فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والشياطين أيضًا فيهم كثرة عظيمة وهي تلقي الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية، والله مع عسكره من الملائكة يحاربون إبليس مع عسكره من الشياطين.
فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن فهذا تفصيل هذا القول.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {وَخَلَقَهُمْ} إشارة إلى الدليل القاطع الدال على فساد كون إبليس شريكًا لله تعالى في ملكه، وتقريره من وجهين: الأول: أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم بل هو محدث.
إذا ثبت هذا فنقول: إن كل محدث فله خالق وموجد، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى، ولما كان إبليس أصلًا لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح، والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى، فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد، وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا لابد من إلهين يكون أحدهما فاعلًا للخيرات، والثاني يكون فاعلًا للشرور لأن بهذا الطريق ثبت أن إله الخير هو بعينه الخالق لهذا الذي هو الشر الأعظم فقوله تعالى: {وَخَلَقَهُمْ} إشارة إلى أن تعالى هو الخالق لهؤلاء الشياطين على مذهب المجوس، وإذا كان خالقًا لهم فقد اعترفوا بكون إله الخير فاعلًا لأعظم الشرور، وإذا اعترفوا بذلك وسقط قولهم: لابد للخيرات من إله، وللشرور من إله آخر.
والوجه الثاني: في استنباط الحجة من قوله: {وَخَلَقَهُمْ} ما بينا في هذا الكتاب وفي كتاب الأربعين في أصول الدين أن ما سوى الواحد ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محدث، ينتج أن ما سوى الواحد الأحد الحق فهو محدث، فيلزم القطع بأن إبليس وجميع جنوده يكونون موصوفين بالحدوث.
وحصول الوجود بعدم العدم، وحينئذ يعود الإلزام المذكور على ما قررناه، فهذا تقرير المقصود الأصلي من هذه الآية وبالله التوفيق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الجن} معناه: وجعلوا الجن شركاء لله.
فإن قيل: فما الفائدة في التقديم؟
قلنا: قال سيبويه: إنهم يقدمون الأهم الذي هم بشأنه أعنى، فالفائدة في هذا التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك سواء كان ملكًا أو جنيًا أو إنسيًا أو غير ذلك.
فهذا هو السبب في تقديم اسم الله على الشركاء.
إذا عرفت هذا فنقول: قرئ {الجن} بالنصب والرفع والجر، أما وجه النصب فالمشهور أنه بدل من قوله: {شُرَكَاء} قال بعض المحققين: هذا ضعيف لأن البدل ما يقوم مقام المبدل، فلو قيل: وجعلوا لله الجن لم يكن كلامًا مفهومًا بل الأولى جعله عطف بيان.
أما وجه القراءة بالرفع فهو أنه لما قيل: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} فهذا الكلام لو وقع الاقتصار عليه لصح أن يراد به الجن والأنس والحجر والوثن فكأنه قيل ومن أولئك الشركاء؟ فقيل: الجن.
وأما وجه القراءة بالجر فعلى الإضافة التي هي للتبيين.
واختلفوا في تفسير هذه الشركة على ثلاثة أوجه: فالأول: ما ذكرناه من أن المراد منه حكاية قول من يثبت للعالم إلهين أحدهما فاعل الخير والثاني فاعل الشر.
والقول الثاني: أن الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله وهؤلاء يقولون المراد من الجن الملائكة، وإنما حسن إطلاق هذا الاسم عليهم، لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار، والملائكة مستترون عن الأعين، وكان يجب على هذا القائل أن يبين أنه كيف يلزم من قولهم الملائكة بنات الله؟ قولهم بجعل الملائكة شركاء لله حتى يتم انطباق لفظ الآية على هذا المعنى، ولعله يقال: إن هؤلاء كانوا يقولون الملائكة مع أنها بنات الله فهي مدبرة لأحوال هذا العالم وحينئذ يحصل الشرك.
والقول الثالث: وهو قول الحسن وطائفة من المفسرين أن المراد: أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام، وإلى القول بالشرك، فقبلوا من الجن هذا القول وأطاعوهم، فصاروا من هذا الوجه قائلين: يكون الجن شركاء لله تعالى.
وأقول: الحق هو القول الأول.
والقولان الأخيران ضعيفان جدًا.
أما تفسير هذا الشرك بقول العرب الملائكة بنات الله، فهذا باطل من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا المذهب قد حكاه الله تعالى بقوله: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100] فالقول بإثبات البنات لله ليس إلا قول من يقول الملائكة بنات الله، فلو فسرنا قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الجن} بهذا المعنى يلزم منه التكرار في الموضع الواحد من غير فائدة، وأنه لا يجوز.
الوجه الثاني: في إبطال هذا التفسير أن العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وإثبات الولد لله غير، وإثبات الشريك له غير، والدليل على الفرق بين الأمرين أنه تعالى ميز بينهما في قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3، 4] ولو كان أحدهما عين الآخر لكان هذا التفصيل في هذه السورة عبثًا.
الوجه الثالث: أن القائلين بيزدان وأهرمن يصرحون بإثبات شريك لإله العالم في تدبير هذا العالم، فصرف اللفظ عنه وحمله على إثبات البنات صرف للفظ عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز.
وأما القول الثاني: وهو قول من يقول المراد من هذه الشركة: أن الكفار قبلوا قول الجن في عبادة الأصنام، فهذا في غاية البعد لأن الداعي إلى القول بالشرك لا يجوز تسميته بكونه شريكًا لله لا بحسب حقيقة اللفظ ولا بحسب مجازه، وأيضًا فلو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لزم وقوع التكرير من غير فائدة، لأن الرد على عبدة الأصنام وعلى عبدة الكواكب قد سبق على سبيل الاستقصاء، فثبت سقوط هذين القولين، وظهر أن الحق هو القول الذي نصرناه وقويناه. اهـ. بتصرف يسير.

.قال ابن عطية:

{جعلوا} بمعنى صيروا، و{الجن} مفعول و{شركاء} مفعول ثان مقدم، ويصح أن يكون قوله: {شركاء} مفعولًا أولًا و{لله} في موضع المفعول الثاني و{الجن} بدل من قوله: {شركاء} وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله والقائلين إن الجن تعلم الغيب العابدين للجن، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها ونحو هذا، أما الذين خرقوا البنين فاليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح، وأما ذاكروا البنات فالعرب الذين قالوا للملائكة بنات الله، فكأن الضمير في {جعلوا}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم}.
لما ذكر تعالى ما اختص به من باهر قدرته ومتقن صنعته وامتنانه على عالم الإنسان بما أوجد له مما يحتاج إليه في قوام حياته، وبين ذلك {آيات لقوم يعلمون} و{لقوم يفقهون} {ولقوم يؤمنون} ذكر ما عاملوا به منشئهم من العدم وموجد أرزاقهم من إشراك غيره له في عبادته، ونسبه ما هو مستحيل عليه من وصفه بسمات الحدوث من البنين والبنات، وقال الكلبي: نزلت في الزنادقة قالوا إن الله خالق الناس والدواب وإبليس خالق الحيات والعقارب والسباع ويقرب من هذا قول المجوس قالوا: للعالم صانعان إله قديم، والثاني: شيطان حادث من فكرة الإله القديم، وكذلك الحائطية من المعتزلة من أصحاب أحمد بن حائط زعموا أن للعالم صانعين الإله القديم والآخر محدث خلقه الله أولًا ثم فوض إليه تدبير العالم، وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة والضمير في {وجعلوا} عائد على الكفار لأنهم مشركون وأهل كتاب، وقيل: هو عائد على عبدة الأوثان والنصارى قالت: المسيح ابن الله واليهود قالوا: عزير ابن الله وطوائف من العرب جعلوا لله تعالى بنات الملائكة وبنو مدلج زعموا أن الله تعالى صاهر الجن فولدت له الملائكة، وقد قيل: إن من الملائكة طائفة يسمون الجن وإبليس ومنهم وهم خدم الجنة، وقال الحسن: هذه الطوائف كلها أطاعوا الشيطان في عبادة الأوثان واعتقدوا الإلهية فيمن ليست له، فجعلوهم شركاء لله في العبادة وظاهر الكلام أنهم جعلوا لله شركاء الجن أنفسهم، وما قاله الحسن مخالف لهذا الظاهر، إذ ظاهر كلامه أن الشركاء هي الأوثان وأنه جعلت طاعة الشيطان تشريكًا له مع الله تعالى إذ كان التشريك ناشئًا عن أمره وإغوائه وكذا قال إسماعيل الضرير: أراد بالجن إبليس أمرهم فأطاعوه، وظاهر لفظ الجن أنهم الذين يتبادر إليهم الذهن من أنهم قسيم الإنس في قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس} وأنهم ليسوا الملائكة لقوله: {ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون}.
قالوا: سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن، فالآية مشيرة إلى الذين جعلوا الجن شركاء لله في عبادتهم إياهم وأنهم يعلمون الغيب، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها، والجمهور على نصب {الجن} وأعربه الزمخشري وابن عطية مفعولًا أولًا بجعلوا {وجعلوا} بمعنى صيروا {وشركاء} مفعول ثان و{لله} متعلق بشركاء، قال الزمخشري فإن قلت: فما فائدة التقديم قلت: فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكًا أو جنيًا أو إنسيًا أو غير ذلك، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء انتهى، وأجاز الحوفي وأبو البقاء فيه أن يكون الجن بدلًا من {شركاء} و{لله} في موضع المفعول الثاني و{شركاء} هو المفعول الأول وما أجازاه لا يجوز، لأنه يصح للبدل أن يحل محل المبدل منه فيكون الكلام منتظمًا لو قلت وجعلوا لله الجن لم يصح وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولًا للعامل في المبدل منه على قول: وهذا لا يصح هنا البتة كما ذكرنا وأجاز الحوفي أن يكون شركاء المفعول الأول والجن المفعول الثاني كما هو ترتيب النظم، وأجاز أبو البقاء أن يكون {لله شركاء} حالًا وكان لو تأخر للشركاء وأحسن مما أعربوه ما سمعت من أستاذنا العلامة أبي جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير الثقفي يقول فيه قال انتصب الجن على إضمار فعل جواب سؤال مقدّر كأنه قيل من {جعلوا لله شركاء} قيل: الجن أي جعلوا الجن ويؤيد هذا المعنى قراءة أبي حيوة ويزيد بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجن جوابًا لمن قال: من الذي جعلوه شريكًا فقيل له: هم الجن ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والانتقاص لمن جعلوه شريكًا لله.
وقرأ شعيب بن أبي حمزة: الجن بخفض النون ورويت هذه عن أبي حيوة وابن قطيب أيضًا، قال الزمخشري: وقرئ على الإضافة التي للتبيين والمعنى أشركوهم في عبادته لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله انتهى، ولا يتضح معنى هذه القراءة إذ التقدير: وجعلوا شركاء الجن لله، وهذا معنى لا يظهر. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ الجن} هذا ذِكر نوع آخر من جهالاتهم، أي فيهم من اعتقد لله شركاء من الجِن.
قال النحاس: {الجن} مفعول أوّل، و{شركاء} مفعول ثان؛ مثل {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا} [المائدة: 20].
{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا} [المدثر: 12].
وهو في القرآن كثير.
والتقدير: وجعلوا لله الجن شركاء.
ويجوز أن يكون {الجن} بدلًا من شركاء، والمفعول الثاني {لله}.
وأجاز الكِسائيّ رفع {الجن} بمعنى هم الجن. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَجَعَلُواْ} في اعتقادهم {لِلَّهِ} الذي شأنه ما فصل في تضاعيف هذه الآيات {شُرَكَاء} في الألوهية أو الربوبية {الجن} أي الملائكة حيث عبدوهم وقالوا: إنهم بنات الله سبحانه، وتسميتهم جنًا مجاز لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن.
وفي التعبير عنهم بذلك حط لشأنهم بالنسبة إلى مقام الإلهية.
وروي هذا عن قتادة والسدي، ويفهم من كلام بعضهم أن الجن تشمل الملائكة حقيقة.
وقيل: المراد بهم الشياطين وروى عن الحسن.
ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم.
ويروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الاْية نزلت في الزنادقة الذين قالوا: إن الله تعالى خالق الناس، والدواب، والأنعام، والحيوان، وإبليس خالق السباع، والحيات، والعقارب والشرور.
فالمراد من الجن إبليس وأتباعه الذين يفعلون الشرور ويلقون الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية، وهؤلاء المجوس القائلون بالنور والظلمة ولهم في هذا الباب أقوال تمجها الأسماع وتشمئز عنها النفوس.
وادعى الإمام أن هذا أحسن الوجوه المذكورة في الآية، ومفعولا جعل قيل: لله وشركاء، والجن إما منصوب بمحذوف وقع جوابًا عن سؤال كأنه قيل: من جعلوه شركاء؟ فقيل: الجن، أو منصوب على البدلية من {شُرَكَاء} والمبدل منه ليس في حكم الساقط بالكلية وتقديم المفعول الثاني لأنه محز الإنكار ولأن المفعول الأول منكر يستحق التأخير.
وقيل: هما شركاء والجن، وتقديم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يتخذ لله سبحانه شريك ما كائنًا ما كان، و{لِلَّهِ} متعلق بشركاء وتقديمه عليه للنكتة المذكورة أيضًا على ما اختاره الزمخشري وقرئ {الجن} بالرفع كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الجن وبالجر على الإضافة التي هي للتبيين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} عطف على الجمل قبله عطف القصّة على القصّة، فالضّمير المرفوع في {جعلوا} عائد إلى {قومُك} من قوله تعالى: {وكذّب به قومك} [الأنعام: 66].
وهذا انتقال إلى ذكر شِرك آخر من شرك العرب وهو جعلهم الجِنّ شركاءَ لله في عبادتهم كما جعلوا الأصنام شركاء له في ذلك.
وقد كان دين العرب في الجاهليّة خليطًا من عبادة الأصنام ومن الصّابئيّة عبادة الكواكب وعبادة الشّياطين، ومجوسيّة الفرس، وأشياء من اليهوديّة، والنّصرانيّة، فإنّ العرب لجهلهم حينئذٍ كانوا يتلقّون من الأمم المجاورة لهم والّتي يرحلون إليها عقائد شتّى متقاربًا بعضها ومتباعدًا بعض، فيأخذونه بدون تأمّل ولا تمحيص لفقد العلم فيهم، فإنّ العلم الصّحيح هو الذّائد عن العقول من أنّ تعشّش فيها الأوهام والمعتقدات الباطلة، فالعرب كان أصل دينهم في الجاهليّة عبادة الأصنام وسرت إليهم معها عقائد من اعتقاد سلطة الجنّ والشّياطين ونحو ذلك.