فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الفخر:
ذكروا في سبب نزول الآية وجوهًا:
الأول: قال ابن عباس: لما نزل {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال المشركون: لئن لم تنته عن سب آلهتنا وشتمها لنهجون إلهك فنزلت هذه الآية، أقول: لي هاهنا إشكالان: الأول: أن الناس اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة فكيف يمكن أن يقال: إن سبب نزول هذه الآية كذا وكذا.
الثاني: أن الكفار كانوا مقرين بالإله تعالى وكانوا يقولون: إنما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند الله تعالى، وإذا كان كذلك، فكيف يعقل إقدامهم على شتم الله تعالى وسبه.
والقول الثاني: في سبب نزول هذه الآية.
قال السدي: لما قربت وفاة أبي طالب قالت قريش: ندخل عليه ونطلب منه أن ينهى ابن أخيه عنا فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه.
فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث مع جماعة إليه وقالوا له: أنت كبيرنا وخاطبوه بما أرادوا.
فدعا محمدًا عليه الصلاة والسلام وقال: هؤلاء قومك وبنو عمك يطلبون منك أن تتركهم على دينهم، وأن يتركوك على دينك فقال عليه الصلاة والسلام: «قولوا لا إله إلا الله» فأبوا فقال أبو طالب: قل غير هذه الكلمة فإن قومك يكرهونها.
فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أنا بالذي أقول غيرها حتى تأتوني بالشمس فتضعوها في يدي» فقالوا له اترك شتم آلهتنا وإلا شتمناك، ومن يأمرك بذلك فذلك قوله تعالى: {فَيَسُبُّواْ الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
واعلم أنا قد دللنا على أن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فاستحال إقدامهم على شتم الإله بل هاهنا احتمالات: أحدها: أنه ربما كان بعضهم قائلًا بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي بهذا النوع من السفاهة.
وثانيها: أن الصحابة متى شتموا الأصنام فهم كانوا يشتمون الرسول عليه الصلاة والسلام فالله تعالى أجرى شتم الرسول مجرى شتم الله تعالى كما في قوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] وكقوله: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله} [الأحزاب: 57] وثالثها: أنه ربما كان في جهالهم من كان يعتقد أن شيطانًا يحمله على ادعاء النبوة والرسالة، ثم إنه لجهله كان يسمي ذلك الشيطان بأنه إله محمد عليه الصلاة والسلام فكان يشتم إله محمد بناء على هذا التأويل. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله}.
في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنه لما قال للمشركين: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} قالوا: لتنتهينَّ يا محمد عن سبِّ آلهتنا وعيبها، أو لنهجونَّ إلهك الذي تعبده، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن المسلمين كانوا يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قومًا جهلة لا علم لهم بالله، قاله قتادة.
ومعنى {يدعون}: يعبدون، وهي الأصنام.
{فيسبوا الله} أي: فيسبوا من أمركم بعيبها، فيعود ذلك إلى الله تعالى، لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله تعالى، لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم، وإن أشركوا به.
وقوله تعالى: {عدوًا بغير علم} أي: ظلمًا بالجهل.
وقرأ يعقوب: {عُدُوًّا} بضم العين والدال وتشديد الواو.
والعرب تقول في الظلم: عدا فلان عَدْوًا وعُدُوًّا وعُدوانًا.
وعدا، أي: ظلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله} الآية، مخاطبة للمؤمنين والنبي عليه السلام، وقال ابن عباس وسببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما نسب إلهة ونهجوه فنزلت الآية، وحكمها على كل حال باق في الأمة، فمتى كان الكافر في منعه وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم والله عز وجل فلا يحل للمسلم أن يسب دينهم ولا صلبانهم ولا يتعرض ما يؤدي إلى ذلك أو نحوه، وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب {الذين} وذلك على معتقد الكفرة فيها، وفي هذه الآية ضرب من الموادعة.
وقرأ جمهور الناس {عَدْوًا} بفتح العين وسكون الدال نصب على المصدر، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن زيد {عُدُوًّا} بضم العين والدال وتشديد الواو، وهذا أيضًا نصب على المصدر وهو من الاعتداء، وقرأ بعض الكوفيين {عَدُوًا} بفتح العين وضم الدال نصب على الحال أي في حال عداوة لله، وهو لفظ مفرد يدل على الجمع، وقوله: {بغير علم} بيان لمعنى الاعتداء المتقدم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم} الآية قال ابن عباس: لما نزلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} قال المشركون يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوًا بغير علم وقال قتادة: كان المؤمنون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله عن ذلك لئلا يسبوا الله لأنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله عز وجل.
وقال السدي: لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش انطلقوا بنا لندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان عمه يمنعه فلما مات قتلوه.
فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبيّ ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن أبي البختري إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه فدعاه جاء النبي صلى الله عليه وسلم: فقال له أبو طالب: إن هؤلاء قومك وبنو عمك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يريدون»؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك.
فقال له أبو طالب: قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن أعطيتكم هذا فهل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم العجم وأدت لكم الخراج؟ فقال أبو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ فقال: «قولوا لا إله إلا الله» فأبوا ونفروا فقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي فقال: «يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها إرادة أن يؤيسهم» فقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك فأنزلت: {ولا تسبوا الذين تدعون من دون الله} يعني ولا تسبوا أيها المؤمنون الأصنام التي يعبدها المشركون فيسبوا الله عدوًا بغير علم يعني فيسبوا الله ظلمًا بغير علم لأنهم جهلة بالله عز وجل.
قال الزجاج: نهوا في ذلك الوقت قبل القتال أن يلعنوا الأصنام التي كانت عبدها المشركون.
وقال ابن الأنباري: هذه الآية منسوخة أنزلها الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة فلما قواه بأصحابه نسخ هذه الآية ونظائرها بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.
وقيل إنما نهوا عن سب الأصنام وإن كان في سبها طاعة وهو مباح لما يترتب على ذلك من المفاسد التي هي أعظم من ذلك وهو سب الله عز وجل وسب رسوله وذلك من أعظم المفاسد فلذلك نهوا عن سب الأصنام وقيل لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا آلهتكم فيسبوا ربكم فأمسك المسلمون عن سب آلهتهم فظاهر الآية وإن كان نهيًا عن سب الأصنام فحقيقته النهي عن سب الله تعالى لأنه سبب لذلك. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم}.
قال ابن عباس: سببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب: إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه فنزلت، وقيل: قالوا ذلك عند نزول قوله: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} وقيل: كان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا لئلا يكون سبهم سببًا لسب الله تعالى، وحكم هذه الآية باق في هذه الأمة فإذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول أو الله فلا يحل لمسلم ذم دين الكافر ولا صنمه ولا صليبه ولا يتعرض إلى ما يؤدّي إلى ذلك، ولما أمر تعالى باتباع ما أوحي إليه وبموادعة المشركين عدل عن خطابه إلى خطاب المؤمنين، فنهوا عن سب أصنام المشركين ولم يواجه هو صلى الله عليه وسلم بالخطاب وإن كان هو الذي سبت الأصنام على لسانه وأصحابه تابعون له في ذلك لما في مواجهته وحده بالنهي من خلاف ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الكريمة، إذ لم يكن عليه السلام فحّاشًا ولا صخّابًا ولا سبّابًا فلذلك جاء الخطاب للمؤمنين فقيل: {ولا تسبّوا} ولم يكن التركيب ولا تسب كما جاء {وأعرض} وإذا كانت الطاعة تؤدّي إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها كما ينهى عن المعصية و{الذين يدعون} هم الأصنام أي يدعونهم المشركون وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بالذين كما يعبر عن العاقل على معاملة مالا يعقل معاملة من يعقل، إذ كانوا ينزلونهم منزلة من يعقل في عبادتهم واعتقادهم فيهم أنهم شفعاء لهم عند الله تعالى، وقيل: يحتمل أن يراد ب {الذين يدعون} الكفار وظاهر قوله: {فيسبوا الله} أنهم يقدمون على سب الله إذا سُبت آلهتهم وإن كانوا معترفين بالله تعالى، لكن يحملهم على ذلك انتصارهم لآلهتهم وشدة غيظهم لأجلها فيخرجون عن الاعتدال إلى ما ينافي العقل كما يقع من بعض المسلمين إذا اشتد غضبه وانحرف فإنه قد يلفظ بما يؤدّي إلى الكفر نعوذ بالله من ذلك، وقال أبو عبد الله الرازي: ربما كان بعضهم قائلًا بالدهر ونفى الصانع فكان يأتي بهذا النوع من الشناعة أو كان المسلمون يسبون الأصنام وهم كانوا يسبون الرسول فأجرى سب الرسول مجرى سب الله تعالى كما قال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} وكما قال: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} أو كان بعض الكفرة يعتقد أن شيطانًا يحمل الرسول على ادعاء النبوّة والرسالة وكانوا بجهلهم يشتمون ذلك الشيطان بأنه إله محمد، انتهى.
وهذه احتمالات مخالفة للظاهر وإنما أوردها لأنه ذكر أن المعترفين بوجود الصانع لا يجسرون أن يقدموا على سبه تعالى، وقد ذكرنا ما يحمل على حمل الكلام على ظاهره، وقال بعض الصوفية: بمعنى خاطبوهم بلسان الحجة وإلزام الدليل ولا تكلموهم على نوازع النفس والعادة و{فيسبوا} منصوب على جواب النهي، وقيل: هو مجزوم على العطف كقولك: لا تمددها فتشققها، و{عدوًا} مصدر عدا وكذا عدو وعدوان بمعنى اعتدى أي ظلم، وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن يزيد بضم العين والدال وتشديد الواو وهو مصدر لعدا كما ذكرناه، وجوّزوا فيهما انتصابهما على المصدر في موضع الحال أو على المصدر من غير لفظ الفعل لأن سب الله عدوان أو على المفعول له، وقال ابن عطية: وقرأ بعض المكيين وعينه الزمخشري فقال عن ابن كثير: بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو أي أعداء وهو منصوب على الحال المؤكدة وعدو يخبر به عن الجمع كما قال: {هم العدوّ} ومعنى {بغير علم} على جهالة بما يجب لله تعالى أن يذكر به وهو بيان لمعنى الاعتداء. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي لا تشتُموهم من حيث عبادتُهم لآلهتهم كأن تقولوا: تبًا لكم ولما تعبُدونه مثلًا {فَيَسُبُّواْ الله عَدْوًا} تجاوزًا عن الحق إلى الباطل بأن يقولوا لكم مثلَ قولِكم لهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بجهالة بالله تعالى وبما يجب أن يُذكَرَ به، وقرئ عُدُوًّا يقال: عدا يعدو عَدْوًا وعُدُوًّا وعِداء وعُدْوانًا. روي أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} لتنتهِيَنَّ عن سب آلهتِنا أو لنهجُوَنّ إلهك. وقيل: كان المسلمون يسبّونهم فنُهوا عن ذلك لئلا يستتبِعَ سبُّهم سبَّه سبحانه وتعالى، وفيه أن الطاعةَ إذا أدتْ إلى معصية راجحةٍ وجب تركُها فإن ما يؤدي إلى الشر شرٌّ. اهـ.

.قال الفخر:

قرأ الحسن: {فَيَسُبُّواْ الله عَدْوًا} بضم العين وتشديد الواو، ويقال: عدا فلان عدوًا وعدوًا وعدوانًا وعدًا.
أي ظلم ظلمًا جاوز القدر.
قال الزجاج: وعدوًا منصوب على المصدر، لأن المعنى فيعدوا عدوًا.
قال: ويجوز أن يكون بإرادة اللام، والمعنى: فينسبوا الله للظلم. اهـ.
قال الفخر:
قال الجبائي: دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يفعل بالكفار ما يزدادون به بعدًا عن الحق ونفورًا.
إذ لو جاز أن يفعله لجاز أن يأمر به، وكان لا ينهى عما ذكرنا، وكان لا يأمر بالرفق بهم عند الدعاء.
كقوله لموسى وهرون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] وذلك يبين بطلان مذهب المجبرة. اهـ.
قال الفخر:
قالوا هذه الآية تدل على أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر، والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر، وغلبة الظن قائمة مقام العلم في هذا الباب وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين، لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب، لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي لا تشتموهم ولا تذكروهم بالقبيح، والمراد من الموصول إما المشركون على معنى لا تسبوهم من حيث عبادتهم لآلهتهم كأن تقولوا تبًا لكم ولما تعبدونه مثلًا أو آلهتهم فالآية صريحة في النهي عن سبها.