فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} أَيِ انْظُرُوا نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ إِلَى ثَمَرِ مَا ذُكِرَ إِذَا هُوَ تَلَبَّسَ وَاتَّصَفَ بِالْإِثْمَارِ، وَإِلَى يَنْعِهِ عِنْدَمَا يَيْنَعُ، أَيْ يَبْدُوَا صَلَاحُهُ وَيَنْضَجُ، وَتَأَمَّلُوا صِفَاتِهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ وَمَا بَيْنَهُمَا، يَظْهَرُ لَكُمْ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِي تَقْدِيرِهِ، مَا يَدُلُّ أَوْضَحَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أَيْ فِي ذَلِكُمُ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَالنَّظَرُ فِيهِ دَلَائِلُ عَظِيمَةٌ أَوْ كَثِيرَةٌ لِلْمُسْتَعِدِّينَ لِلِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفِعْلِ وَالْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّ نَظَرَهُمْ كَنَظَرِ الطِّفْلِ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْعَالِمِينَ بِأَسْرَارِ عَالَمِ النَّبَاتِ، وَالْغَوَّاصِينَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالنِّظَامِ، لَا يَتَجَاوَزُ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ، وَلَا يَعْبُرُهَا إِلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ وُجُودِ الْخَالِقِ، وَمِنْ إِثْبَاتِ صِفَاتِهِ الَّتِي تَتَجَلَّى فِيهَا، وَوَحْدَتِهِ الَّتِي يَنْتَهِي النِّظَامُ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تَصْدُرَ عَنْ إِرَادَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ وَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمُتَنَاسِبَاتِ، أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ بُدِئَ بِفَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَعَكْسِهِ. وَقَفَّى عَلَيْهِ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ فَلْقِ الْإِصْبَاحِ، وَعَطَفَ عَلَى هَذَا مَا يُقَابِلُهُ مِنْ مُعَاقَبَةِ اللَّيْلِ لِلنَّهَارِ، وَأُشِيرَ إِلَى فَوَائِدِهِمَا وَفَوَائِدِ النَّيِّرَيْنِ، اللَّذَيْنِ هُمَا آيَتَا هَذَيْنِ الْمَلَوَيْنِ، وَنَاسَبَ ذِكْرُ النَّيِّرَيْنِ التَّذْكِيرَ بِخَلْقِ النُّجُومِ، وَالْمِنَّةِ بِالِاهْتِدَاءِ بِهَا وَالْإِيمَاءِ إِلَى مَا فِيهَا مِنْ آيَاتِ الْعُلُومِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْآيَاتِ إِنْشَاؤُنَا مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ فَمِنْهَا الْمُسْتَقَرُّ وَالْمُسْتَوْدَعُ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ، وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِنَبَاتِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْيَاءِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ السِّيَاقِ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} وَقَدْ لَوَّنَ فِي تَفْصِيلِ خَلْقِ النَّبَاتِ الْخِطَابَ، وَتَفَنَّنَ فِي طُرُقِ الْإِعْرَابِ؛ لِلتَّنْبِيهِ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَلْوَانِ، وَتَشَابُهِ مَا فِيهِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْأَفْنَانِ، فَبُدِئَتِ الْآيَةُ بِضَمِيرِ الْوَاحِدِ الْغَائِبِ الْمُفْرَدِ تَبَعًا لِسِيَاقِ مَا قَبْلَهَا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ الْجَمْعِيَّ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ. إِذْ قَالَ: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} فَحِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ أَنْ تَلْتَفِتَ الْأَذْهَانُ إِلَى مَا يَعْقُبُ ذَلِكَ مِنَ الْبَيَانِ، فَتَتَنَبَّهْ إِلَى أَنَّ هَذَا الْإِخْرَاجَ الْبَدِيعَ، وَالصُّنْعَ السَّنِيعَ، مِنْ فِعْلِ الْحَكِيمِ الْخَلَّاقِ، لَا مِنْ فَلَتَاتِ الْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَاءُ وَاحِدًا وَالنَّبَاتُ جَمْعًا كَثِيرًا نَاسَبَ إِفْرَادَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ وَجَمْعَ الْفِعْلِ الْآخِرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا قَالَ فَعَلْنَا أَرَادَ إِفَادَةَ تَعْظِيمِ نَفْسِهِ إِذَا كَانَ مَقَامُهُ أَهْلًا لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ أَوِ الْأَمِيرُ- حَتَّى فِي هَذَا الْعَصْرِ- فِي أَوَّلِ مَا يُصْدِرُهُ مِنْ نَحْوِ نِظَامٍ أَوْ قَانُونٍ أَمَرْنَا بِمَا هُوَ آتٍ وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} تَحْصُلُ بِإِرَادَةِ اسْتِحْضَارِ صُورَتِهِ الْعَجِيبَةِ فِي حُسْنِهَا وَانْتِظَامِهَا، وَتَنَضُّدِ سَنَابِلِهَا وَاتِّسَاقِهَا، وَعَطَفَ عَلَيْهِ مَا يُخْرِجُهُ تَعَالَى مِنْ طَلْعِ النَّخْلِ، مِنَ الْقِنْوَانِ الْمُشَابِهِ لِسَنَابِلِ الْقَمْحِ، فِي تَنَضُّدِ ثَمَرِهِ وَتَرَاكُبِهَا، وَمَنَافِعِهَا وَغَرَائِبِهَا، فَإِنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَفْضَلَ غِذَاءٍ لِلنَّاسِ، وَعَلَفٍ للدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ جَنَّاتِ الْأَعْنَابِ؛ لِأَنَّهَا أَشْبَهُ بِالنَّخِيلِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ، فَالْعَنَاقِيدُ تُشْبِهُ الْعَرَاجِينَ فِي تَكَوُّنِهَا، وَتَرَاكُبِ حَبِّهَا وَأَلْوَانِ ثَمَرِهَا، كَمَا تُشْبِهُهَا فِي دَرَجَاتِ تَطَوُّرِهَا، فَالْحِصْرِمُ كَالْبُسْرِ، وَالْعِنَبُ كَالرُّطَبِ، وَالزَّبِيبُ كَالتَّمْرِ، وَيَخْرُجُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَسَلٌ وَخَلٌّ وَخَمْرٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مَعْطُوفًا عَلَى نَبَاتِ كُلِّ شَيْءٍ أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ، لَا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّشَابُهِ فِي الصُّورَةِ، مَحْصُورٌ فِي الْوَرَقِ دُونَ الثَّمَرَةِ، وَأَمَّا مَكَانُهُمَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْفَائِدَةِ، فَالْأَوَّلُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ وَالْآخَرُ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الزَّيْتُونَ وَزَيْتُهُ غِذَاءٌ فَقَطْ وَلَكِنَّهُ تَابِعٌ لِلطَّعَامِ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِالتَّغْذِيَةِ. وَالرُّمَّانُ فَاكِهَةٌ وَشَرَابٌ فَقَطْ وَلَكِنَّهُمَا دُونَ فَوَاكِهِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَأَشْرِبَتِهِمَا فِي الْمَرْتَبَةِ، فَنَاسَبَ جَعْلُهُ بَعْدَهُمَا، وَالْإِشَارَةُ بِاخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ إِلَى رُتْبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْمَرَاتِبِ قَدَّمَ نَبَاتَ الْحَبِّ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ الْغِذَاءُ الْأَعْظَمُ الْأَعَمُّ لِأَكْثَرِ النَّاسِ وَأَكْثَرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ أَكْثَرُ مَرَافِقِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ بِهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ هَذَا كَلَامُهُ.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
حَكَى اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَ ضُرُوبِ الشِّرْكِ الَّتِي قَالَ بِهَا بَعْضُ الْعَرَبِ، وَرَوَى التَّارِيخُ كَثِيرًا مِنْ نَوْعِهَا عَنْ أُمَمِ الْعَجَمِ، وَهِيَ اتِّخَاذُ شُرَكَاءِ اللهِ مِنْ عَالَمِ الْجِنِّ الْمُسْتَتِرِ عَنِ الْعُيُونِ، وَاخْتِرَاعُ نَسْلٍ لَهُ مِنَ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ، حَكَى هَذَا بَعْدَ تَفْصِيلِ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوَحُّدِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ فِي عَوَالِمِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَتُعْقُّبِهِ بِإِنْكَارِهِ وَتَنْزِيهِ الْخَالِقِ الْمُبْدِعِ عَنْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا}.
كان السياق يقتضي أن يقول سبحانه: أنزل من السماء ماء فأخرج.
لكنه هنا قال: {فأخرجنا}؛ لأن كل شيء لا يوجد لله فيه شبهة شريك؛ فهو من عمله فقط، ولا يقولن أحد إنه أنزل المطر وأخرج النبات لأن الأرض أرض الله المخلوقة له والبذور خلقها الله، والإنسان يفكر بعقل خلقه الله وبالطاقة المخلوقة له. وأنت حين تنسب الحاجات كلها إلى صانعها الأول، فهو إذن الذي فعل، لكنه احترم تعبك، وهو يوضح لك: حين قال: {فأخرجنا} أي أنا وأسبابي التي منحتها لك، أنا خلقت الأسباب، والأسباب عملت معك. فإذا نظرت إلى مسبب الأسباب فهو الفاعل لكل شيء. وإن نظرت إلى ظاهرية التجمع والحركة فالأسباب التي باشرها الإنسان موجودة؛ لذلك يقول: {فأخرجنا}.
وسبحانه جل وعلا قد يتكلم في بعض المواقف فيثبت للإنسان عملًا لأنه قام به بأسباب الله الممنوحة له، ولكنه ينفي عنه عملًا آخر ليس له فيه دخل بأي صورة من الصور؛ مثل قوله الحق: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 63- 64].
سبحانه هنا ينسب لنا الحرث لأننا قمنا به ولكن بأسباب منه سبحانه فهو الذي أنزل لنا الحديد الذي صنعنا منه المحراث وهدانا إلى تشكيله بعد أن ألانه لنا بالنار التي خلقها لنا، وبالطاقة التي أعطانا إياها، أما الزراعة فليس لأحد منا فيها عمل ولذلك يقول سبحانه: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65].
هنا سبحانه أتى باللام في قوله تعالى: {لجعلناه} للتأكيد؛ لأن الإنسان له في هذا الأمر عمل، إنه حرث وتعهد ما زرعه بالريّ والكد حتى نما وأثمر، لكن قد تصيبه آفة تقضي عليه، فالأسباب وإن كانت قد عملت إلا أنها لا تضمن الانتفاع بثمرة الزرع، ذلك لأن الأسباب لا تتمرد، ولا تتأبى على الله ولا تخرج عليه، إنها تؤدي ما يريده منها الله، وقد يعطلها سبحانه. أما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الماء الذي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا}، إنه سبحانه لم يقل لجعلناه، لأنه ليس لأحد فيه عمل لذلك لم يؤكده باللام.
ويقول سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المنشئون نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 71- 73].
إن كل شيء يذكره الحق يذكر معه أيضًا ما ينقضه، ذلك حتى لا يُفْتَن الإنسان بوجود الأشياء، وعليه أن يستقبل الأشياء مع إمكان إعدامها. وإذا ما كان الإنسان هو الذي يحرث فالحق بطلاقة قدرته قد يجعل النبات حطامًا، ومن قبل قال عن مقومات الحياة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} [الواقعة: 58- 59].
ثم جاء سبحانه بما ينقضه فقال: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت}. أما عن النار فلم يقل سبحانه إنه يقضي عليها ويخمدها ويطفئها، إنه- جل شأنه- أبقاها ليعلمنا ويذكرنا بنار الآخرة {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} أي لابد أن نتركها أمامكم حتى لا يغيب عنكم العذاب الآخروي {وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ} أي ونتركها- جون نقض لها وذلك لأمر آخر هو المنفعة في الدنيا للذين ينزلون أماكن خالية قفراء أو للذين خلت بطونهم وأوعيتهم ومزاودهم من الطعام لأن النار تنفعهم وتساعدهم على إعداد طعامهم استبقاء لحياتهم: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99].
والشيء هو ما يُخْبَر عنه؛ الهباءة شيء، والذرة شيء وكل حاجة اسمها شيء، ومعنى نبات كل شيء: أن كل حاجة مثل النبات تمامًا. رأينا الحجارة التي يقول عنها العلماء هذه جرانيت، وتلك الرخام وتلك مرمر، ولو نظرت إلى أصلها وجدتها أعمارًا للحجارة، طال عمر حجر ما فصارا فحمًا، وطال عمر آخر فصار جرانيتًا، وهكذا. وكل حاجة لها حياة لتثبت لنا القضية الأولى، وهي: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]
أو نبات كل شيء ترون فيه نموًا وحياة، والعقل الفطري يأخذها هكذا، لكن العقل المستوعب يأخذ منها قضايا كثيرة، ويتغلغل في الكون ويجد الآية سابحة معه وهو سابح معها.
ويتابع سبحانه: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} وإذا قلت كلمة خَضِر فقد تعني اللون المعروف لنا وهو الأخضر، لكن خضر فيها وصف زائد قليلًا عن أخضر؛ لأن أخضر يخبر عن لون فقط، واللون متعلقة العين، لكن خضر يعطي اللون، ويعطي الغضاضة ونعرفها بالحس. وحين تلمسه تجد النعومة.
إذن خضر فيها أشياء كثيرة؛ لون متعلق العين، وغضاضة نعرفها بالحس وفيها نعومة نعرفها باللمس. وهذا اللون الأخضر يكون داكنًا جدًا أي أن خضرته شديدة حتى أنها تضرب إلى السواد؛ لذلك نسمع من يقول: سواد العرق أي الأرض الخصبة التي في العراق، ويسمونها سواد العرق لأنها خضراء خضرة شديدة ولذلك تكون مائلة إلى السواد، ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 62- 64].
ومدهامة أي مثل دهمة الليل؛ كأنها من شدة خضرتها صارت كدهمة الليل. ويتابع الحق {خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} والحب هو ما ليس له نواة مثل حبة الشعير وحبة القمح وحبة العدس وحبة اللوبيا. و{متراكبا} تعني أنه حب مرصوص متساند.
{وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} والنخل عند العرب له مكانة عالية لأنه يعطي لهم الغذاء الدائم فيذكرهم به {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ}.
والطلع هو أول شيء يبدو من ثمر النخل، وهو ما نسميه في الريف الكوز الأخضر وهو في الذكر من النخل الذي يسمى الفحل ويوجد أيضًا في الأنثى، وأول ما يبدو من ثمر النخل يسمى الطلع، ثم ينشق الطلع ويخرج منه القنو أو العزق أو العرجون، وهو الجزء الذي توجد فيه الشماريخ التي يتعلق بها البلح.
والطلع إذن هو الثمرة الأولى للنخلة قبل أن تنشق ويطلع منها القنوان وهو السباطة كما نسميها في الريف.
{قنوان دانية} ويصفها الحق بأنها دانية لأنك حين تنظر طلع النخيل أول ما يطلع تجده ينشق ويحمي نفسه بشوك الجريد حتى لا تأكله الحشرات ثم يثقل وينحني ويكاد ينزل على الأرض فيكون دانيًا قريبا، فإن كانت هناك سباطة شاذة تجد من يجنيها يُدخل يده بين الشوك ليصل إليها. وسبحانه يترك لنا فلتات لنعرف نعمة الله في أنه جعلها تتدلى لأنها لو كانت كلها دانية. قد لا يلتفت إليها، لذلك يترك واحدة بين الشوك ليتعب الإنسان حتى يحصل عليها لتعرف أنه سبحانه قد دنّى لك الباقي وهذه نعمة من الله.
ويُطلق الطلع مرة على الأكمام والكِم هو ما توجد في قلبه الثمار، ومرة يطلق على الثمر نفسه: {والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 10].
وأنت ترى البلح نازلًا من الشماريخ، وكل شمروخ به عدد من البلح، ثم ترى الشمروخ متصلًا بالأم، وفي ذلك ترى عظمة الهندسة العجيبة في ترتيب الثمار. وكل شيء محسوب في هذا الأمر بهندسة عجيبة وعندما ننظر إلى ما تعلمناه في حياتنا حين نصمم شبكة توصيل المياه وشبكة الصرف الصحي، إن شبكة المياه التي تعطينا الذي نستخدمه، وشبكة الصرف الصحي التي تأخذ الزائد من المياه والفضلات. عندما تنظر إلى هذه الشبكة أو تلك تجد هندسة كل منها دقيقة؛ لأن أي غفلة في التصميم تسبب المتاعب. فحين تريد توصيل المياع إلى حارة؛ فأنت تستخدم ماسورة قطرها كذا بوصة، وفي الحارة هناك عطفات فتحضر لكل عطفة ماسورة أقل قطرًا من الأولى، ثم ماسورة أقل للبيوت، وماسورة أقل بكثير لكل شقة، لقد قام المهندسون بحساب دقيق لهذه المسائل.
فإذا كانت هذه هي هندسة البشر، فما بالنا بهندسة الخالق؟ أنت تجد العزق: وهو حامل الرطب يأخذ من النخلة، وكل نخلة فيها كذا سباطة وفي كل سباطة هناك الشماريخ، ثم هناك البلح وكل بلحة تأخذ شعرة لغذائها. وهكذا نجد كل شيء محسوبًا بدقة بالغة. إنها هندسة كونية عجيبة مصنوعة بقول الحق: كن، وصدق الله القائل: {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2- 3].
{وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً} وكلمة {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً} لم نكن نعرف ما وراءها، كنا نعرف فقط أن السماء هي كل ما علاك فأظللك، والماء يأتي من السحاب، وكلنا نرى السماء تمطر. وكلنا نعرف التعبير الفطري الذي يقول: غامت السماء، ثم أمطرت، وهناك من قال: تضحك الأرض من بكاء السماء لأنها تستقبل الماء الذي يروي ما بها من بذور. لكن ما وراء عملية الإنزال هذه؟
إن هناك عملية أخرى تحدث في الكون دون شعور منا، عرفناها فقط حين تقدم العلم وحين قمنا بتقطير المياه، فأحضرنا موقدًا ووضعنا فوقه قارورة ماء، وحين وصل إلى نقطة الغليان خرج البخار، وسار البخار في الأنابيب ومرت الأنابيب في أوساط باردة فتكثفت المياه ونزلت ماء مقطرًا، ومثل ذلك يحدث في المطر، وانظر كم يكلفنا كوب واحد من الماء المقطر الذي نشتريه من الصيدلية؟ وقارن ذلك بالسماء التي تنزل بماء منهمر، ولا ندري كيق صُنع. ولذلك يقول الحق: {أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون} [الواقعة: 69].
هكذا ينزل الماء من السماء، ولم نكن نعرف كيف يحدث ذلك وسبحانه يقول هنا: {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ والزيتون والرمان مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِه} [الأنعام: 99].
وحين يقول سبحانه: {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِه} نصدق، مثال حبة الخوخ، هناك حبة من نوع نسميه الخوخ السلطاني، حين تمسك بالثمرة الواحدة تنفلق لتخرج البذرة نظيفة، وحبة أخرى نفلقها نحن فتجد البذرة فيها بعض لحم الفاكهة ونجد فيها أيضا بعضًا من الألياف. وهذه لها لون والأخرى لها لون، هذه لها طعم وتلك لها طعم مختلف. {يسقى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل} [الرعد: 4].