فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فكان العرب يثبتون الجنّ وينسبون إليهم تصرّفات، فلأجل ذلك كانوا يتّقون الجنّ وينتسبون إليها ويتّخذون لها المَعاذات والرّقَى ويستجلبون رضاها بالقرابين وترك تسميّة الله على بعض الذبائح.
وكانوا يعتقدون أنّ الكاهن تأتيه الجنّ بالخبر من السّماء، وأنّ الشّاعر له شيطان يوحى إليه الشّعر، ثمّ إذ أخذوا في تعليل هذه التصرّفات وجمعوا بينها وبين معتقدهم في ألوهيّة الله تعالى تعلّلوا لذلك بأنّ للجنّ صلة بالله تعالى فلذلك قالوا: الملائكة بنات الله مِن أمّهاتتٍ سَرَوات الجنّ، كما أشار إليه قوله تعالى: {وجعلوا بينه وبينَ الجِنّة نسبًا} [الصافات: 158] وقال: {فاستفتهم ألرَبِّك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثًا وهم شاهدون ألاَ إنّهم من إفكهم ليقولون ولد اللّهُ وإنّهم لكاذبون} [الصافات: 149 152].
ومن أجل ذلك جَعَل كثير من قبائل العرب شيئًا من عبادتهم للملائكة وللجنّ.
قال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعًا ثمّ نقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون} [سبأ: 40، 41].
والّذين زعموا أنّ الملائكة بنات الله هم قريش وجُهينة وبنو سلمة وخزاعة وبنو مُليح.
وكان بعض العرب مجوسًا عبدوا الشّيطان وزعموا أنّه إلهُ الشرّ وأنّ الله إله الخير، وجعلوا الملائكة جند اللّهِ والجنّ جندَ الشّيطان.
وزعموا أنّ الله خلق الشّيطان من نفسه ثمّ فوّض إليه تدبير الشرّ فصار إله الشرّ.
وهم قد انتزعوا ذلك من الدّيانة المزدكيّة القائلة بإلهين إله للخير وهو (يَزْدَانْ).
وإلهٍ للشرّ وهو (أهْرُمُنْ) وهو الشّيطان.
فقوله: {الجنّ} مفعول أوّل {جعلوا} و{شركاء} مفعوله الثّاني، لأنّ الجنّ المقصود من السّياق لا مطلق الشّركاء، لأنّ جعل الشركاء لله قد تقرّر من قبل.
و{لله} متعلّق بـ {شركاء}.
وقدم المفعول الثّاني على الأوّل لأنّه محلّ تعجيب وإنكار فصار لذلك أهمّ وذكره أسبق.
وتقديم المجرور على المفعول في قوله: {لله شركاء} للاهتمام والتعجيب من خطل عقولهم إذ يجعلون لله شركاء من مخلوقاته لأنّ المشركين يعترفون بأنّ الله هو خالق الجنّ، فهذا التّقديم جرى على خلاف مقتضى الظّاهر لأجل ما اقتضى خُلافه.
وكلام الكشاف يَجعل تقديم المجرور في الآية للاهتمام باعتقادهم الشّريك لله اهتمامًا في مقامه وهو الاستفظاع والإنكار التّوبيخي.
وتبعه في المفتاح إذ قال في تقديم بعض المعمولات على بعض للعناية بتقديمه لكونه نُصْب عينك كما تَجِدُك إذا قال لك أحد: عرفتَ شركاء لله، يَقِف شَعَرُك وتقول: للّهِ شركاء.
وعليه قوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء} اهـ.
وقال ابن عاشور:
فيكون تقديم المجرور جاريًا على مقتضى الظّاهر.
والجِنّ بكسر الجيم اسم لموجودات من المجرّدات الّتي لا أجسام لها ذاتتِ طبع ناري، ولها آثار خاصّة في بعض تصرّفات تؤثّر في بعض الموجودات ما لا تؤثّره القُوى العظيمة.
وهي من جنس الشّياطين لا يُدرى أمدُ وجود أفرادها ولا كيفيّة بقاء نوعها.
وقد أثبتها القرآن على الإجمال، وكان للعرب أحاديث في تخيّلها.
فهم يتخيّلونها قادرة على التشكّل بأشكال الموجودات كلّها ويزعمون أنّها إذا مسّت الإنسان آذته وقتلته.
وأنّها تختطف بعض النّاس في الفيافي، وأنّ لها زَجَلًا وأصْواتًا في الفيافي، ويزعمون أنّ الصدى هو من الجنّ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى: {كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض} [الأنعام: 71]، وأنّها قد تقول الشّعر، وأنّها تظهر للكهان والشّعراء. اهـ.

.قال الفخر:

وأما قوله تعالى: {وَخَلَقَهُمْ} ففيه بحثان:
البحث الأول: اختلفوا في أن الضمير في قوله: {خَلَقَهُمْ} إلى ماذا يعود؟ على قولين:
فالقول الأول: إنه عاد إلى {الجن} والمعنى أنهم قالوا الجن شركاء الله، ثم إن هؤلاء القوم اعترفوا بأن إهرمن محدث، ثم إن في المجوس من يقول إنه تعالى تفكر في مملكة نفسه واستعظمها فحصل نوع من العجب، فتولد الشيطان عن ذلك العجب، ومنهم من يقول شك في قدرة نفسه فتولد من شكه الشيطان، فهؤلاء معترفون بأن إهرمن محدث، وأن محدثه هو الله تعالى فقوله تعالى: {وَخَلَقَهُمْ} إشارة إلى هذا المعنى، ومتى ثبت أن هذا الشيطان مخلوق لله تعالى امتنع جعله شريكًا لله في تدبير العالم، لأن الخالق أقوى وأكمل من المخلوق، وجعل الضعيف الناقص شريكًا للقوي الكامل محال في العقول.
والقول الثاني: أن الضمير عائد إلى الجاعلين، وهم الذين أثبتوا الشركة بين الله تعالى وبين الجن، وهذا القول عندي ضعيف لوجهين: أحدهما: أنا إذا حملناه على ما ذكرناه صار ذلك اللفظ الواحد دليلًا قاطعًا تامًا كاملًا في إبطال ذلك المذهب، وإذا حملناه على هذا الوجه لم يظهر منه فائدة وثانيهما: أن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب، وأقرب المذكورات في هذه الآية هو الجن، فوجب أن يكون الضمير عائدًا إليه.
البحث الثاني: قال صاحب الكشاف: قرئ {وَخَلَقَهُمْ} أي اختلاقهم للأفك.
يعني: وجعلوا الله خلقهم حيث نسبوا ذبائحهم إلى الله في قولهم: {والله أَمَرَنَا بِهَا}. اهـ..

.قال القرطبي:

{وَخَلَقَهُمْ} كذا قراءة الجماعة، أي خلق الجاعلين له شركاء.
وقيل: خلق الجن الشركاء.
وقرأ ابن مسعود {وهو خلقهم} بزيادة هو.
وقرأ يحيى بن يَعْمَر {وخلْقهم} بسكون اللام، وقال: أي وجعلوا خلقهم لله شركاء؛ لأنهم كانوا يخلقون الشيء ثم يعبدونه.
والآية نزلت في مشركي العرب.
ومعنى إشراكهم بالجن أنهم أطاعوهم كطاعة الله عز وجل؛ رُوي ذلك عن الحسن وغيره.
قال قَتادة والسُّدّيّ: هم الذين قالوا الملائكةُ بنات الله.
وقال الكلبيّ: نزلت في الزنادقة، قالوا: إن الله وإبليس أخوان؛ فالله خالق الناس والدواب، وإبليس خالق الجان والسباع والعقارب.
ويقرب من هذا قول المجوس، فإنهم قالوا: للعالَم صانعان: إله قديم، والثاني شيطان حادث من فكرة الإله القديم؛ وزعموا أن صانع الشر حادث.
وكذا الحائطية من المعتزلة من أصحاب أحمد بن حائط، زعموا أن للعالَم صانعين: الإله القديم، والآخر محدث، خلقه الله عز وجل أوّلًا ثم فوّض إليه تدبير العالم؛ وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة.
تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون عُلُوًّا كبيرًا. اهـ.

.قال أبو حيان:

والضمير في {وخلقهم} عائد على الجاعلين إذ هم المحدث عنهم وهي جملة حالية أي وقد خلقهم وانفرد بإيجادهم دون من اتخذه شريكًا له وهم الجن فجعلوا من لم يخلقهم شريكًا لخالقهم وهذه غاية الجهالة، وقيل الضمير يعود على الجن أي والله خلق من اتخذوه شريكًا له فهم متساوون في أن الجاعل والمجعول مخلوقون لله فكيف يناسب أن يجعل بعض المخلوق شريكًا لله تعالى؟
وقرأ يحيى بن يعمر {وخلقهم} بإسكان اللام وكذا في مصحف عبد الله، والظاهر أنه عطف على الجن أي وجعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصنامًا شركاء لله كما قال تعالى: {أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون} فالخلق هنا واقع على المعمول المصنوع بمعنى المخلوق، قال: هنا معناه ابن عطية، وقال الزمخشري: وقرئ {وخلقهم} أي اختلاقهم الإفك يعني وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم والله أمرنا بها انتهى، فالخلق هنا مصدر بمعنى الاختلاق. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَخَلَقَهُمْ} حال من فاعل {جَعَلُواْ} بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدة لما في جعلهم ذلك من الشناعة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها أي وقد علموا أن الله تعالى خالقهم خاصة، وقيل: الضمير (للجن) أي والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكًا له.
ورجح الأول بخلوه عن تشتت الضمائر ورجح الإمام الثاني بأن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب، وبأنه إذا رجع الضمير إلى هذا الأقرب صار اللفظ الواحد دليلًا قاطعًا تامًا كاملًا في إبطال المذهب الباطل.
وقرأ يحيى بن يعمر {وَخَلَقَهُمْ} على صيغة المصدر عطفًا على {الجن} أي وما يخلقونه من الأصنام أو على {شُرَكَاء} أي وجعلوا له اختلاقهم للقبائح حيث نسبوها إليه سبحانه وقالوا: {الله أمرنا بها} [الأعراف: 28]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {وخلقهم} في موضع الحال والواو للحال.
والضّمير المنصوب في {خلقهم} يحتمل أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {جعلوا}، أي وخلق المشركين، وموقع هذه الحال التّعجيب من أن يجعلوا لله شركاء وهو خالقهم، من قبيل {وتجعلون رزقكم أنّكم تكذّبون} [الواقعة: 82]، وعلى هذا تكون ضمائر الجمع متناسقة والتعجيب على هذا الوجه من جعلهم ذلك مع أنّ الله خالقهم في نفس الأمر فكيف لا ينظرون في أنّ مقتضى الخلق أن يُفرد بالإلهيّة إذ لا وجه لدعواها لمن لا يَخلق كقوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تَذكَّرون} [النحل: 17] فالتّعجيب على هذا من جهلهم وسوء نظرهم.
ويجوز أن يكون ضمير {وخلقهم} عائدًا إلى الجنّ لصحّة ذلك الضمير لهم باعتبار أنّ لهم عقلًا، وموقع الحال التّعجيب من ضلال المشركين أنّ يشركوا الله في العبادة بعض مخلوقاته مع علمهم بأنّهم مخلوقون لله تعالى، فإنّ المشركين قالوا: إنّ الله خالق الجنّ، كما تقدّم، وأنّه لا خالق إلاّ هو، فالتّعجيب من مخالفتهم لمقتضى علمهم.
فالتّقدير: وخلقهم كما في علمهم، أي وخلقهم بلا نزاع.
وهذا الوجه أظهر. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
فيه مباحث:
البحث الأول: أقول إنه تعالى حكى عن قوم أنهم أثبتوا إبليس شريكًا لله تعالى.
ثم بعد ذلك حكى عن أقوام آخرين أنهم أثبتوا لله بنين وبنات.
أما الذين أثبتوا البنين فهم النصارى وقوم من اليهود وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يقولون الملائكة بنات الله وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} كالتنبيه على ما هو الدليل القاطع في فساد هذا القول وفيه وجوه.
الحجة الأولى: أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته أو لا يكون، فإن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلًا بنفسه قائمًا بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخر، ومن كان كذلك لم يكن والد له ألبتة لأن الولد مشعر بالفرعية والحاجة وأما إن كان ذلك الولد ممكن الوجود لذاته فحينئذ يكون وجوده بإيجاد واجب الوجود لذاته، ومن كان كذلك فيكون عبدًا له ولا ولدًا له، فثبت أن من عرف أن الإله ما هو، امتنع منه أن يثبت له البنات والبنين.
الحجة الثانية: أن الولد يحتاج إليه أن يقوم مقامه بعد فنائه، وهذا إنما يعقل في حق من يفنى، أما من تقدس عن ذلك لم يعقل الولد في حقه.
الحجة الثالثة: أن الولد مشعر بكونه متولدًا عن جزء من أجزاء الوالد، وذلك إنما يعقل في حق من يكون مركبًا ويمكن انفصال بعض أجزائه عنه، وذلك في حق الواحد الفرد الواجب لذاته محال، فحاصل الكلام أن من علم أن الإله ما حقيقته استحال أن يقول له ولد فكان قوله: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} إشارة إلى هذه الدقيقة.
البحث الثاني: قرأ نافع {وَخَرَقُواْ} مشددة الراء.
والباقون {خرقوا} خفيفة الراء.
قال الواحدي: الاختيار التخفيف، لأنها أكثر والتشديد للمبالغة والتكثير.
البحث الثالث: قال الفراء: معنى {خرقوا} افتعلوا وافتروا.
قال: وخرقوا واخترقوا وخلقوا واختلقوا، وافتروا واحد.
وقال الليث: يقال: تخرق الكذب وتخلقه، وحكى صاحب الكشاف: أنه سئل الحسن عن هذه الكلمة فقال: كلمة عربية كانت تقولها.
كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم قد خرقها، والله أعلم.
ثم قال: ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه.
أي شقوا له بنين وبنات. اهـ.

.قال ابن عطية:

و{خرقوا} لجميع الكفار إذ فعل بعضهم هذا، وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد، وقرأ شعيب بن أبي حمزة {شركاء الجنِّ} بخفض النون، وقرأ يزيد بن قطيب وأبو حيوة الجن والجن بالخفض والرفع على تقديرهم الجن، وقرأ الجمهور {وخلَقهم} بفتح اللام على معنى وهو خلقهم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود {وهو خلقهم} يحتمل العودة على الجاعلين ويحتملها على المجعولين، وقرأ يحيى بن يعمر {وخلْقهم} بسكون اللام عطفًا على الجن أي جعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصنامًا شركاء بالله، وقرأ السبعة سوى نافع {وخرَقوا} بتخفيف للراء وهو بمعنى اختلفوا وافتروا وقرأ نافع {وخرّقوا} بتشديد الراء على المبالغة، وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما {وحرّفوا} مشددة الراء، وقوله: {بغير علم} نص على قبح تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل على عمى. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَخَرَّقُواْ} قراءة نافع بالتشديد على التكثير؛ لأن المشركين ادعوا أن لله بنات وهم الملائكة، وسَمَّوهم جِنًّا لاجتنانهم.
والنصارى ادعت المسيح ابن الله.
واليهود قالت: عزير ابن الله، فكثُر ذلك من كفرهم؛ فشُدّد الفعل لمطابقة المعنى.
تعالى الله عما يقولون.
وقرأ الباقون بالتخفيف على التقليل.
وسئل الحسن البصريّ عن معنى {وخرّقوا له} بالتشديد فقال: إنما هو {وخَرَقوا} بالتخفيف، كلمة عربية، كان الرجل إذا كذب في النادي قيل: خَرَقها وربِّ الكعبة.
وقال أهل اللغة: معنى خَرقوا اختلقوا وافتعلوا وخرّقوا على التكثير.
قال مجاهد وقَتادة وابن زيد وابن جُريج: خرقوا كذبوا.
ويقال: إن معنى خرق واخترق واختلق سواء؛ أي أحدث. اهـ.