فصل: قال الصابوني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والماء كثيرًا ما يذكر في القرآن في صدد ذكر الحياة والإنبات.
{وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء}..
ودور الماء الظاهر في إنبات كل شيء دور واضح يعلمه البدائي والمتحضر، ويعرفه الجاهل والعالم.. ولكن دور الماء في الحقيقة أخطر وأبعد مدى من هذا الظاهر الذي يخاطب به القرآن الناس عامة. فقد شارك الماء ابتداء- بتقدير الله- في جعل تربة الأرض السطحية صالحة للإنبات (إذا صحت النظريات التي تفترض أن سطح الأرض كان في فترة ملتهبًا، ثم صلبًا لا توجد فيه التربة التي تنبت الزرع. ثم تم ذلك بتعاون الماء والعوامل الجوية على تحويلها إلى تربة لينة) ثم ظل الماء يشارك في إخصاب هذه التربة، وذلك بإسقاط (النتروجين- الأزوت) من الجو كلما أبرق فاستخلصت الشرارة الكهربائية، التي تقع في الجو، النتروجين الصالح للذوبان في الماء ويسقط مع المطر، ليعيد الخصوبة إلى الأرض.. وهو السماد الذي قلد الإنسان القوانين الكونية في صنعه، فأصبح يصنعه الآن بنفس الطريقة! وهو المادة التي يخلو وجه الأرض من النبات لو نفدت من التربة!
{فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًا متراكبًا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه}..
وكل نبت يبدأ أخضر. واللفظ {خضرًا} أرق ظلًا، وأعمق ألفة من لفظ أخضر. هذا النبت الخضر {يخرج منه حبًا متراكبًا}.. كالسنابل وأمثالها. {ومن النخل من طلعها قنوان دانية}.. وقنوان جمع قنو وهو الفرع الصغير. وفي النخلة هو العذق الذي يحمل الثمر. ولفظة {قنوان} ووصفها {دانية} يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف. وظل المشهد كله ظل وديع حبيب.. {وجنات من أعناب}.. {والزيتون والرمان}. هذا النبات كله بفصائله وسلالاته- {مشتبهًا وغير متشابه}- {انظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه}.. انظروا بالحس البصير، والقلب اليقظ.. انظروا إليه في ازدهاره، وازدهائه، عند كمال نضجه. انظروا إليه واستمتعوا بجماله.. لا يقول هنا، كلوا من ثمره إذا أثمر، ولكن يقول: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} لأن المجال هنا مجال جمال ومتاع، كما أنه مجال تدبر في آيات الله، وبدائع صنعته في مجالي الحياة.
{إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون}..
فالإيمان هو الذي يفتح القلب، وينير البصيرة، وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة، ويصل الكائن الإنساني بالوجود، ويدعو الوجدان إلى الإيمان بالله خالق الجميع.. وإلا فإن هناك قلوبًا مغلقة، وبصائر مطموسة، وفطرًا منتكسة، تمر بهذا الإبداع كله، وبهذه الآيات كلها، فلا تحس بها ولا تستجيب.. {إنما يستجيب الذين يسمعون}، وإنما يدرك هذه الآيات الذين يؤمنون!
وعندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع؛ وقد عرض على القلب البشري صفحة الوجود الحافلة بدلائل وجود الله، ووحدانيته، وقدرته، وتدبيره، وقد غمر الوجدان بتلك الظلال الكونية الموحية، وقد وصل الضمير بقلب الوجود النابض في كل حي، الناطق ببديع صنع الخلاق. اهـ.

.قال الصابوني:

{إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} أي يفلق الحبَّ تحت الأرض لخروج النبات منها ويفلق النوى لخروج الشجر منها قال القرطبي: أي يشق النواة الميتة فيُخرج منها ورقًا أخضر وكذلك الحبة {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} أي يخرج النبات الغضِّ الطريّ من الحبّ اليابس، ويخرج الحبَّ اليابس من النبات الحيّ النامي عن ابن عباس: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وعلى هذا فالحي والميت استعارة عن المؤمن والكافر {ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} أي ذلكم الله الخالق المدبر فكيف تُصرفون عن الحق بعد هذا البيان! {فَالِقُ الإصباح} أي شاقُّ الضياء عن الظلام وكاشفه قال الطبري: شقَّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده {وَجَعَلَ الليل سَكَنًا} أي يسكن الناس فيه عن الحركات ويستريحون {والشمس والقمر حُسْبَانًا} أي بحساب دقيق يتعلق به مصالح العباد، ويُعرف بهما حساب الأزمان والليل والنهار {ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم} أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم تقدير الغالب القاهر الذي لا يستعصي عليه شيء العليم بمصالح خلقه وتدبيرهم {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر} أي خلق لكم النجوم لتهتدوا بها في أسفاركم في ظلمات الليل في البر والبحر، وإنما امتنّ عليهم بالنجوم لأن سالكي القفار، وراكبي البحار إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أبي بيّنا الدلائل على قدرتنا لقوم يتدبرون عظمة الخالق {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي خلقكم وأبدعكم من نفسٍ واحدة هي آدم عليه السلام {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} قال ابن عباس: المستقرُّ في الأرحام والمستودع في الأصلاب، أي لكم استقرار في أرحام أمهاتكم وأصلاب آبائكم، وقال ابن مسعود: مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} أبي بينا الحجج لقوم يفقهون الأسرار والدقائق قال الصاوي: عبّر هنا ب {يَفْقَهُونَ} إشارة إلى أن أطوار الإِنسان وما احتوى عليه أمرٌ خفيٌّ تتحير فيه الألباب، بخلاف النجوم فأمرها ظاهر مشاهد، ولذا عبّر فيها ب {يَعْلَمُونَ} {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} أي أنزل من السحاب المطر فأخرج به كل ما ينبتُ من الحبوب والفواكه والثمار والبقول والحشائش والشجرَ قال الطبري: أي أخرجنا به ما ينبتُ به كل شيء وينمو عليه ويصلح {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا} أي أخرجنا من النبات شيئًا غضًّا أخضر {نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} أي نُخرج من الخضر حبًا متراكبًا بعضُه فوق بعض كسنابل الحنطة والشعير قال ابن عباس: يريد القمح والشعير والذرة والأرز {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} أي وأخرجنا من طلع النخل- والطلعُ أول ما يخرج من التمر في أكمامه- عناقيد قريبة سهلة التناول قال ابن عباس: يريد العراجين التي قد تدلّت من الطلع دانيةً ممن يجتنيها {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} أي وأخرجنا بالماء بساتين وحدائق من أعناب {والزيتون والرمان مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أي وأخرجنا به أيضًا شجر الزيتون وشجر الرمان مشتبهًا في المنظر وغير متشابه في الطعم قال قتادة: مشتبهًا ورقُه مختلفًا ثمرُه، وفي ذلك دليل قاطع على الصانع المختار العليم القدير {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} أي انظروا أيها الناس نظر اعتبار واستبصار إلى خروج هذه الثمار من ابتداء خروجها إلى انتهاء ظهورها ونضجها كيف تنتقل من حال إلى حال في اللون والرائحة والصغر والكبر، وتأملوا ابتداء الثمر حيث يكون بعضه مرًا وبعضه مالحًا لا يُنتفع بشيء منه، ثم إذا انتهى ونضج فإنه يعود حلوًا طيبًا نافعًا مستساغ المذاق!
فسبحان القدير الخلاّق!! {إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إن في خلق هذه الثمار والزروع مع اختلاف الأجناس والأشكال والألوان لدلائل باهرة على قدرة الله ووحدانيته لقوم يصدّقون بوجود الله قال ابن عباس: يصدّقون أن الذي أخرج هذا النبات قادر على أن يحيي الموتى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} وورد فيما بعد من هذه السورة: {والزيتون والرمان متشابها وغير زتشابه كلوا من ثمره وآتوا حقه يوم حصاده}، فورد في الآية الأولى {مشتبها وغير متشابه} وفى الثانية: {متشابها}، وفى الأولى: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه}، وفى الثانية: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده}، يسأل عن المختلف في الآيتين مع اتحاد مرماهما؟
والجواب عن الأول: أن مشتبها ومتشابها لا فرق بينهما إلا ما لا يعد فارقا إذ الافتعال والتفاعل متقاربان، أصولهما: الشين والباء والهاء من قوله أشبه هذا هذا إذا قاربه وماثله، ورد في أولى الآيتين على أخف البناء وفى الثانية على أثقلهما رعيا للترتيب المتقرر وقد مر نحو هذا في قوله: {فمن تبع هداى} وقوله: {فمن اتبع} في سورة طه.
والجواب عن الثانى: أن قوله تعالى في الأولى: {انظروا إلى ثمره أذا أثمر وينعه} مبنى على ما قبله مما بناه على الاعتبار، قال تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى...} الآية، وقال تعالى: {فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا...} الآية، وقوله: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها...} الآية، ثم قال تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء وأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه}، فلما كان مبنى هذه الآى على الاعتبار والتنبيه بما نصب تعالى من الدلائل على وحدانيته لم يكن ليناسب ذلك ويلائمه إلا الأمر بالنظر والاعتبار لا الأمر بالأكل، أما الآية الثانية فمبنية على غير هذا وقد تقدمها قوله تعالى: {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر} أي منع: {لا يطعمها إلا من نشاء}، وجرى ما بعد على التناسب إلى قوله: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان} إلى قوله: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} ثم قال بعد ذكر الأنعام: {كلوا مما رزقكم الله}، وجرى ما بعد على هذا في تفصيل ما أحل سبحانه لعباده ورد ما ظنت يهود تحريمه على هذه الأمة، ثم أتبع سبحانه لعباده بذكر ما حرم أكله فقال لنبيه عليه السلام: {قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا...} الآية، ثم أتبع تعالى بما حرم على بنى إسرائيل أكله فقال: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر} فلم يتخلل هذه الآيات من غير أحكام المأكولات في التنويع والإباحة خلاف ذلك سوى الأمر بزكاة الحرث في قوله: {وآتوا حقه يوم حصاده} فدارت هذه الآى على ما أنعم به سبحانه من ضروب ما خلقه تعالى مما أقام به حياة عباده مأكلا وملبسا ومعونة في حركاتهم وانتقالاتهم ومباح ذلك ومحرمه، فلم يكن ليلائم ذلك إلا ما يناسبه، ولم يكن ليناسب الآية المتقدمة لو قيل: كلوا، ولا هذه الآية لو قيل: انظروا، فجاء كل على ما يجب ويلائم ولا يناسب خلافه، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا}.
تجانست أجزاءُ الأرض وتوافقت أقطارُ الكون، وتباين النبات في اللون والطَّعم واختلفت الأشياء، ودلَّ كلُّ مخلوقٍ بلسان فصيح، وبيان صريح أنه بنفسه غير مُستَقِل. اهـ.

.قال الشنقيطي:

وقوله أيضًا: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}، أثبت في هاتين الآيتين التشابه للزيتون والرمان ونفاه عنهما.
والجواب: ما قاله قتادة رحمه الله من أن المعنى متشابها ورقها، مختلفا طعمها، والله تعالى أعلم. اهـ.

.من فوائد الماوردي في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} فيه قولان:
أحدهما: معناه رزق كل شيء من الحيوان.
والثاني: نبات كل شيء من الثمار.
{فَأَخْرجْنَا مِنهُ خَضِرًا} يعني زرعًا رطبًا بخلاف صفته عند بذره.
{نُّخْرِجُ مِنهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} يعني السنبل الذي قد تراكب حبه.
{وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيةٌ} القنوان جمع قنو وفيه ثلاثة تأويلات:
أحدهما: أنه الطلع، قاله الضحاك.
والثاني: أنه الجمار.
والثالث: هي الأعذاق، قال امرؤ القيس:
أثت أعاليه وآدت أصوله ** ومال بقنوان من البسر أحمرا

{دَانِيَةٌ} فيه قولان:
أحدهما: دانية من المجتني لقصر نخلها وقرب تناولها، قاله ابن عباس.
والثاني: دانية بعضها من بعض لتقاربها، قاله الحسن.
{وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} يعني بساتين من أعناب.
{مُشْتَبِهًا وَغَيرَ مُتَشَابِهٍ} فيه وجهان:
أحدهما: مشتبها ورقه مختلفًا ثمره، قال قتادة.
والثاني: مشتبهًا لونه مختلفًا طعمه، قاله الكلبي.
{انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} قرأ حمزة والكسائي بالضم، وقرأ الباقون بالفتح، وفي اختلافه بالضم والفتح قولان:
أحدهما: أن الثُّمُر بالضم جمع ثمار، وبالفتح جمع ثمرة، قاله علي بن عيسى.
والثاني: أن الثُّمُر بالضم: المال، وبالفتح: ثمر النخل، قاله مجاهد، وأبو جعفر الطبري.
{وَيَنْعِهِ} يعني نضجة وبلوغه. اهـ.

.من فوائد ابن الجوزي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماء} يعني: المطر {فأخرجنا به} أي: بالمطر.
وفي قوله تعالى: {نبات كل شيء} قولان:
أحدهما: نبات كل شيء من الثمار، لأن كل ما ينبت فنباته بالماء.
والثاني: رزق كل شيء وغذاؤه.
وفي قوله تعالى: {فأخرجنا منه} قولان:
أحدهما: من الماء، أي: به.
والثاني: من النبات.
قال الزجاج: الخَضِر: بمعنى الأخضر، يقال: اخضرَّ، فهو أخْضر، وخَضِر، مثل أعوَّر، فهو أعْوَر، وعَوِر.
قوله تعالى: {نخرج منه} أي: من الخضر {حبًا متراكما} كالسنبل والشعير.