع الجذري متجها إلي أسفل، مخترقا التربة (باحثا عن الماء والغذاء علي هيئة الأملاح المذابة في هذا الماء أو من عناصر ومركبات التربة بطرائق مباشرة أو غير مباشرة)، وحتي يندفع المجموع الخضري من الجنين إلي أعلي، باحثا عن كل من الهواء وأشعة الشمس، وبمجرد تكون الأوراق الخضراء، يبدأ النبات في تصنيع الغذاء اللازم لنموه ولبناء جميع خلاياه، وانسجته، وازهاره، وثماره بواسطة عملية التمثيل الضوئي.
ويغلف البذرة بما فيها من الجنين والمواد الغذائية المكتزة عدد من الأغلفة اللازمة لحمايتها من المؤثرات الخارجية، ومن أهم هذه الأغلفة مايعرف باسم (القصرة) وهي تتكون من أغلفة البويضة بعد عملية الإخصاب مباشرة، كما يتكون غلاف الثمرة من جدار المبيض فور إتمام عملية الإخصاب.
وعندما يتم نضج البذرة فإنها تجف، ويبقي الجنين الحي بداخلها في حالة من السكون المؤقت حتي تتهيأ له الظروف المناسبة للإنبات. ويتفاوت طول الفترة التي تمر بين نضج البذرة وصلاحيتها للإنبات تفاوتا كبيرا، ففي بعض الحالات تكون البذور صالحة للإنبات بمجرد انطلاقها من الثمرة أو إخراجها من داخلها، ومثل هذه البذور إذا تعرضت للجفاف فإن الجنين بداخلها قد يفقد شيئا من حيويته أو يموت، وفي بعض النباتات الأخري قد يظل الجنين محتفظا بحيويته في داخل البذرة (أو الحبة أو النواة) لسنوات عديدة كما هو الحال في العائلة القرنية، ونوي العديد من الثمار مثل نوي نخيل البلح.
وتتباين بذور النباتات في عدد أغلفتها، وفي شكل وطبيعة تلك الأغلفة، وفي حجم وشكل الجنين، وفي طبيعة خزن المواد الغذائية المصاحبة للجنين، إما في نسيج خاص يعرف باسم الإندوسبرم (Endosperm) أو في فلقة واحدة أو فلقتين أو أكثر، وهذا الغذاء المختزن إما أن يكون نشويا دقيقيا أو قرنيا صلبا كما هو الحال في حبة الذرة، أو يكون سيليولوزيا صلبا كما هو الحال في نواة ثمرة نخيل البلح.

.فلق الحب والنوي (أو إنبات البذور):

تقوم أغلفة البذور بحمايتها من المؤثرات الخارجية، وهذه الاغلفة غالبا ما تكون مميزة وتعرف باسم القصرة، ولكنها في بعض الأحوال قد تلتحم بجدار البذرة حتي لايمكن تمييزها. وقد هيأ الخالق العظيم للجنين في داخل البذرة قدرا من الاتصال المحدود بالعالم الخارجي عن طريق ندبة دائرية دقيقة جدا تعرف باسم السرة وتمثل مكان ارتباط البذرة بالحبل السري، ويوجد تحت السرة ثقب أدق منها كثيرا يعرف باسم النقير، وتغطي هاتان الفتحتان بنسيج اسفنجي يعرف باسم البسباسة له قدرة علي امتصاص الماء، وقد تكون هاتان الفتحتان علي هيئة شقين طوليين دقيقين فيعرفان باسم القلم والكوز. وهذه الفتحات هي مدخل الأوكسجين إلي الجنين، ومدخل معظم الماء الذي تمتصه البذرة وقت إنباتها.
والجنين الكامن في داخل البذرة يتكون من ثلاثة اجزاء رئيسية هي:
(1) الريشة وتعطي المجموع الخضري بعد نموها.
(2) الجذير ويعطي المجموع الجذري بعد نموه.
(3) السويقة وتعطي الساق بعد نموها؛ ويحيط بالجنين مخزون من المواد الغذائية في نسيج خاص يعرف باسم الإندوسبرم أو في فلقة واحدة أو في فلقتين أو أكثر، وهذه المواد الغذائية المختزنة في داخل بذور النباتات تتكون من المواد الكربوهيدراتية، والبروتينية، والدهون بنسب تتفاوت بتفاوت نوع النبات. فمن النباتات مغطاة البذور ذوات الفلقة الواحدة نبات الذرة، ومن ذوات الفلقتين نبات الفول، ومن النباتات عديدة الفلقات الصنوبر وهو من النباتات معراة البذور. وقد تبقي الفلقة أو الفلقتان أو الفلقات تحت سطح التربة، وقد ترتفع أو ترتفعان فوق سطح الأرض وتلعب أو تلعبان دور أوراق أولية تعرف باسم الأوراق الفلقية.

.من شروط إنبات البذور:

بعد فترة السكون التي عاشها الجنين في داخل البذرة الجافة، فإن البذرة لكي تنبت وتتحول بالتدريج إلي بادرة ثم إلي النبات الكامل فإنها تحتاج إلي توافر عدد من الشروط الداخلية والخارجية، والشروط الداخلية تتعلق بالبذرة ذاتها ومنها حيوية الجنين، ونضج البذرة وسلامتها من التسوس والعفن، ومن سمات نضج البذرة تخلصها من المواد الكابحة للنمو والمثبطة له من مثل الحمض الأبسيسي (AbscisicAcid) والذي يتخلق في بعض البذور ليساعد الجنين علي السكون والكمون في داخل البذرة، ويضمن سباته حتي تتوافر له الظروف المناسبة لإنباته. وكثير من البذور يتوقف إنباتها علي إزالة تلك المواد المثبطة للنمو، ويتم ذلك بواسطة الضوء والحرارة، أو بإفراز مواد مضادة للمواد المثبطة بواسطة الجنين ذاته في داخل البذرة، فسبحان الذي قدر ذلك بعلمه وقدرته.
ومن الشروط الداخلية توافر الإمكانية لامتصاص البذرة للقدر الكافي من كل من الماء والأكسجين عن طريق فتحات دقيقة هيأها الخالق سبحانه وتعالى في جسم البذرة من مثل السرة والنقير أو القلم والكوز، خاصة أن بعض أنواع البذور مغطاة بطبقة خارجية صلبة قد تحول دون وصول القدر الكافي من الماء والأكسجين إلي الجنين إلا بعد أن تمر تلك الطبقة الخارجية للبذرة بسلسلة من النشاطات الطبيعية أو الكيميائية أو الميكروبية التي تعين علي تمزيقها. ومثل هذه البذور قد يصعب استنباتها إلا بعد خدش غطائها الخارجي، أو غسلها ونقعها في الماء لفترة محددة، أو تعريضها للضوء أو لدرجات الحرارة المنخفضة (حوالي خمس درجات مئوية لمدة تتراوح بين أربعة وستة أسابيع)، وذلك لأن كلا من الضوء والحرارة المنخفضة يعمل علي تنشيط الجنين في داخل البذرة، ومساعدته علي الإنبات.
أما عن الشروط الخارجية فأولها توافر الماء بالمواصفات المناسبة لأنه أهم شروط الإنبات، وبالقدر الكافي لأن غمر البذور بالماء قد يؤدي إلي إفسادها لمنعه الأكسجين من الوصول إلي الجنين في داخل البذرة، وكذلك توافر القدر الكافي من الأكسجين، وتوافر درجات الحرارة والإضاءة المناسبة، وذلك لأن بعض البذور تنشط عملية إنباتها في الضوء بينما البعض الآخر يفضل الظلام.

.التغيرات التي تطرأ علي البذرة في أثناء إنباتها:

عند توافر كل من الشروط الداخلية والخارجية للإنبات تبدأ البذرة بامتصاص الماء والانتفاخ لزيادة حجمها، وحينئذ تبدأ في داخل البذرة سلسلة معقدة من عمليات البناء والهدم التي تعين الجنين علي التحرك بالنمو بعد فترة السكون التام التي عاشها وهو كامن في داخل البذرة الجافة، فيبدأ بالإنبات ليعيد دورة حياة النبتة الأم من جديد. وتشمل عملية الإنبات ما يلي:
(1) امتصاص البذرة للماء، وانتفاخها بسبب الامتلاء التدريجي بهذا الماء حتي تبدأ القصرة (غلاف البذرة) في التمزق بسبب ازدياد الضغط عليها من داخل البذرة، وبذلك يصل الماء بالقدر الكافي إلي الجنين، وإلي كتلة الغذاء المختزنة حوله مما يساعد علي تنشيط كتلة الغذاء كيميائيا، وعلي تنشيط الجنين حيويا.
(2) بدء الجنين في إفراز عدد من الإنزيمات القادرة علي تفتيت وتحلل المواد الغذائية المختزنة حوله في داخل البذرة إما في الفلقات أو في نسيج خاص، وهي مواد معقدة التركيب وغير قابلة للذوبان في الماء، فتحللها تلك الإنزيمات إلي مواد بسيطة وقابلة للذوبان في الماء حتي يمكن للجنين امتصاصها والعيش عليها، أثناء فترات الإنبات الأولي. ومن امثلة هذه الإنزيمات ما يلي:
إنزيم الدياستيز الذي يحول النشا إلي سكر.
إنزيم البروتيز الذي يحول البروتينات إلي أحماض أمينية.
وإنزيم الليبيز الذي يحول الدهون والزيوت إلي أحماض دهنية وجلسرين، ويؤدي ذلك إلي تضخم حجم المخزون الغذائي في داخل البذرة أضعافا كثيرة.
(3) شق التربة: من أهم عوامل شق التربة انتفاخ البذور نتيجة لامتصاصها كميات مناسبة من الماء لأن ذلك يولد قوة هائلة تعرف باسم قوة الإنبات لايكاد العقل البشري أن يتصور قدرها، لدرجة أننا إذا ملأنا زجاجة بالبذور الجافة، وأضفنا إليها قدرا مناسبا من الماء، وأحكمنا غلق الزجاجة فإن القوة الناتجة عن إنبات البذور وتضخم حجمها بامتصاص الماء تصبح كافية لتفجير الزجاجة مهما يكن سمك جدارها.
ويعين علي شق التربة تعطش المعادن المكونة لها للماء، وامتصاصه بكميات كبيرة مما يؤدي إلي زيادة حجمها، وارتفاعها إلي أعلي حتي ترق التربة رقة شديدة ثم تنشق لتفسح طريقا سهلا للسويقة الممتدة إلي أعلي من البذرة النابتة.
ويساعد علي تحرك جزيئات التربة إلي أعلي غلبة المعادن الصلصالية عليها، وهي علي هيئة رقائق صفائحية دقيقة تحتفظ بقدر من الغازات فيما بينها، فإذا تخللها الماء حل محل تلك الغازات، ودفع بها إلي خارج التربة مما يؤدي إلي انتفاض حبيبات التربة إلي أعلي واهتزازها بعنف حتي ترق التربة وتنشق. ويعين علي ذلك ايضا ما تحمله رقائق الصلصال من شحنات كهربية تتنافر مع الشحنات المشابهة علي جزئ الماء ذي القطبية الكهربية المزدوجة الموجبة علي ذرتي الإيدروجين والسالبة علي ذرة الأوكسجين.
(4) بدء خلايا الجنين في الانقسام والنمو حتي يمتد الجذير إلي أسفل ويعمل علي تثبيت النبتة في التربة، وبذلك تتصل بمصدر غذائها الطبيعي الذي تقوم بامتصاصه علي هيئة العصارة الغذائية المكونة من الماء وما به من العناصر والمركبات المذابة أو التي يستخرجها المجموع الجذري مباشرة من مكونات التربة، وقد أعطي الخالق سبحانه وتعالى كل نبتة من النباتات قدرات اختيارية عالية تختار بها مايناسبها من عناصر ومركبات الأرض اللازمة لنموها. وبعد تكون المجموع الجذري ترتفع الريشة مخترقة شقوق التربة لتظهر فوق مستوي سطح الأرض، وبذلك تتحول (البذرة النابتة) إلي ما يسمي باسم (البادرة) التي تستطيل بالتدريج لتعطي الساق حاملا الأوراق والبراعم مكونة المجموع الخضري. وباستمرار مراحل النمو المتتالية تتحول البادرة إلي (النبات الكامل) فتبارك الله أحسن الخالقين.
وفي عملية الإنبات قد تبقي الفلقة أو الفلقتان تحت سطح التربة (محاطة بالقصرة الممزقة) حتي يستنفد ما خزن بها أو بهما من غذاء في تغذية الجنين، وذلك كما يحدث في إنبات بذور البازلاء، أو إنبات نوي نخيل البلح وفي المقابل قد تنمو السويقة إلي أعلي حاملة معها الفلقة أو الفلقتين إلي ما فوق سطح التربة، ومعهما الريشة، وتأخذ الفلقة أو الفلقتان في الاخضرار التدريجي للمشاركة في عملية التمثيل الضوئي لفترة محددة، حتي تستطيل الريشة وتظهر عليها الأوراق الخضراء مكونة المجموع الخضري للنبات الذي يقوم بعملية التمثيل الضوئي، وحينئذ تضمر الورقة الفلقية أو الورقتان الفلقيتان وتسقط أو تسقطان بعد استنفاد ما بهما من غذاء.
هذه العمليات المعقدة في فلق الحب والنوي لايقوي عليهما أحد من الخلق، ولايمكن لهما أن تتما بغير توجيه، وهداية ربانية ومن هنا نسب الحق تبارك وتعالى هاتين العمليتين لذاته العلية تشريفا لهما، وتعظيما لشأنهما لأنه بدونهما ما كانت هناك إمكانية للحياة علي الأرض ولذلك قال عز من قائل: {إن الله فالق الحب والنوي} [الأنعام: 95].
فالحمد لله علي نعمه المتعددة ومنها فلق الحب والنوي، وعلي رأس تلك النعم: القرآن الكريم، الذي أنزله ربنا تبارك وتعالى بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم وتعهد سبحانه وتعالى بحفظه في نفس لغة وحيه، كلمة كلمة، وحرفا حرفا، ولذلك بقي القرآن الكريم محتفظا بجلال الربوبية المتلألئ بين آياته، وبالدقة العلمية الواضحة في كل اشاراته، والشاهدة علي صدق وحيه، وصدق نبوة الرسول الخاتم الذي تلقاه. فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين، والحمدالله رب العالمين. اهـ.