فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {بَدِيعُ السماوات والأرض} أي مبدعهما؛ فكيف يجوز أن يكون له ولد.
و{بَدِيعُ} خبر ابتداء مضمر أي هو بديع.
وأجاز الكِسائيّ خفضه على النعت لِلَّه عز وجل، ونصبه بمعنى بديعا السموات والأرض.
وذا خطأ عند البصريين لأنه لِما مضى.
{أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} أي من أين يكون له ولد.
وولد كل شيء شبيهه، ولا شبيه له.
{وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} أي زوجة.
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} عموم معناه الخصوص؛ أي خلق العالم.
ولا يدخل في ذلك كلامه ولا غيره من صفات ذاته.
ومثله {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] ولم تسع إبليس ولا من مات كافرًا.
ومثله {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] ولم تدمر السموات والأرض. اهـ.

.قال أبو السعود:

{بَدِيعُ السموات والأرض} أي مُبدِعُهما ومخترعُهما بلا مثالٍ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه، فإن البديعَ كما يطلق على المُبدِع (بكسر الدال) يطلق على المبدَع (بفتح الدال) نصَّ عليه أئمة اللغة كالصريخ بمعنى المُصرِخ وقد جاء: بدَعَه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه، على ما ذُكر في القاموس وغيرِه، ونظيرُه السميعُ بمعنى المُسمِع في قوله:
أمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ

وقيل: هو من إضافة الصفةِ المشبهةِ إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبِه تشبيهًا لها باسم الفاعل كما هو المشهور أي بديعُ سمواتِه وأرضِه من بَدَع إذا كان على نمطٍ عجيبٍ وشكلٍ فائق وحُسنٍ رائقٍ، أو إلى الظرف كما في قولهم: ثبْتُ العذرِ بمعنى أنه عديمُ النظير فيهما، والأولُ هو الوجه، والمعنى أنه تعالى مبدعٌ لقطري العالم العلويِّ والسفليِّ بلا مادة فاعلٍ على الإطلاق منزّه عن الانفعال بالمرة، والوالدُ عنصرُ الولد منفعلٌ بانتقال مادتِه عنه فكيف يمكن أن يكون له ولد؟ وقرئ بديعَ بالنصب على المدح وبالجر على أنه بدلٌ من الاسم الجليل أو من الضمير المجرورِ في سبحانه على رأي من يُجيزه، وارتفاعُه في القراءة المشهورة على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أو فاعلُ تعالى، وإظهارُه في موضع الإضمارِ لتعليل الحكمِ، وتوسيطُ الظرفِ بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه، أو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} وهو على الأولَيْن جملةٌ مستقلةٌ مَسوقةٌ لما قبلها لبيان استحالةِ ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزُّهِه عنه وقوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} حال مؤكدةٌ للاستحالة المذكورة فإن انتفاءَ أن يكون له تعالى صاحبةٌ مستلزمٌ لانتفاء أن يكون له ولدٌ ضرورةَ استحالة وجودِ الولدِ بلا والدة، وإن أمكن وجودُه بلا والد، وانتفاءُ الأولِ مما لا ريب فيه لأحد فمن ضرورته انتفاءُ الثاني أي من أين أو كيف يكون له ولد كما زعموا والحالُ أنه ليس له على زعمهم أيضًا صاحبةٌ يكون الولدُ منها؟ وقرئ لم يكنْ بتذكير الفعل للفصل أو لأن الاسمَ ضميرُه تعالى، والخبرُ هو الظرفُ وصاحبةٌ مرتفعٌ به على الفاعلية لاعتماده على المبتدإ، أو الظرفُ خبرٌ مقدمٌ وصاحبةٌ مبتدأٌ مؤخرٌ والجملةُ خبرٌ للكون وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الاسمُ ضميرَ الشأنِ لصلاحية الجملةِ حينئذ لأن تكونَ مفسِّرةً لضمير الشأنِ لا على الوجه الأولِ لما بيّن في موضعه أن ضميرَ الشأنِ لا يفسَّر إلا بجملة صريحةٍ، وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شيء} إما جملةٌ مستأنفةٌ أخرى سيقت لتحقيق ما ذُكر من الاستحالة أو حالٌ أخرى مقرِّرةٌ لها أي أنى يكون له ولدٌ والحالُ أنه خلق كلَّ شيءٍ انتظمه التكوينُ والإيجادُ من الموجودات التي من جملتها ما سمَّوْه ولدًا له تعالى فكيف يُتَصوَّر أن يكون المخلوقُ ولدًا لخالقه؟ {وَهُوَ بِكُلّ شيء} مِنْ شأنه أن يُعلم كائنًا ما كان مخلوقًا أو غيرَ مخلوق كما ينبئ عنه تركُ الإضمار إلى الإظهار {عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلم أزلًا وأبدًا حسبما يُعرِبُ عنه العدولُ إلى الجملة الاسميةِ فلا يخفى عليه خافيةٌ مما كان وما سيكون من الذوات والصفاتِ والأحوالِ التي من جملتها ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز من المُحالات التي ما زعموه فردٌ من أفرادها، والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعةِ ببطلان مقالتِهم الشنعاءِ التي اجترأوا عليها بغير علم. اهـ.

.قال الألوسي:

{بَدِيعُ السموات والأرض} أي مبدعهما وموجدهما بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان قاله الراغب، وهو كما يطلق على المبدع يطلق على المبدع اسم مفعول، ومنه قيل: ركي بديع وكذلك البدع بكسر الباء يقال لهما.
وقيل: هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبه تشبيهًا لها باسم الفاعل كما هو المشهور أي بديع سمواته وأرضه من بدع إذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق أو إلى الظرف كما في قولهم فلان ثَبْتُ الغَدَرِ أي ثبت في الغدر وهو بغين معجمة ودال وراء مهملتين المكان ذو الحجارة والشقوق ويقولون ذلك إذا كان الرجل ثبتًا في قتال أو كلام.
والمراد من بديع في السموات والأرض أنه سبحانه عديم النظير فيهما.
ومعنى ذلك على ما قال بعض المحققين أن إبداعه لهما لا نظير له لأنهما أعظم المخلوقات الظاهرة فلا يرد أنه لا يلزم من نفي النظير فيهما نفيه مطلقًا، ولا حاجة إلى تكلف أنه خارج مخرج الرد على المشركين بحسب زعمهم أنه لا موجود خارج عنهما.
واختار غير واحد التفسير الأول، والمعنى عليه أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة فاعل على الإطلاق منزه عن الإنفعال بالكلية، والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه فكيف يمكن أن يكون له ولد؟.
وقرئ {بَدِيعُ} بالنصب على المدح والجر على أنه بدل من الاسم الجليل أو من الضمير المجرور في {سبحانه} [الأنعام: 100] على رأي من يجوزه، وارتفاعه على القراءة المشهورة على ثلاثة أوجه كما قال أبو البقاء، الأول: أنه خبر مبتدأ محذوف، والثاني: أنه فاعل {تَعَالَى} [الأنعام: 100] وإظهاره في موضع الإضمار لتعليل الحكم، وتوسيط الظرف بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه.
والثالث: أنه مبتدأ خبره قوله سبحانه: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} وهو على الأولين جملة مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالة ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزيهه عنه جل شأنه.
وقوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} حال مؤكدة للاستحالة المذكورة ضرورة أن الولد لا يكون بلا والدة أصلًا وإن أمكن وجوده بلا والد أي من أين أو كيف يكون له ولد والحال أنه ليس له صاحبة يكون الولد منها.
وقرأ إبراهيم النخعي {لَمْ يَكُنِ} بتذكير الفعل؛ وجاز ذلك مع أن المرفوع مؤنث للفصل كما في قوله:
لقد ولد الأخيطل أم سوء ** على قمع استها صلب وشام

قال ابن جنى: تؤنث الأفعال لتأنيث فاعلها لأنهما يجريان مجرى كلمة واحدة لعدم استغناء كل عن صاحبه فإذا فصل جاز تذكيره وهو في باب كان أسهل لأنك لو حذفتها استقل ما بعدها.
وقيل: إن اسم {يَكُنِ} ضميره تعالى والخبر هو الظرف و{صاحبة} مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ والظرف خبره مقدم و{صاحبة} مبتدأ والجملة خبر {يَكُونَ} وعلى هذا يجوز أن يكون الاسم ضمير الشأن لصلاحية الجملة حينئذ لأن تكون مفسرة للضمير لا على الأول لأنه كما بين في موضعه لا يفسر إلا بجملة صريحة، والاعتراض بأنه إذا كان العمدة في المفسرة مؤنثًا فالمقدر ضمير القصة لا الشأن فيعود السؤال ليس بوارد كعدم اللزوم وإن توهمه بعضهم.
وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شيء} استئناف لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال أخرى مقررة لها أي أنَّى يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدًا فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدًا لخالقه.
ويفهم من التفسير الكبير أن من زعم أن لله تعالى شأنه ولدًا إن أراد أنه سبحانه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة مثلًا رد بأن خلقه للسموات والأرض كذلك فيلزم كونهما ولدًا له تعالى وهو باطل بالاتفاق، وإن أراد ما هو المعروف من الولادة في الحيوانات رد أولًا بأنه لا صاحبة له وهي أمر لازم في المعروف.
وثانيًا بأن تحصيل الولد بذلك الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادرًا على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة أما من كان خالقًا لكل الممكنات وكان قادرًا على كل المحدثات فإذا أراد شيئًا قال له كن فيكون فيمتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة.
وإن أراد مفهومًا ثالثًا فهو غير متصور.
{وَهُوَ بِكُلّ شيء} من شأنه أن يعلم كائنًا ما كان مخلوقًا أو غير مخلوق كما ينبئ عنه ترك الإضمار إلى الإظهار {عَلِيمٌ} مبالغ في العلم أزلا وأبدًا حسبما يعرب عنه العدول إلى الجملة الإسمية، وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الولد قديمًا أو محدثًا لا جائز أن يكون قديمًا لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته وما كان كذلك كان غنيًا عن غيره فامتنع كونه ولدًا للغير فتعين كونه حادثًا، ولا شك أنه تعالى عالم بكل شيء فإما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالًا أو نفعًا أو يعلم أنه ليس كذلك، فإن كان الأول فلا وقت يفرض إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلًا قبله وهو يوجب كونه أزليًا وهو محال وإن كان الثاني وجب أن لا يحدث ألبتة في وقت من الأوقات.
وقرر الإمام عليه الرحمة الرد بهذه الجملة بوجه آخر أيضًا، وبعضهم جعل هذه الجملة مع ما قبلها متضمنة لوجه واحد من أوجه الرد، والجملة إما حالية أو مستأنفة، واقتصر بعضهم على الثاني فقال: إنها استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالتهم الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم.
والظاهر من هذا أن ما في الآية أدلة قطعية على بطلان ما زعمه المختلقون، وكلام الإمام حيث قال بعد تقرير الوجوه: لو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلامًا يساويه أي ما دلت عليه الآية في القوة والكمال لعجزوا عنه.
وادعى الشهاب أن ما يفهم من ذلك أدلة اقناعية، ولعل الأولى القول بأن البعض قطعي والبعض الآخر إقناعي فتدبر. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي: هو مبدع من غير مثال سبق لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة فعل على الإطلاق منزه عن الانفعال بالمرة والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه فكيف يكون له ولد فالفعيل بمعنى المفعل كالأليم والحكيم بمعنى المؤلم والمحكم والإضافة حقيقية وقيل هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سمواته وأرضه من بدع إذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق.
{أَنَّى يَكُونُ لَه وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّه صَاحِبَةٌ} أي: من أين أو كيف يوجد له ولد والحال أن أسباب الولادة منتفية فإن وجود الولد بلا والدة محال وإن أمكن بلا والد كعيسى عليه السلام والمراد بالصاحبة الزوجة.
{وَخَلَقَ كُلَّ شيء} انتظم بالتكوين والإيجاد من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدًا له تعالى فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدًا لخالقه {وَهُوَ بِكُلِّ شيء} من شأنه أن يعلم كائنًا ما كان مخلوقًا أو غير مخلوق.
{عَلِيمٌ} مبالغ في العلم أزلًا وأبدًا فلا يخفى عليه خافية مما كان وما سيكون من الذوات والصفات والأحوال التي من جملتها ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز من المحالات التي كان ما زعموه فردًا من أفرادها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} جملة مستأنفة وهذا شروع في الإخبار بعظيم قدرة الله تعالى، وهي تفيد مع ذلك تقوية التّنزيه في قوله: {سبحانه وتعالى عمّا يصفون} [الأنعام: 100] فتتنزّل منزلة التَعليل لمضمون ذلك التّنزيه بمضمونها أيضًا، وبهذا الوجه رَجَح فصلُها على عطفها فإنّ ما يصفونه هو قولهم: إنّ له ولدًا وبنات، لأنّ ذلك التّنزيه يتضمّن نفي الشيء المنزّه عنه وإبطاله، فعُلّل الإبطال بأنّه خالقُ أعظم المخلوقات دلالة على القدرة فإذا كنتم تدّعون بنوّة الجنّ والملائكة لأجل عظمتها في المخلوقات وأنتم لا ترون الجنّ ولا الملائكة فلماذا لم تدّعوا البنوّة للسماوات والأرض المشاهدة لكم وأنتم ترونها وترون عظمها.
فهذا الإبطال بمنزلة النّقض في علم الجدل والمناظرة.
وقوله: {بديع} خبر لمبتدأ ملتزم الحذف في مثله، وهو من حذف المسند إليه الجاري على متابعة الاستعمال عندما يتقدّم الحديث عن شيء ثمّ يعقّب بخبر عنه مفردٍ، كما تقدّم في مواضع.
وتقدّم الكلام على {بديع السّماوات والأرض} عند قوله تعالى: {بل له ما في السّماوات والأرض كلّ له قانتون بديع السّماوات والأرض} في سورة [البقرة: 116، 117].
والاستدلال على انتفاء البنوة عن الله تعالى بإبدَاع السّماوات والأرض لأنّ خلْق المحلّ يقتضي خلق الحالّ فيه، فالمشركون يقولون بأنّ الملائكة في السّماء وأنّ الجنّ في الأرض والفيافي، فيلزمهم حدوث الملائكة والجنّ وإلاّ لَوُجد الحالّ قبل وجود المحلّ، وإذا ثبت الحدوث ثبت انتفاء البنوّة لله تعالى، لأنّ ابن الإله لا يكون إلاّ إلهًا فيلزم قِدمه، كيف وقد ثبت حدوثه، ولذلك عقّب قولهم: {اتّخذ الله ولدًا} [البقرة: 116] بقوله: {سبحانه بل له ما في السّماوات والأرض كلّ له قَانِتُون} في سورة [البقرة: 116].
وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى: {الحمد لله الَّذي خلق السّماوات والأرض} في أوّل هذه السّورة [1].
وجملة {أنَّى يكون له ولد} تتنزّل منزلة التّعليل لمضمون التنزيه مِن الإبطال، وإنّما لم تعطف على الّتي قبلها لاختلاف طريق الإبطال لأنّ الجملة الأولى أبطلتْ دعواهم من جهة فساد الشّبهة فكانت بمنزلة النقْض في المناظرة.
وهذه الجملة أبطلت الدّعوى من جهة إبطال الحقيقة فكأنّها من جهة خطأ الدّليل، لأنّ قولهم بأنّ الملائكة بنات الله والجنّ أبناءُ الله يتضمّن دليلًا محذوفًا على البنوّة وهو أنّهم مخلوقات شريفة، فأبطل ذلك بالاستدلال بما ينافي الدّعوى وهو انتفاء الزّوجة الّتي هي أصل الولادة، فهذا الإبطال الثّاني بمنزلة المعارضة في المناظرة.
و{أنّى} بمعنى من أيْن وبمعنى كَيْف.
والواو في {ولم تكن له صاحبة} واو الحال لأنّ هذا معلوم للمخاطبين فلذلك جيء به في صيغة الحال.
والصّاحبة: الزّوجة لأنّها تصاحب الزّوج في معظم أحْواله.
وقد جعل انتفاء الزّوجة مسلّمًا لأنّهم لم يدعوه فلزمهم انتفاء الولد لانتفاء شرط التولّد، وهذا مبنيّ على المحاجّة العرفيّة بناء على ما هو المعلوم في حقيقة الولادة.
وقوله: {وخلَقَ كلّ شيء} عطف على جملة: {بديع السّماوات والأرض} باعتبار ظاهرها وهو التّوصيف بصفات العظمة والقدرة، فبعد أن أخبر بأنّه تعالى مبدع السّماوات والأرض أخبر أنّه خالق كلّ شيء، أي كلّ موجود فيشمل ذوات السّماوات والأرض، وشمل ما فيهما، والملائكة من جملة ما تحويه السّماوات، والجنّ من جملة ما تحويه الأرض عندهم، فهو خالق هذين الجنسين، والخالق لا يكون أبا كما علمتَ.
ففي هذه الجملة إبطال والولَد أيضًا، وهذا إبطال ثالث بطريق الكليّة بعد أن أبطل إبطالًا جزئيًا، والمعنى أنّ الموجودات كلّها متساوية في وصف المخلوقيّة، ولو كان له أولاد لكانوا غير مخلوقين.
وجملة: {وهو بكلّ شيء عليم} تذييل لإتمام تعليم المخاطبين بعض صفات الكمال الثّابتة لله تعالى، فهي جملة معطوفة على جملة: {وخلق كلّ شيء} باعتبار ما فيها من التوّصيف لا باعتبار الردّ.
ولكون هذه الجملة الأخيرة بمنزلة التّذييل عدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {بكلّ شيء} دون أن يقول به لأنّ التّذييلات يقصد فيها أن تكون مستقلّة الدّلالة بنفسها لأنّها تشبه الأمثال في كونها كلامًا جامعًا لمعان كثيرة. اهـ.