فصل: قال السيوطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السيوطي:

الصلاة تأتي على أوجه:
1- الصلوات الخمس: {ويقيمون الصلاة}.
2- وصلاة العصر: {تحبسونهما من بعد الصلاة}.
3- وصلاة الجمعة: {إذا نودي للصلاة}.
4- والجنازة: {ولا تصل على أحد منهم}.
5- والدعاء: {وصل عليهم}.
6- والدين: {أصلاتك تأمرك}.
7- والقراءة: {ولا تجهر بصلاتك}.
8- والرحمة والاستغفار: {إن الله وملائكته يصلون على النبي}.
9- ومواضع الصلاة: {وصلوات ومساجد} {لا تقربوا الصلاة}. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُمَا مِنْ صِفَات الْمُتَّقِينَ وَمِنْ شَرَائِط التَّقْوَى؛ كَمَا جَعَلَ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَبِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَسَائِرِ مَا لَزِمَنَا اعْتِقَادُهُ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، مِنْ شَرَائِطِ التَّقْوَى فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْآيَةِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي إقَامَةِ الصَّلَاةِ وُجُوهٌ: مِنْهَا إتْمَامُهَا مِنْ تَقْوِيمِ الشَّيْءِ وَتَحْقِيقِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ}.
وَقِيلَ يُؤَدُّونَهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ قِيَامٍ وَغَيْرِهِ، فَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْقِيَامِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ فُرُوضِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَى فُرُوضٍ غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} وَالْمُرَادُ الصَّلَاةُ الَّتِي فِيهَا الْقِرَاءَةُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} الْمُرَادُ الْقِرَاءَةُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَكَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} وَقَوْلُهُ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وَقَوْلُهُ: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} فَذَكَرَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهَا الَّذِي هُوَ مِنْ فُرُوضِهَا، وَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ فِيهَا وَعَلَى إيجَابِ مَا هُوَ مِنْ فُرُوضِهَا، فَصَارَ قَوْلُهُ: {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} مُوجِبًا لِلْقِيَامِ فِيهَا وَمُخْبَرًا بِهِ عَنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَيُحْتَمَلُ {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} يُدِيمُونَ فُرُوضَهَا فِي أَوْقَاتِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أَيْ فَرْضًا فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ لَهَا، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} يَعْنِي يُقِيمُ الْقِسْطَ وَلَا يَفْعَلُ غَيْرَهُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الشَّيْءِ الرَّاتِبِ الدَّائِمِ: قَائِمٌ، وَفِي فَاعِلِهِ: مُقِيمٌ يُقَالُ: فُلَان يُقِيمُ أَرْزَاقَ الْجُنْدِ.
وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَامَتْ السُّوقُ، إذَا حَضَرَ أَهْلُهَا؛ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ الِاشْتِغَالَ بِهَا عَنْ غَيْرِهَا وَمِنْهُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى اخْتِلَافِهَا تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً بِالْآيَةِ وَقَوْلُهُ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فِي فَحْوَى الْخِطَابِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ مِنْ النَّفَقَةِ، وَهِيَ الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} وَقَوْلُهُ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّهِ}.
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ مِنْهَا أَنَّهُ قَرَنَهَا إلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَإِلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَجَعَلَ هَذَا الْإِنْفَاقَ مِنْ شَرَائِط التَّقْوَى وَمِنْ أَوْصَافِهَا.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَفْرُوضُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ إذَا أُطْلِقَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ أَوْ شَرْطٍ يَقْتَضِي الصَّلَوَاتِ الْمَعْهُودَةَ الْمَفْرُوضَةَ كَقَوْلِهِ: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} و{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَرَادَ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ كَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْفَاقِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنْهُ وَلَمَّا مَدَحَ هَؤُلَاءِ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الرِّزْقِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُبَاحَ مِنْهُ دُونَ الْمَحْظُورِ، وَأَنَّ مَا اغْتَصَبَهُ وَظَلَمَ فِيهِ غَيْرَهُ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رِزْقًا لَهُ لَجَازَ إنْفَاقُهُ وَإِخْرَاجُهُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْغَاصِبَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِمَا اغْتَصَبَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا تُقْبَلُ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ».
وَالرِّزْقُ الْحَظُّ فِي اللُّغَةِ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أَيْ حَظَّكُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ التَّكْذِيبَ بِهِ، وَحَظُّ الرَّجُلِ هُوَ نَصِيبُهُ، وَمَا هُوَ خَالِصٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ مَا مَنَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ، وَهُوَ الْمُبَاحُ الطَّيِّبُ وَلِلرِّزْقِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَقْوَاتِ الْحَيَوَانِ؛ فَجَائِزٌ إضَافَةُ ذَلِكَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ قُوتًا وَغِذَاءً. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {يُؤْمِنُونَ}:
قَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَمِنْهَا تُؤْخَذُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَقِيقَةُ الْغَيْبِ وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَقِيقَةُ الْغَيْبِ وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ:
قَوْلُهُ: {بِالْغَيْبِ}:
وَحَقِيقَتُهُ مَا غَابَ عَنْ الْحَوَاسِّ مِمَّا لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْخَبَرِ دُونَ النَّظَرِ، فَافْهَمُوهُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلِ: مَا ذَكَرْنَاهُ كَوُجُوبِ الْبَعْثِ، وَوُجُودِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَعَذَابِهَا وَالْحِسَابِ.
الثَّانِي: بِالْقَدَرِ.
الثَّالِثِ: بِاَللَّهِ تَعَالَى.
الرَّابِعِ: يُؤْمِنُونَ بِقُلُوبِهِمْ الْغَائِبَةِ عَنْ الْخَلْقِ لَا بِأَلْسِنَتِهِمْ الَّتِي يُشَاهِدُهَا النَّاسُ، مَعْنَاهُ: لَيْسُوا بِمُنَافِقِينَ، وَكُلُّهَا قَوِيَّةٌ إلَّا الثَّانِي وَالثَّالِثَ فَإِنَّهُ يُدْرَكُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ، فَلَا يَكُونُ غَيْبًا حَقِيقَةً، وَهَذَا الْأَوْسَطُ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَإِنَّ مَخْرَجَهُ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَالْأَقْوَى هُوَ الْأَوَّلُ؛ أَنَّهُ الْغَيْبُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا لَا تَهْتَدِي إلَيْهِ الْعُقُولُ، وَالْإِيمَانُ بِالْقُلُوبِ الْغَائِبَةِ عَنْ الْخَلْقِ، وَيَكُونُ مَوْضِعُ الْمَجْرُورِ عَلَى هَذَا رَفْعًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ نَصْبًا، كَقَوْلِك: مَرَرْت بِزَيْدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مُقَدَّرًا نَصْبًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: جَعَلْتُ قَلْبِي مَحَلًّا لِلْإِيمَانِ، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ عَنْ الْخَلْقِ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَلَا بِحِمَى الذِّمَارِ، وَلَا يُوجِبُ لَهُ الِاحْتِرَامَ، إلَّا بِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الثَّلَاثِ؛ فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ وَلَا يَسْتَحِقُّ عِصْمَةً.
قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}:
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي ذِكْرِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ حَتَّى بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثَّانِي: أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي مُتَنَاوَلِ الصَّلَاةِ حَتَّى خَصَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ عَرَبِيٍّ يَرِدُ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل مُجْمَلٌ مَوْقُوفٌ بَيَانُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَحْدُودًا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ؛ فَإِنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ عز وجل بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ بَيَانِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مُجْمَلِهِ، فَلابد أَنْ يُوجَدَ، وَلَوْ فَرَضْنَا عَدَمَهُ لَارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَذَلِكَ تَحَقَّقَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي دُونِ هَذَا أَوْ مِثْلِهِ: ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهَا عَهْدًا نَنْتَهِي إلَيْهِ: الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا.
فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ، وَفُرِضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَنَزَلَ سَحَرًا جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَصَلَّى بِهِ وَعَلَّمَهُ، ثُمَّ وَرَدَتْ الْآيَاتُ بِالْأَمْرِ بِهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا؛ فَكَانَتْ وَارِدَةً بِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ، وَسَقَطَ مَا ظَنَّهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمَوْهُومِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ {وَيُقِيمُونَ}:
فِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: يُدِيمُونَ فِعْلَهَا فِي أَوْقَاتِهَا، مِنْ قَوْلِكَ: شَيْءٌ قَائِمٌ، أَيْ دَائِمٌ.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ يُقِيمُونَهَا بِإِتْمَامِ أَرْكَانِهَا وَاسْتِيفَاءِ أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ بِقوله: مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ.
قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}:
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اشْتِقَاقِ النَّفَقَةِ:
وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِتْلَافِ، وَلِتَأْلِيفِ نَفَقَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَعَانٍ، أَصَحُّهَا الْإِتْلَافُ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، يُقَالُ نَفِقَ الزَّادُ يَنْفَقُ إذَا فَنِيَ، وَأَنْفَقَهُ صَاحِبُهُ: أَفْنَاهُ، وَأَنْفَقَ الْقَوْمُ: فَنِيَ زَادُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وَجْهِ هَذَا الْإِتْلَافِ:
وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِالْمَدْحِ تَخَصَّصَ مِنْ إجْمَالِهِ جُمْلَةٌ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ التَّخْصِيصِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلِ: أَنَّهُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
الثَّالِثِ: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
الرَّابِعِ: أَنَّهُ وَفَاءُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ الْعَارِضَةِ فِي الْمَالِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مَا عَدَا الزَّكَاةَ.
الْخَامِسِ: أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ.
التَّوْجِيهُ: أَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الزَّكَاةُ فَنَظَرَ إلَى أَنَّهُ قُرِنَ بِالصَّلَاةِ، وَالنَّفَقَةُ الْمُقْتَرِنَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ هِيَ الزَّكَاةُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِهِ فَلِأَنَّهُ أَفْضَلُ النَّفَقَةِ.
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: عِنْدِي دِينَارٌ: قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك» قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ»، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَبَدَأَ بِالْأَهْلِ بَعْدَ النَّفْسِ.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرَابَةِ صَدَقَةً وَصِلَةً وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَنَظَرَ إلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَأْتِي إلَّا بِلَفْظِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا، وَهُوَ الزَّكَاةُ، فَإِذَا جَاءَتْ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ احْتَمَلَتْ الْفَرْضَ وَالتَّطَوُّعَ، وَإِذَا جَاءَتْ بِلَفْظِ الْإِنْفَاقِ لَمْ يَكُنْ إلَّا التَّطَوُّعُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ فِي الْحُقُوقِ الْعَارِضَةِ فِي الْأَمْوَالِ مَا عَدَا الزَّكَاةَ فَنَظَرَ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ كَانَ فَرْضًا، وَلَمَّا عَدَلَ عَنْ لَفْظِهَا كَانَ فَرْضًا سِوَاهَا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ فَنَظَرَ إلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِهَذَا الْوَجْهِ فَرْضًا سِوَى الزَّكَاةِ، وَجَاءَتْ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فَنَسَخَتْ كُلَّ صَدَقَةٍ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا نَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ، وَنَسَخَتْ الصَّلَاةُ كُلَّ صَلَاةٍ.
وَنَحْوُ هَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ التَّنْقِيحُ: إذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ الْمُنْصِفُ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ تَحَقَّقَ أَنَّ الصَّحِيحَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} كُلُّ غَيْبٍ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَائِنٌ، وَقَوْلُهُ: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا.
وَقَوْلُهُ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} عَامٌّ فِي كُلِّ نَفَقَةٍ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ هَذَا الْكَلَامِ الْقَضَاءُ بِفَرْضِيَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا عَلِمْنَا الْفَرْضِيَّةَ فِي الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِمُطْلَقِهِ يَقْتَضِي مَدْحَ ذَلِكَ كُلِّهِ خَاصَّةً كَيْفَمَا كَانَتْ صِفَتُهُ. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
الْإِيمَانُ: هُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الْمُقْتَرِنُ بِإِذْعَانِ النَّفْسِ وَقَبُولِهَا وَاسْتِسْلَامِهَا، وَآيَتُهُ الْعَمَلُ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ عِنْدَ عَدَمِ الصَّارِفِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْيَقِينِ، وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْهُمْ، كَذَاتِ اللهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الرُّوحِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مُمْكِنٍ. وَلِلصَّلَاةِ صُورَةٌ وَرُوحٌ، فَصُورَتُهَا عِبَادَةُ الْأَعْضَاءِ، وَرُوحُهَا عِبَادَةُ الْقَلْبِ- كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي- وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مُطْلَقًا، وَمَا بَعْدَهَا فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَفَسَّرَهُمَا شَيْخُنَا تَفْسِيرًا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَدْلُولِ النَّظْمِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: النَّاسُ قِسْمَانِ: مَادِّيٌّ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا بِالْحِسِّيَاتِ، وَغَيْرُ مَادِّيٍّ يُؤْمِنُ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ، أَيْ بِمَا غَابَ عَنِ الْمَشَاعِرِ مَتَى أَرْشَدَ إِلَيْهِ الدَّلِيلُ أَوِ الْوِجْدَانُ السَّلِيمُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ- وَهِيَ جُنُودٌ غَائِبَةٌ لَهَا مَزَايَا وَخَوَاصُّ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: إِيمَانٌ بِالْغَيْبِ. وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِالْقُرْآنِ، وَمَنْ يَتَصَدَّى لِهِدَايَتِهِ لابد لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا تَتَحَقَّقُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا بِهَا ثُمَّ يُقْنِعُهُ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هِدَايَةٌ مِنْ لَدُنْهُ تَعَالَى. لِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ: هُوَ الِاعْتِقَادُ بِمَوْجُودٍ وَرَاءَ الْمَحْسُوسِ.
وَقَدْ كَتَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي صَاحِبِهِ مَا نَصَّهُ:
وَصَاحِبُ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَاقِفٌ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَقَائِمٌ عَلَى أَوَّلِ النَّهْجِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الْمَسْلَكِ، وَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ إِلَى الْغَايَةِ، فَإِنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ بِأَنَّ وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ مَوْجُودَاتٍ يُصَدِّقُ بِهَا الْعَقْلُ- وَإِنْ كَانَتْ لَا يَأْتِي عَلَيْهَا الْحِسُّ- إِذَا أَقَمْتَ لَهُ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُسْتَعْلِي عَنِ الْمَادَّةِ وَلَوَاحِقِهَا، الْمُتَّصِفِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، سَهُلَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَخَفَّ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَلِيِّ الْمُقَدِّمَاتِ وَخَفِيِّهَا، وَإِذَا جَاءَ الرَّسُولُ بِوَصْفِ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَوْ بِذِكْرِ عَالَمٍ مِنَ الْعَوَالِمِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهَا، كَعَالَمِ الْمَلَائِكَةِ- مَثَلًا- لَمْ يَشُقَّ عَلَى نَفْسِهِ تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ بَعْدَ ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ، لِهَذَا جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْوَصْفَ فِي مُقَدِّمَةِ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَجِدُونَ فِي الْقُرْآنِ هُدًى لَهُمْ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْمَوْجُودِ إِلَّا الْمَحْسُوسَ وَيَظُنُّ أَنْ لَا شَيْءَ وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، فَنَفْسُهُ تَنْفِرُ مِنْ ذِكْرِ مَا وَرَاءَ مَشْهُودِهِ أَوْ مَا يُشْبِهُ مَشْهُوُدَهُ، وَقَلَّمَا تَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى قَلْبِهِ إِذَا بَدَأْتَهُ بِدَعْوَاكَ، نَعَمْ قَدْ تُوصِلُكَ الْمُجَاهَدَةُ بَعْدَ مُرُورِ الزَّمَانِ فِي إِيرَادِ الْمُقَدِّمَاتِ الْبَعِيدَةِ، وَالْأَخْذِ بِهِ فِي الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، إِلَى تَقْرِيبِهِ مِمَّا تَطْلُبُ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَنْصُرَكَ الصَّبْرُ، أَوْ يُخْضِعَهُ الْقَهْرُ حَتَّى يَتِمَّ لَكَ مِنْهُ الْأَمْرُ، فَمِثْلُ هَذَا إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ نَبَا عَنْهُ سَمْعُهُ، وَلَمْ يَجْمُلْ مِنْ نَفْسِهِ وَقْعُهُ، فَكَيْفَ يَجِدُ فِيهِ هِدَايَةً أَوْ مُنْقِذًا مِنْ غَوَايَةٍ؟.
وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ عِنْدَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِسْلَامِ التَّقْلِيدِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْخُذْ مِنَ النَّفْسِ إِلَّا مَا أَخَذَ اللَّفْظُ مِنَ اللِّسَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ تَحْتَ نَظَرِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَلْحَظْهُ وُجْدَانُ الْقَلْبِ، بَلْ أُغْلِقَتْ عَلَيْهِ خِزَانَةُ الْوَهْمِ، وَمِثْلُ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ إِيمَانًا لَا يُفِيدُ فِي إِعْدَادِ الْقَلْبِ لِلِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، لَمَّا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِبَيَانٍ يُشْعِرُ بِحَقِيقَةِ مَا أَرَادَهُ تَعَالَى مِنْ مَعْنَى الْإِيمَانِ فَذَكَرَ عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِدَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْجُمَلِ الْآتِيَةِ، قَالَ: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} إِلَخْ، الصَّلَاةُ: إِظْهَارُ الْحَاجَةِ وَافْتِقَارٌ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمُ الصَّلَاةُ مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ لِأَنَّ إِظْهَارَ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَظِيمِ الْكَرِيمِ وَلَوْ بِالْفِعْلِ فَقَطِ الْتِمَاسٌ لِلْحَاجَةِ وَاسْتِدْرَارٌ لِلنِّعْمَةِ، أَوْ طَلَبٌ لِدَفْعِ النِّقْمَةِ، أَرَأَيْتُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَقِفُونَ بَيْنَ أَيْدِي الْمُلُوكِ نَاكِسِي رُءُوسِهِمْ حَانِيِي ظُهُورِهِمْ، وَتَارَةً يَقَعُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ يُقَبِّلُونَهَا، أَلَيْسَ الْبَاعِثَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ إِمَّا خَوْفٌ مِنْ عُقُوبَةٍ يَطْلُبُونَ بِهِ دَفْعَهَا، وَإِمَّا حَذَرٌ عَلَى نِعْمَةٍ يَتَوَقَّوْنَ سَلْبَهَا وَرَفْعَهَا، فَيَلْتَمِسُونَ بَقَاءَهَا وَيَرْجُونَ زِيَادَتَهَا وَنَمَاءَهَا؟
هَذِهِ الصَّلَاةُ كَانَتْ تُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ الْجَاهِلِيِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْحَنِيفِيِّينَ وَالْحُنَفَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَكَتَبَ الْأُسْتَاذُ فِي وَصْفِهَا مَا نَصُّهُ:
وَالصَّلَاةُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ فِي أَفْضَلِ أَشْكَالِهِ وَهُوَ تِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ الْمُفْتَتَحَةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْمُخْتَتَمَةَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَعْبُودِ، وَشُعُورِ الْأَنْفُسِ بِعَظَمَتِهِ لَوْ أَقَامَهَا الْمُصَلُّونَ وَأَتَوْا بِهَا عَلَى وَجْهِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} وَلَمْ يَقُلْ: يُصَلُّونَ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَتَى حُدِّدَتْ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ يُقَالُ لِمَنْ يُؤَدِّيهَا بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ: إِنَّهُ صَلَّى، وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ هَذَا خَلْوًا مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَقِوَامِهَا الْمَقْصُودِ مِنَ الْهَيْئَةِ الظَّاهِرَةِ، فَاحْتِيجَ إِلَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ قِوَامُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِلَفْظِ الْإِقَامَةِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا مِنْ كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ وَالسُّنَنِ. وَهُوَ لَا يَعْدُو وَصْفَ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنَّمَا قِوَامُ الصَّلَاةِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْإِقَامَةِ: هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَالْخُشُوعُ الْحَقِيقِيُّ لَهُ، وَالْإِحْسَاسُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى.
وَكَتَبَ شَيْخُنَا عِنْدَ تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ هُنَا بِمَا تَقَدَّمَ أَخْذًا عَنْهُ مَا نَصُّهُ:
فَإِذَا خَلَتْ صُورَةُ الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْمُصَلِّي أَنَّهُ أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ قَدْ هَدَمَهَا بِإِخْلَائِهَا مِنْ عِمَادِهَا، وَقَتَلَهَا بِسَلْبِهَا رُوحَهَا، وَمِنْ غَرِيبِ مَزَاعِمِ مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ: أَنَّ حُضُورَ الْقَلْبِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَاسْتِشْعَارِ الْخَشْيَةِ مِنْ أَصْعَبِ مَا تَتَجَشَّمُهُ النَّفْسُ، بَلْ يَكَادُ مُسْتَحِيلًا لِغَلَبَةِ الْخَوَاطِرِ عَلَى ذِهْنِ الْمُصَلِّي.
هَذَا- وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا جُحُودًا لِمَعْنَى الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهُمْ هَذَا الْوَهْمُ الْبَاطِلُ مِنْ شِدَّةِ الْغَفْلَةِ وَاسْتِحْكَامِ الْعِلَّةِ، وَإِنِّي أَدُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ لَوْ أَخَذُوا بِهَا لَشُغِلُوا بِمَعْنَى الصَّلَاةِ حَتَّى عَنِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا، تِلْكَ الطَّرِيقَةُ: هِيَ أَلَّا يَنْطِقَ الْمُصَلِّي بِلَفْظٍ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَوْرِدُ مَعْنَاهُ عَلَى ذِهْنِهِ، فَإِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يَسْتَحْضِرُ مَعْنَى الْحَمْدِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى ذَاتِ اللهِ تَعَالَى، مَعَ وَصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْأَكْوَانِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَإِذَا قَالَ مِثْلَ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} تَصَوَّرَ مَعْنَى الْمُلْكِ وَتَعَلُّقَهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَهَكَذَا- فَإِذَا أَخَذَ الْمُصَلِّيَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَعَانِيَ مِنْ أَلْفَاظِهَا الَّتِي يَنْطِقُ بِهَا فَقَدْ أَقَامَ الصَّلَاةَ، أَمَّا وَهُوَ يَنْطِقُ وَلَا يَفْقَهُ، وَلَا يَلْحَظُ بِذِهْنِهِ مَعْنَى لَفْظِ مَا يَقُولُ، فَكَيْفَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُصَلِّي، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ؟.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أَقُولُ: الرِّزْقُ فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ وَالْعَطَاءُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، كَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَيُخَصُّ بِأُمُورِ الْمَعَاشِ بِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ لَفْظِيَّةٍ، وَقَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ: الرِّزْقُ مَا انْتُفِعَ بِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، وَخَصَّهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْحَلَالِ، وَنَفَاقُ الشَّيْءِ: كَنَفَادِهِ، وَأَنْفَقَهُ: جَعَلَهُ يَنْفُقُ بِصَرْفِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْإِنْفَاقَ هُنَا يَشْمَلُ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَذِي الْقُرْبَى وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، إِذِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ تَكُونُ بَعْضَ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ لَا كُلَّ مَا يَمْلِكُ- فَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الِاقْتِصَادِ، وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَظْهَرُ آيَاتِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَقَالَ شَيْخُنَا شَارِحًا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَتِهِ بِمَا مِثَالُهُ:
هَذَا الْوَصْفُ مِنْ أَقْوَى أَمَارَاتِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَأْتُونَ بِضُرُوبِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَمَتَى عَرَضَ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي بَذْلَ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى يُمْسِكُونَ وَلَا تَسْمَحُ أَنْفُسُهُمْ بِالْبَذْلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا مَا يَكُونُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَلَا مَا يُسَمُّونَهُ بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ، كَقِرَى الضُّيُوفِ ابْتِغَاءَ عِوَضٍ كَالشُّهْرَةِ وَالْجَاهِ، أَوِ الْأُنْسِ بِالْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِنْفَاقُ النَّاشِئُ عَنْ شُعُورٍ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي رَزَقَهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَأَنَّ الْفَقِيرَ الْمَحْرُومَ عَبْدُ اللهِ مِثْلُهُ، وَأَنَّهُ حُرِمَ مِنْ سَعَةِ الْعَيْشِ لِضَعْفٍ أَوْ حِرْمَانٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى الرِّزْقِ أَوْ عَنْ إِحْسَاسٍ بِأَنَّ مَصْلَحَةً مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْفَعَةً مِنْ مَنَافِعِهِمُ الْعَامَّةِ لَا تَقُومُ أَوْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِبَذْلِ الْمَالِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ عَلَى مَنْ أُوتِيَ الْمَالَ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ السَّبِيلِ وَهُوَ أَفْضَلُ سُبُلِ اللهِ فَمَنْ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ دَاعِيَةً لِبَذْلِ أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ- وَهُوَ مَالُهُ- ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَقِيَامًا بِشُكْرِهِ، وَرَحْمَةً لِأَهْلِ الْعَوَزِ وَالْبَائِسِينَ مِنْ خَلْقِهِ، فَهُوَ لَا شَكَّ مُسْتَعِدٌّ لِقَبُولِ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ أَتَمَّ الِاسْتِعْدَادَ، حَتَّى إِذَا مَا دُعِيَ إِلَيْهِ لَبَّى وَأَجَابَ، وَأَسْلَمَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَأَنَابَ.
فَهَذَا بَيَانُ حَالِ الْفِرْقَةِ الْأَوْلَى مِمَّنْ يَهْتَدِي بِالْقُرْآنِ فِعْلًا، وَيَشْمَلُهَا لَفْظُ الْمُتَّقِينَ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ، وَكَانَ مِنْهُمْ بَعْضُ الْعَرَبِ الْحُنَفَاءِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ الصُّلَحَاءِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ أَنَّهَا مُسْتَعِدَّةٌ لِقَبُولِهِ، وَمُهَيَّأَةٌ لِلِاسْتِرْشَادِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْإِجْمَالِيَّ بِاللهِ وَبِحَيَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ يُوَفَّى النَّاسُ فِيهَا أُجُورَهُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَاتِّقَاءَ مَا يَحُولُ دُونَ السَّعَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ النَّاقِصِ وَالتَّعْلِيمِ الَّذِي لَمْ يَقْتَنِعْ بِهِ الْعَقْلُ، وَلَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَقَدْ هَيَّأَهُمْ لِقَبُولِ الْقُرْآنِ وَأَنْ يَقْتَبِسُوا مِنْ نُورِهِ مَا يَذْهَبُ بِظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْحَيْرَةِ، وَيَمْنَحُ الْأَرْوَاحَ مَا تَتَشَوَّفُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ. اهـ.