فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَالِقُ الإصباح} نعتٌ لاسم الله تعالى، أي ذلكم الله ربكم فالق الإصباح.
وقيل: المعنى إن الله فالق الإصباح.
والصُّبح والصباح أوَّلُ النهار، وكذلك الإصباح؛ أي فالق الصبح كلّ يوم، يريد الفجر.
والإصباح مصدر أصبح.
والمعنى: شاقّ الضياء عن الظلام وكاشفُه.
وقال الضحاك: فالق الإصباح خالقُ النهار.
وهو معرفة لا يجوز فيه التنوين عند أحد من النحويين.
وقرأ الحسن وعيسى بن عمر {فالق الأَصْبَاحِ} بفتح الهمزة، وهو جمع صبح.
وروى الأعمش عن إبراهيم النَّخَعِيّ أنه قرأ {فلق الإصباحَ} على فَعَل، والهمزة مكسورة والحاء منصوبة.
وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وحمزة والكسائيّ {وجعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} بغير ألف.
ونصب {الليل} حملًا على معنى {فالق} في الموضعين؛ لأنه بمعنى فلق، لأنه أمْرٌ قد كان فحُمِل على المعنى.
وأيضًا فإن بعده أفعالًا ماضية وهو قوله: {جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ}.
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً}.
فحمِل أوّل الكلام على آخره.
يقوّي ذلك إجماعُهم على نصب الشمس والقمر على إضمار فِعل، ولم يحملوه على فاعل فيخفِضوه؛ قاله مكيّ رحمه الله.
وقال النحاس: وقد قرأ يزيد بن قطيب السَّكُّوني {وجاعِلُ الليلِ سكنًا والشمسِ والقمرِ حُسبانًا} بالخفض عطفًا على اللفظ.
قلت: فيريد مكيّ والمَهْدَويّ وغيرهما إجماع القراء السبع. والله أعلم.
وقرأ يعقوب في رواية رُوَيْس عنه {وجاعِلُ الليلِ ساكِنًا}.
وأهل المدينة {وجاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنا} أي محلًا للسكون.
وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: «اللَّهُمَّ فالقَ الإصباح وجاعلَ الليل سَكَنا والشمسَ والقمر حُسبانًا اقض عني الدَّيْن واغْنِنِي من الفقر وأمْتعني بسمعي وبصرِي وقوّتي في سبيلك» فإن قيل: كيف قال: «وأمتعني بسمعي وبصرِي» وفي كتاب النسائيّ والترمذيّ وغيرهما: «واجعله الوارث منّي» وذلك يفنَى مع البدن؟ قيل له: في الكلام تجوّزٌ، والمعنى: اللّهمّ لا تعدمه قبلي.
وقد قيل: إن المراد بالسمع والبصر هنا أبو بكر وعمر؛ لقوله عليه السلام فيهما: «هما السمع والبصر».
وهذا تأويل بعيد، إنما المراد بهما الجارحتان. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فالق الإصباح} مصدر سمي به الصبح، قال الشاعر:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ** بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فإن قلت: الظلمة هي التي تنفلق عن الصبح كما قال الشاعر:
تفرّي ليل عن بياض نهار

فالجواب من وجوه: أحدها: أن يكون ذلك على حذف مضاف أي فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش الذي يلي الصبح أو يكون على ظاهره ومعناه فالقه عن بياض النهار.
وقالوا: انصدع الفجر وانشق عمود الفجر، قال الشاعر:
فانشق عنها عمود الصبح جافلة ** عدو النحوص تخاف القانص اللحيا

وسموا الفجر فلقًا بمعنى مفلوق أو يكون المعنى مظهر الإصباح إلا أنه لما كان الفلق مقتضيًا لذلك الإظهار أطلق على الإظهارفلقًا والمراد المسبب وهو الإظهار، وقيل: {فالق الإصباح} خالق، وقال مجاهد: الإصباح إضاءة الفجر، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن {الإصباح} ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل، وقال الليث والفراء والزجاج: الصبح والصباح والإصباح أول النهار قال:
أفنى رياحًا وبني رياح ** تناسخ الإمساء والإصباح

يريد المساء والصباح ويروى بفتح الهمزة جمع مسي وصبح، وقال ابن عباس أيضًا: معناه خالق النهار والليل، وقال الكرماني: شاق عمود الصبح عن الظلمة وكاشفه، وقرأ الحسن وعيسى وأبو رجاء الأصباح بفتح الهمزة جمع صبح وقرأت فرقة بنصب {الإصباح} وحذف تنوين {فالق} وسيبويه إنما يجوز هذا في الشعر نحو قوله:
ولا ذاكر اللَّه إلا قليلًا

حذف التنوين لالتقاء الساكنين والمبرد يجوّزه في الكلام، وقرأ النخعي وابن وثاب وأبو حيوة فلق الإصباح فعلًا ماضيًا.
{وجاعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا} لما استدل على باهر حكمته وقدرته بدلالة أحوال النبات والحيوان وذلك من الأحوال الأرضية استدل أيضًا على ذلك بالأحوال الفلكية لأن قوله فلق الصبح أعظم من فلق الحب والنوى، لأن الأحوال الفلكية أعظم وقعًا في النفوس من الأحوال الأرضية، والسكن فعل بمعنى مفعول أي مسكون إليه وهو من تستأنس به وتطمئن إليه ومنه قيل للنار لأنه يستأنس بها ولذلك يسمونها المؤنسة، ومعنى أن الليل سكن لأن الإنسان يتعب نهاره ويسكن في الليل ولذلك قال تعالى: {لتسكنوا فيه}. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {فالق الإصباح} أي شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده والإصباح مصدر سمي به الصبح.
وقال الزجاج: الإصباح والصبح واحد وهما أول النهار.
فإن قلت ظاهر الآية يدل على أنه تعالى فلق الصبح، والظلمة هي التي تنلفق بالصبح فما معنى ذلك؟ قلت ذكر العلماء فيه وجوهًا:
الأول: أن يكون المراد فالق ظلمة الصبح وذلك لأن الصبح صبحان: فالصبح الأول هو البياض المستطيل الصاعد في الألفق كذنب السرحان وهو الذئب ثم تعقبه ظلمة بعد ذلك ويسمى هذا الصبح الفجر الكاذب لأنه يبدو في الأفق الشرقي ثم يضمحل ويذهب ثم يطلع بعده الصبح الثاني، وهو الضوء المستطير في جميع الأفق الشرقي ويسمى الفجر الصادق لأنه ليس بعده ظلمة والحاصل من هذا أن يكون المعنى: فالق ظلمة الصبح الأول بنور الصبح الثاني.
الوجه الثاني: أنه تعالى كما شق ظلمة الليل بنور الصباح فكذلك يشق نور الصبح بضياء النهار فيكون معنى قوله: {فالق الإصباح} أي فالق الصباح بنورالنهار.
الوجه الثالث: أن يراد فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش في آخر الليل الذي يلي الصبح.
الوجه الرابع: أن يكون المعنى فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر إذا انصدع الفجر وانفلق وسمي الفجر فلقًا بمعنى مفلوق.
الوجه الخامس: الفلق بمعنى الخلق يعني خالق الإصباح.
وعلى هذا القول يزول الإشكال.
والصبح هو الضوء الذي يبدو أول النهار.
والمعنى أنه تعالى مبدي ضوء الصبح وخالقه ومنوره.
وقوله تعالى: {وجعل الليل سكنًا} السكن ما سكنت إليه واسترحت به.
يريد أن الناس يسكنون في الليل سكون راحة لأن الله جعل الليل لهم كذلك.
قال ابن عباس: إن كل ذي روح يسكن فيه لأن الإنسان قد أتعب نفسه في النهار فاحتاج إلى زمان يستريح فيه ويسكن عن الحركة وذلك هو الليل. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَالِقُ الإصباح} خبر لمبتدأ محذوف أي هو فالق أو خبر آخر لإن.
والإصباح بكسر الهمزة مصدر سمي به الصبح؛ قال امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ** يصبح وما الإصباح منك بأمثل

وقرأ الحسن بالفتح على أنه جمع صبح كقفل وأقفال.
وأنشد قوله:
أفنى رياحًا وبنى رياح ** تناسخ الإمساء والإصباح

بالكسر والفتح مصدرين وجمعي مسي وصبح.
والفالق الخالق على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة والضحاك وقال غير واحد: الشاق.
واستشكل بأن الظاهر أن الظلمة هي التي تفلق عن الصبح.
وأجيب بأن الصبح صبحان، صادق وهو المنتشر ضوؤه معترضًا بالأفق، وكاذب وهو ما يبدو مستطيلًا وأعلاه أضوأ من باقيه وتعقبه ظلمة.
وعلى الأول: يراد فلقه عن بياض النهار أو يقال: في الكلام مضاف مقدر أي فالق ظلمة الإصباح بالأصباح وذلك لأن الأفق من الجانب الغربي والجنوبي مملوء من الظلمة والنور إنما ظهر في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحرًا مملوءًا من الظلمة فشق سبحانه ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولًا من النور فيه.
وعلى الثاني: فإيراد أنه سبحانه فالقه عن ظلمة آخر الليل وشاقه منه.
وما ذكر من تقسيم الصبح إلى صادق وكاذب مما يشهد له العيان ولا يمتري فيه إثنان إلا أن في سبب ذلك كلامًا لأهل الهيئة حاصله أن الصبح وكذا الشفق استنارة في كرة البخار لتقارب الشمس من أفق المشرق وتباعدها عن أفق المغرب.
وقد تحقق أن كرة البخار عبارة عن هواء متكاثف بما فيه من الأجزاء الأرضية والمائية المتصاعدة من كرتيهما بتسخين الشمس وغيرها إياها وأن شكل ذلك الهواء شكل كرة محيطة بالأرض على مركزها وسطح مواز لسطحها المتساوي غاية ارتفاعها عن مركز الأرض في جميع النواحي المستلزم لكرويتها وأنها مختلفة القوام لأن ما كان منها أقرب إلى الأرض فهو أكثف مما بعد لأن الألطف يتصاعد ويتباعد أكثر من الأكثف ولكن لا يبلغ في التكاثف إلى حيث يحجب ما وراءه.
وأن هذه الكرة تنتهي إلى حد لا تتجاوزه وهو من سطح الأرض أحد وخمسون ميلًا تقريبًا وأن للأرض ظلًا على هيئة مخروط قاعدته دائرة عليها تكاد تكون عظيمة وهي مواجهة للشمس ورأسه في مقابلها.
وتنقسم الأرض بهذه القاعدة إلى قسمين: أحدهما أكبر مستضيء مواجه للشمس والآخر مظلم مقابل لها، ويتحرك الضياء والظلمة على سطح الأرض في يوم بليلته دورة واحدة كعلمين متقابلين أحدهما أبيض والآخر أسود.
وأن شعاع الشمس محيط بمخروط الظل من جميع جوانبه ومنبث في جميع الأفلاك سوى مقدار يسير من فلك القمر وفلك عطارد وقع في مخروط ظل الأرض لكن الأفلاك لكونها مشعة في الغاية ينفذ فيها الشعاع ولاينعكس عنها فلذلك لا نراها مضيئة.
وكذا الهواء الصافي المحيط بكرة البخار لا يقبل ضوءًا.
وأما كرة البخار فهي مختلفة القوام لأن ما قرب منها إلى الأرض أكثف مما بعد والأكثف أقبل للاستضاءة فالكثيف الخشن باختلاط الهيئات الكثيرة من سطح مخروط الظل قابل للضوء وأن النهار مدة كون ذلك المخروط تحت الأفق والليل مدة كونه فوقه.
وحيث تحقق كل ذلك يقال: إذا ازداد قرب الشمس من شرقي الأفق ازداد ميل المخروط إلى غربيه ولا يزال كذلك حتى يرى الشعاع المحيط به وأول ما يرى هو الأقرب إلى موضع الناظر وهو خط يخرج من بصره في سطح دائرة سمتية تمر بمركز الشمس عمودًا على الخط المماس للشمس والأرض وهو الذي في سطح الفصل المشترك بين الشعاع والظل فيرى الضوء أولًا مرتفعًا عن الأفق عند موقع العمود مستطيلًا كخط مستقيم وما بينه وبين الأفق يرى مظلمًا لبعده وإن كان مستنيرًا في الواقع ولكثافة الهواء عند الأفق مدخل في ذلك أيضًا وهو الصبح الكاذب، ثم إذا قربت من الأفق الشرقي رؤى الضوء معترضًا منبسطًا يزداد لحظة فلحظة وينمحي الأول بهذا الضياء القوى كما ينمحي ضياء المشاعل والكواكب في ضوء الشمس فيخيل أن الأول قد عدم وهو الصبح الصادق.
وتوضيح ما ذكر على ما في التذكرة وشرح سيد المحققين أنه يتوهم لبيان ذلك سطح يمر بمركز الشمس والأرض وبسهم المخروط ومركز قاعدته فيحدث مثلث حاد الزوايا قاعدته على الأفق وضلعاه على سطح المخروط.
أما حدوث المثلث فلما تقرر أنه إذا مر سطح مستو بسهم المخروط ومركز قاعدته أحدث فيه مثلثًا.
وأما حدة الزوايا فلأن رأس المخروط في نصف الليل يكون على دائرة نصف النهار فوق الأرض.
وحينئذ إما أن يكون المخروط قائمًا على سطح الأفق.
وذلك إذا كانت الشمس على سمت القدم أو مائلًا إلى الشمال أو الجنوب مع تساوي بعده عن جهة المشرق والمغرب.
وذلك إذا لم تكن الشمس على سمت القدم.
وأيًا ما كان فذلك السطح المفروض ممتد فيما بين الخافقين أما على التقدير الأول فظاهر.