فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {وليقُولوا دَرَسْتَ} معطوف على {وكذلك نصرّف الآيات}.
وقد تقدّم بيان معنى هذا العطف في نظيره في قوله تعالى: {وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} من هذه السّورة [55].
ولكن ما هنا يخالف ما تقدّم مخالفة مَّا فإنّ قول المشركين للرّسول عليه الصلاة والسلام {درستَ} لا يناسب أن يكون علّة لتصريف الآيات، فتعيَّن أن تكون اللاّم مستعارة لمعنى العاقبة والصيرورة كالّتي في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكونَ لهم عدوًّا وحزنًا} [القصص: 8].
المعنى: فكان لهم عدوًّا.
وكذلك هنا، أي نصرّف الآيات مثلَ هذا التّصريف الساطع فيحسبونك اقتبسته بالدّراسة والتّعليم فيقولوا: دَرَسْتَ.
والمعنى: أنّا نصرّف الآيات ونبيّنها تبيينًا من شأنه أن يصدر من العَالِم الَّذي دَرَس العلم فيقول المشركون دَرستَ هذا وتَلَقَّيتَه من العلماء والكُتب، لإعراضهم عن النّظر الصّحيح الموصل إلى أنّ صدور مثل هذا التَّبيين من رجل يعلمونه أمِّيًّا لا يكون إلاّ من قِبل وحي من الله إليه، وهذا كقوله: {ولقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلّمه بشر} [النحل: 103] وهم قد قالوا ذلك من قَبْل ويقولونه ويزيدون بمقدار زيادة تصريف الآيات، فشُبّه ترَتُّب قولهم على التّصريف بترتّب العلّة الغائيَّة، واستعير لهذا المعنى الحرفُ الموضوع للعلّة على وجه الاستعارة التّبعيّة، ولذلك سمَّى بعض النّحويين مثل هذه اللاّم لام الصّيرورة، وليس مرادهم أنّ الصّيرورة معنى من معاني اللاّم ولكنّه إفصاح عن حاصل المعنى.
والدّراسة: القراءة بتمهّل للحفظ أو للفهم، وتقدّم عند قوله تعالى: {وبما كنتم تدرسون} في سورة [آل عمران: 79].
وفعله من باب نصر.
يقال: درس الكتاب، أي تعلّم.
وقد تقدّم في قوله تعالى: {بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} [آل عمران: 79]، وقال: {وَدَرَسوا ما فيه} [الأعراف: 169].
وسمّي بيت تعلّم اليهود المِدْرَاسَ، وسمّي البيت الّذي يسكنه التّلامذة ويتعلّمون فيه المدرسة.
والمعنى يقولون: تعلّمت، طعْنًا في أمّية الرّسول عليه الصّلاة والسّلام لئلاّ يلزمَهم أنّ ما جاء به من العلم وحي من الله تعالى.
وقرأ الجمهور {درست} بدون ألف وبفتح التّاء.
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو {دَارسْتَ} على صيغة المفاعلة وبفتح التّاء أي يقولون: قرأت وقرئ عليك، أي دارسْتَ أهل الكتاب وذاكرتهم في علمهم.
وقرأه ابن عامر ويعقوب {دَرَسَتْ} بصيغة الماضي وتاء التأنيث أي الآيات، أي تكرّرتْ.
وأمّا اللاّم في قوله: {ولنبيّنه لقوم يعلمون} فهي لام التّعليل الحقيقيّة.
وضمير {نبيّنه} عائد إلى القرآن لأنّه ماصْدَق {الآيات}، ولأنّه معلوم من السّياق.
والقوم هم الّذين اهتدوا وآمنوا كما تقدّم في قوله: {قد فصّلنا الآيات لقوم يعلمون} [الأنعام: 97]، والكلام تعريض كما تقدّم.
والمعنى أنّ هذا التّصريف حصل منه هدى للموفّقين ومكابرة للمخاذيل.
كقوله تعالى: {يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضلّ به إلاّ الفاسقين} [البقرة: 26]. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} الآية.
يعني ليزعموا إن النَّبي صلى الله عليه وسلم إنما تعلم هذه القرآن بالدرس والتعليم من غيره من أهل الكتاب، كما زعم كفار مكة أنه صلى الله عليه وسلم تعلم هذا القرآن من جبر ويسار، وكانا غلامين نصرانيين بمكة، وقد أوضح الله تعالى بطلان افترائهم هذا في آيات كثيرة كقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 13]، وقوله: {فَقَالَ إِنْ هاذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هاذا إِلاَّ قَوْلُ البشر سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 24- 26]، ومعنى يؤثر: يرويه محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره في زعمهم الباطل، وقوله: {وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} [الفرقان: 4- 6] الآية. إلى غير ذلك من الآيات. وفي قوله: {دَرَسْتَ} ثلاث قراءات سبعيات.
قرأه ابن كثير، وأبو عمر {دارست} بألف بعد الدال مع إسكان السين وفتح التاء من المفاعلة بمعنى: دارست أهل الكتاب ودارسوك حتى حصلت هذا العلم.
وقرأه بقية السبعة غير ابن عامر {درست} بإسقاط الألف، مع إسكان السين وفتح التاء أيضًا، بمعنى درست هذا على أهل الكتاب حتى تعلمته منهم.
وقرأه ابن عامر {دَرَسَتْ} بفتح الدال والراء والسين وإسكان التاء على أنها تاء التأنيث، والفاعل ضمير عائد إلى الآيات المذكورة في قوله: {وكذلك نُصَرِّفُ الآيات} [الأنعام: 105].
قال القرطبي: وأحسن ما قيل في قراءة ابن عامر أن المعنى: ولئلا يقولوا انقطعت وانمحت، وليس يأتي محمد صلى الله عليه وسلم بغيرها. اه.
وقال القرطبي: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} الواو للعطف على مضمر أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست وقيل: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} صرفناها.
قال مقيده: عفا الله عنه ومعناهما آيل إلى شيء واحد ويشهد له القرآن في ىيات كثيرة دالة على أنه يبين الحق واضحًا في هذا الكتاب ليهدي به قومًا، ويجعله حجة على آخرين كقوله: {لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مريم: 97] وقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]، وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَانًا وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} [المدثر: 31] كما قال هنا {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فالأشقياء يقولون: تعلمته من البشر بالدراسة وأهل العلم، والسعادة يعلمون أنه الحق الذي لا شك فيه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)}.
أوقع الفتنةَ في قلوبهم فَخَنِسَتْ عليهم الأحوال: فَمِنْ شُبْهةٍ دَاخَلْتُهم ومن حَيْرةٍ مَلَكَتْهُم. ومن تحقيق أدركه قوم، وتعريفٍ توقف على آخرين. اهـ.

.من فوائد الماوردي في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ}.
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتلو بعضها بعضًا فلا ينقطع التنزيل.
والثاني: أن الآية تنصرف في معان متغايرة مبالغة في الإِعجاز ومباينة لكلام البشر.
والثالث: أنه اختلاف ما تضمنها من الوعد والوعيد والأمر والنهي، ليكون أبلغ في الزجر، وأدعى إلى الإِجابة، وأجمع للمصلحة.
ثم قال تعالى: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} وفي الكلام حذف، وتقديره: ولئلا يقولوا درست، فحذف ذلك إيجازًا كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 167] أي لئلا تضلوا.
وفي {دَرَسْتَ} خمس قراءات يختلف تأويلها بحسب اختلافها:
إحداهن: {دَرَسْتَ} بمعنى قرأت وتعلمت، تقول ذلك قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، والضحاك، وهي قراءة حمزة، والكسائي.
والثانية: {دَارَسْتَ} بمعنى ذاكرت وقارأت، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، ومروي عن ابن عباس، وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو.
وفيها على هذه القراءة تأويل ثانٍ، أنها بمعنى خاصمت وجادلت.
والثالثة: {دَرَسَتْ} بتسكين التاء بمعنى انمحت وتقادمت، قاله ابن الزبير، والحسن، وهي قراءة ابن عامر.
والرابعة: {دُرِسَتْ} بضم الدال لما لم يسم فاعله تليت وقرئت، قاله قتادة.
والخامسة: {دَرَسَ} بمعنى قرأ النبي صلى الله عليه وسلم وتلا، وهذا حرف أبي بن كعب، وابن مسعود.
{وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: لقوم يعقلون.
والثاني: يعلمون وجوه البيان وإن لم يعلموا المبين. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)}.
{كذلك نصرف}. أي أن يأتي لنا بالحال بعد الحال ويكرر ويعيد، وتأتي الحادثة من الحوادث وينزل فيها تشريع، ويرقق قلوبهم، ويأتي بنماذج من الرسل، ومواقف أممهم منهم حتى نصادف في كل حال قلبًا مستقبلًا لأنه إن قال مرة واحدة وسكت وكان هناك أناس قلوبهم منصرفة فعندما يكرر الأحداث وينزل فيها التشريع والمواعظ فقد ترق قلوبهم للإيمان وتستوعب القلوب الهداية.
{وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} ما معنى: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ}؟ إننا نعلم أن السماء تتدخل حين يطم الفساد، لكن إن وجد في الذات الإنسانية نفس لوّامة فهي مَنَاعة للنفس ووقاية لها. فإن فعل الإنسان ذنبًا تلومه نفسه فيرجع، وإن اختفت النفس اللوّامة وصارت النفس أمّارة بالسوء، امتنع في المجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمعنى ذلك أن الفساد قد طمّ. وهنا تتدخل السماء وتأتي ببيان جديد ومعجزة جديدة.
إن الفساد لا يتأبى إلا من وجود طبقات تطحن في طبقات، والذين يُطحنون بالفساد هم من يستقبلون المنهج بشوق، لكن الطاحن المستفيد من الفساد هو الذي يعارض المنهج. ولذلك فإن كل جماعة حاربت الرسل هم من الطاحنين للناس، لكنَّ المطحونين إنما يريدون من ينقذهم.
إذن فكل صاحب دعوة سماوية جعل الله له عدوًا من المجرمين؛ لأن السماء لم تتدخل إلى حين صار الإجرام لا مقاوم له. وهكذا يجعل الله لكل نبي ورسول عدوًا من المجرمين، وهذا العدو يفتن به الناس، ويميل له ضعاف العقائد. والحق يصرف الآيات حالًا بعد حال حتى لا يثبت مع الداعي الحق إلا المؤمنون الصادقون.
ولذلك تجد أن الإسلام قد جاء وغربل الأمور؛ فمثلًا تأتي حادثة الإسراء فمن كان إيمانه مهتزّا ينكر الإسراء، وذلك من أجل أن يذهب الزبد ويبقى من يحمل الدعوة بمنهج الحق. أما من كان إيمانه ضعيفًا أو كان يعبد الله على حرف فالإسلام لا يرغبه. {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا} [التوبة: 47].
إذن فالحق سبحانه وتعالى قد صرّف الآيات لينصر المطحونين، وحينما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك قالوا درست وادعو أنه كان قاعدًا في الجبل، وتعلم من أعجمي. ولذلك نجد الحق يقول: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103].
ويأتي الرد من الحق: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].
إن سيدنا عمر رضي الله عنه حينما كان في الطواف جاء عند الحجر الأسود وقال: «والله إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قبلتُك».
فعل سيدنا عمر ذلك حتى يعلمنا إذا ماجاء بعض الناس وقال: ما سبب علة تقبيل الحجر الأسود؟ فيكون الجواب حاضرًا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وهذا تشريع. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}.
والكاف في محلِّ نصب نَعْتٌ لمصدر محذوف، فقدَّرَهُ الزجاج: ونُصَرِّفَ الآياتِ مِثْلَ ما صَرَّفْنَاها فيما تُلِيَ عليكم، وقدَّره غيره: نُصَرِّفُ الآيات في غير هذه السُّورةِ تَصْرِيفًا مثل التصريف في هذه السورة.
والمراد بالتَّصْرِيفِ أنه- تبارك وتعالى- يأتي مُتَوَاتِرَة حالًا بعد حالٍ.
قوله: {ولِيَقُولُوا} الجمهور على كسر اللام كي، والفِعْلُ بعدها منصوب بإضمار أن فهو في تَأويل مصدر مَجْرُورٍ بها على ما عرف غير مرَّةٍ، وسماها أبو البقاء وابن عطية لام الصَّيْرُورةِ، كقوله تبارك وتعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وكقوله: [الوافر]
لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرَابِ

أي: لما صار أمرهم إلى ذلك عَبِّرَ بهذه العبارةِ، والعِلَّةُ غير مُرَادَةٍ في هذه الأمثلة، والمُحَقِّقُونَ يأبَوْنَ جَعْلَهَا للعاقبة والصَّيْرُورةِ، ويُؤوِّلُونَ ما وَرَدَ من ذلك على المَجَازِ.
وجوَّز أبو البقاء فيها الوجهين؛ أعني كونها لام العاقبة، أو العلّة حقيقة، فإنه قال: واللام لام العاقبة، أي: إن أمرهم يَصِيرُ إلى هذا.