فصل: المقام الثاني في وقوع الرؤية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن هذا الدليل يوجب أن يصح رؤية كل موجود كالأصوات والروائح والملموسات والطعوم.
والشيخ الأشعري يلتزمه.
ويقول لا يلزم من صحة الرؤية لشيء تحقق الرؤية له.
وإنما لا نرى هذه الأشياء التي ذكرتموها لجريان العادة من الله بذلك أي بعدم رؤيتها.
فإنه تعالى أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ولا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.
والخصم يشدد عليه النكير أي الإنكار.
ويقول هذه مكابرة محضة وخروج عن حيز العقل بالكلية ونحن نقول ما هو أي إنكاره إلا استبعاد ناشيء عما هو معتاد في الرؤية.
والحقائق أي الأحكام الثابتة المطابقة للواقع لا تؤخذ من العادات بل مما تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات.
ولا شبهة في أن الرؤية بالمعنى الذي حققناه فيما سلف ليست ممتنعة في سائر المحسوسات.
ثم الاعتراض عليه بعد النقض المذكور من وجوه:
الأول لا نسلم أنا نرى العرض والجوهر معا بل المرئي هو الأعراض فقط.
قولك نرى الطول والعرض وهما جوهران.
قلنا الحكم برؤيتهما صحيح ولكن المرجع بهما إلى المقدار.
فإنه عرض قائم بالجسم.
والجواب إنا قد أبطلنا ذلك أي كونهما مقدارا قائما بالجسم بما فيه كفاية فإن وجود المقدار الذي هو عرض مبني على نفي الجزء وتركب الجسم من الهيولى والصورة.
وقد مر بطلانه بما لا حاجة إلى إعادته.
ونزيد هاهنا لإبطال وجود المقدار العرضي أنا لو فرضنا تألف الأجزاء من السماء.
إلى الأرض فإنا نعلم بالضرورة كونها طويلة جدا وإن لم يخطر ببالنا شيء من الأعراض فعلم أنه لا حاجة في الطول إلى شيء سوى الأجزاء.
فالمرئي هو تلك الأجزاء لا عرض قائم بها.
وأيضا فالامتداد الحاصل فيما بين الأجزاء شرط لقيام العرض الواحد الذي هو المقدار بها.
وإلا لقام المقدار الواحد بها أي بتلك الأجزاء وإن كانت متناثرة متفاصلة.
وهو ضروري البطلان.
وإذا كان الامتداد شرطا لقيام المقدار العرضي بالأجزاء فلا يكون الامتداد عرضا قائما بها.
وإلا لزم اشتراط الشيء بنفسه.
فمرجع الطول إلى الأجزاء المتألفة في سمت مخصوص فرأيته رؤية تلك الأجزاء المتحيزة، وهو المطلوب.
الثاني من وجوه الاعتراض لا نسلم احتياج الصحة إلى علة لأنها الإمكان.
والإمكان عدمي لما تقدم في باب الإمكان والعدمي لا حاجة به إلى علة.
والجواب جدلا المعارضة بما سبق فيه.
أي في باب الإمكان من الأدلة الدالة على كونه وجوديا والجواب تحقيقا أن المراد بعلة صحة الرؤية كما صرح به الآمدي ما يمكن أن يتعلق به الرؤية لا ما يؤثر في الصحة.
واحتياج الصحة سواء كانت وجودية أو عدمية إلى العلة بمعنى متعلق الرؤية ضروري.
ونعلم أيضا بالضرورة أنه أي متعلق الرؤية أمر موجود لأن المعدوم لا تصح رؤيته قطعا.
الثالث من تلك الوجوه لا نسلم أن علة صحة الرؤية يجب أن تكون مشتركة.
أما أولا فلأن صحة الرؤية ليست أمرا واحدا بالشخص، وهو ظاهر.
بل نقول صحة رؤية الأعراض لا تماثل صحة رؤية الجواهر إذ المتماثلان ما يسد كل منهما مسد الآخر.
ورؤية الجسم لا تقوم مقام رؤية العرض ولا بالعكس إذ يستحيل أن يرى الجسم عرضا أو العرض جسما.
وأما ثانيا فلجواز تعليل الواحد بالنوع بالعلل المختلفة لما مر في مباحث العلل والمعلولات.
فعلى تقدير تماثل الصحتين جاز تعليلهما بعلتين مختلفتين.
والجواب قد ذكرنا أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها.
والمدعي أن متعلقها ليس خصوصية واحد منهما أي من الجوهر والعرض فإنا نرى الشبح من بعيد ولا ندرك منه إلا أنه هوية ما من الهويات.
وأما خصوصية تلك الهوية وجوهريتها وعرضيتها فلا ندركها فضلا عن إدراك أنها أي جوهر أو عرض هي.
وإذا رأينا زيدا فإنا نراه رؤية واحدة متعلقة بهويته.
ولسنا نرى أعراضه من اللون والضوء كما تقوله الفلاسفة حيث يزعمون أن المرئي بالذات هو الألوان والأضواء.
وأما الأجسام فهي مرئية بالعرض والتبعية بل نرى هويته ثم ربما نفصله إلى جواهر هي أعضاؤه وإلى أعراض تقوم بها أي بتلك الجواهر.
وربما نغفل عن ذلك التفصيل حتى لو سئلنا عن كثير منها أي من تلك الجواهر والأعراض لم نعلمها ولم نكن قد أبصرناها.
إذ كنا أي زمان كنا أبصرنا الهوية.
ولو لم يكن متعلق الرؤية هو الهوية التي بها الاشتراك بين خصوصيات الهويات بل كان متعلق الرؤية الأمر الذي به الافتراق بينها.
أعني خصوصية هوية زيد مثلا لما كان الحال كذلك لأن رؤية الهوية المخصوصة الممتازة تستلزم الاطلاع على خصوصيات جواهرها وأعراضها.
فلا تكون مجهولة لنا.
فقد تحقق أن متعلق الرؤية هو الهوية العامة المشتركة بين الجواهر والأعراض وبين الباري سبحانه وتعالى، فتصح رؤيته.
الرابع من وجوه الاعتراض لا نسلم أن المشترك بينهما أي الجوهر والعرض ليس إلا الوجود والحدوث، فإن الإمكان أيضا مشترك بينهما وكذا المذكورية والمعلومية وسائر المفهومات العامة.
والجواب أنا قد بينا أن متعلق الرؤية الذي فسرنا به علة الصحة هو ما يختص بالموجود، وإلا لصح رؤية المعدوم والإمكان ليس كذلك لشموله الموجود والمعدوم، وكذا سائر المفهومات الشاملة لهما.
فلا يصح شيء منهما متعلقا للرؤية وما لا يعلم لا يكون متعلق الرؤية لأن متعلقها يجب أن يكون معلوما لكونه مدركا بالبصر والذي نعلمه فيهما.
أي في الجوهر والعرض الموجودين خصوصية كل منهما.
وقد أبطلنا تعلق الرؤية بها ولم يبق لتعلقها إلا المشترك بينهما.
وهو الوجود إما مع خصوصية بها يمتاز كل منهما عن القديم.
وإنما هو مطلق الحدوث وقد أبطلناه أيضا.
وإما بدون ذلك وهو مطلق الوجود وبذلك يتم المطلوب.
الخامس لا نسلم أن الحدوث لا يصلح سببا لصحة الرؤية؛ فإن صحة الرؤية عدمية فجاز كون سببها كذلك أي عدميا.
والجواب ما سبق من أن المراد بسبب الصحة متعلق الرؤية لا ما يؤثر فيها ولا شك في أنه لا يصلح العدم لذلك أي لكونه متعلق الرؤية.
فإن قيل ليس الحدوث هو العدم السابق كما ذكرتم بل مسبوقية الوجود بالعدم فلا يكون عدميا.
قلنا وذلك أي كون الوجود مسبوقا بالعدم أمر اعتباري لا يرى ضرورة.
وإلا لم يحتج حدوث الأجسام إلى دليل لكونه مدركا محسوسا.
السادس لا نسلم أن الوجود مشترك بين الواجب والممكن.
كيف وقد جزمتم القول بأن وجود كل شيء نفس حقيقته.
وكيف تكون حقائق الأشياء مشتركة حتى تكون حقيقة القديم مثل حقيقة الحادث وحقيقة الفرس مثل حقيقة الإنسان بل تكون جميع الموجودات مشتركة في حقيقة واحدة هي تمام ماهية كل واحد منها، وذلك مما لا يقول به عاقل.
فوجب أن يكون الاشتراك في الوجود عندكم لفظيا لا معنويا كما علم في صدر الكتاب.
وقد أجاب الآمدي عن هذا السؤال بأن المتمسك بهذا الدليل إن كان ممن يعتقد كون الوجود مشتركا كالقاضي وجمهور الأصحاب لم يرد عليه ما ذكرتموه.
وإن كان ممن لا يعتقده كالشيخ فهو بطريق الإلزام.
ولا يجب كون الملزوم معتقدا لما تمسك به.
ولما لم يكن هذا مرضيا عند المصنف قال والجواب أنه لا معنى للوجود إلا كون الشيء له هوية لما عرفت من أن الوجود الخارجي ليس إلا كون الماهية ممتازة بحسب الهوية الشخصية وذلك أي كون الشيء ذا هوية يمتاز بها أمر مشترك بين الموجودات بأسرها بالضرورة.
وما ذكرتم مما به الافتراق كالإنسانية والفرسية وغيرهما وألزمتم الاشتراك فيه على تقدير اشتراك الموجود على مذهبنا فشيات الأشياء أي خصوصياتها التي يمتاز بها بعضها عن بعض وهي هيئات وخصوصيات للهويات المتمايزة بذواتها.
وإن عاقلا لا يقول بالاشتراك فيها ولا بما يستلزم هذا الاشتراك استلزاما مكشوفا لا سترة به.
فما ذكره الشيخ من أن وجود كل شيء عين حقيقته لم يرد به أن مفهوم كون الشيء ذا هوية هو بعينه مفهوم ذلك الشيء حتى يلزم من الاشتراك في الأول الاشتراك في الثاني بل أراد أن الوجود ومعروضه ليس لهما هويتان متمايزتان تقوم إحداهما بالأخرى كالسواد بالجسم.
وقد عرفت أن هذا هو الحق الصريح.
فالاتحاد الذي ادعاه الشيخ على ما مر في الأمور العامة إنما هو باعتبار ما صدقا عليه.
وذلك لا ينافي اشتراك مفهوم الوجود.
فلا منافاة بين كون الوجود عين الماهية بالمعنى الذي صورناه وبين اشتراكه بين الخصوصيات المتمايزة بذواتها.
والأكثرون توهموا أن ما نقل عنه من أن الوجود عين الماهية ينافي دعوى اشتراكه بين الموجودات.
إذ يلزم منهما معا كون الأشياء كلها متماثلة متفقة الحقيقة، وهو باطل.
فلذلك قال واعلم أن هذا المقام مزلة للأقدام مضلة للأفهام.
وهذا الذي حققناه لك هو غاية ما يمكن فيه من التقرير والتحرير لم نأل فيه جهدا ولم ندخر نصحا.
وعليك بإعادة التفكر وإمعان التدبر والثبات عند البوارق اللامعة من الأفكار وعدم الركون إلى أول عارض يظهر ببادئ الرأي كما ركن إليه من حكم بأن كلام الشيخ في مباحث الرؤية حيث ادعى اشتراك الوجود ينافي ما تقدم حيث قال وجود كل شيء عينه ولله العون والمنة في إدراك الحقائق والاهتداء إلى الدقائق.
السابع من الاعتراضات لا نسلم أن علة صحة الرؤية إذا كانت موجودة في القديم كانت صحة الرؤية ثابتة فيه كما في الحوادث لجواز أن تكون خصوصية الأصل شرطا أو خصوصية الفرع مانعا.
والجواب تعلمه مما قدمناه إليك وهو بيان أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها.
وأن متعلقها هو الوجود مطلقا.
أعني كون الشيء ذا هوية ما لا خصوصيات الهويات والوجودات كما في الشبح المرئي من بعيد بلا إدراك لخصوصيته.
وإذا كان متعلقها مطلق الهوية المشتركة لم يتصور هناك اشتراط بشرط معين ولا تقييد بارتفاع مانع.
ولقد بالغ المصنف في ترويج المسلك العقلي لإثبات صحة رؤيته تعالى.
لكن لا يلتبس على الفطن المنصف أن مفهوم الهوية المطلقة المشتركة بين خصوصيات الهويات أمر اعتباري كمفهوم الماهية والحقيقية فلا تتعلق بها الرؤية أصلا.
وأن المدرك من الشبح البعيد هو خصوصيته الموجودة.
إلا أن إدراكها إجمالي لا يتمكن به على تفصيلها.
فإن مراتب الإجمالي متفاوتة قوة وضعفا كما لا يخفى على ذي بصيرة.
فليس يجب أن يكون كل إجمال وسيلة إلى تفصيل أجزاء المدرك وما يتعلق به من الأحوال.
ألا ترى إلى قولك كل شيء فهو كذا.
وفي هذا الترويج تكلفات اخر يطلعك عليها أدنى تأمل.
فإذن الأولى ما قد قيل من أن التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذر فلنذهب إلى ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي من التمسك بالظواهر النقلية وقد مر عمدتها.

.المقام الثاني في وقوع الرؤية:

أن المؤمنين سيرون ربهم يوم القيامة أي في الدار الآخرة.
قال الإمام الرازي مستدلا على وقوع الرؤية:
الأمة في هذه المسألة على قولين فقط:
الأول يصح ويرى.
والثاني لا يرى ولا يصح.
وقد أثبتنا أنه يصح.