فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأجاب آخرون بأن {لا} زائدة كما في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ} [الأعراف: 12] و{حَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] فإنه أريد تسجد ويرجعون بدون لا.
وعن الخليل أن (أن) بمعنى لعل كما في قولهم: ائت السوق أنك تشتري لحمًا؛ وقول امرئ القيس:
عرجوا على الطلل المحيل لأننا ** نبكي الديار كما بكى ابن خذام

وقول الآخر:
هل أنتم عائجون بنا لأنا ** نرى العرصات أو أثر الخيام

ويؤيده أن يشعركم ويدريكم بمعنى.
وكثيرًا ما تأتي لعل بعد فعل الدراية نحو {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 3] وأن في مصحف أبي رضي الله تعالى عنه {وَمَا أَدْرَاكَ} والكلام على هذا قد تم قبل {يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا} والمفعول الثاني ليشعركم محذوف والجملة استئناف لتعليل الإنكار وتقديره أي شيء يعلمكم حالهم وما سيكون عند مجيء ذلك لعلها إذا جاءت لا يؤمنون فما لكم تتمنون مجيئها فإن تمنيه إنما يليق بما إذا كان إيمانهم بها متحقق الوقوع عند مجيئها لا مرجو العدم.
ومن الناس من زعم أن {أَنَّهَا} إلخ جواب قسم محذوف بناء على أن أن في جواب القسم يجوز فتحها ولا يخفي بعده.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب {أَنَّهَا} بالكسر على الإستئناف حسبما سيق مع زيادة تحقيق لعدم إيمانهم.
قال في الكشف: وهو على جواب سؤال مقدر على ما ذكره الشيخ ابن الحاجب كأنه قيل لم وبخوا؟ فقيل لأنها إذا جاءت لا يؤمنون.
ولك أن تبنيه على قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} أي بما يكون منهم فإنه إبراز في معرض المحتمل كأنه قد سئل عنه سؤال شاك ثم علل بأنها إذا جاءت جزمًا بالطرف المحالف وبيانًا لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة.
وفيه إنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن إنكار صدق المشركين في المقسم عليه.
وهذا نوع من السحر البياني لطيف المسلك انتهى.
وقرأ ابن عامر وحمزة {لاَ تُؤْمِنُونَ} بالفوقانية والخطاب حينئذ في الآية للمشركين بلا خلاف.
وقرئ {وَمَا ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فمرجع الإنكار إقدام المشركين على الحلف المذكور مع جهلهم بحال قلوبهم عند مجيء ذلك وبكونها حينئذ كما هي الآن.
وقرئ {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} بسكون خالص واختلاس.
وضمير {بِهَا} على سائر القراءات راجع للآية لا للآيات لأن عدم إيمانهم عند مجيء ما اقترحوه أبلغ في الذم كما أن استعمال إذا مع الماضي دون أن مع المستقبل لزيادة التشنيع عليهم.
وزعم بعضهم أن عدوه للآيات أولى لقربه مع ما فيه من زيادة المبالغة في بعدهم عن الإيمان وبلوغهم في العناد غاية الإمكان. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} قرأ الأكثر (أنّها) بفتح همزة أنّ.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وخلَف، وأبو بكر عن عاصم في إحدى روايتين عن أبي بكر بكسر همزة (إنّ).
وقرأ الجمهور {لا يؤمنون} بياء الغيبة.
وقرأه ابن عامر، وحمزة، وخلف بتاء الخطاب، وعليه فالخطاب للمشركين.
وهذه الجملة عقبة حَيرة للمفسّرين في الإبانة عن معناها ونظمها ولْنَأت على ما لاح لنا في موقعها ونظمها وتفسير معناها، ثمّ نعقّبه بأقوال المفسّرين.
فالّذي يلوح لي أنّ الجملة يجوز أن تكون الواو فيها واوَ العطف وأن تكون واو الحال.
فأمّا وجه كونها واو العطف فأن تكون معطوفة على جملة: {إنّما الآيات عند الله} كلام مستقلّ، وهي كلام مستقلّ وجّهه الله إلى المؤمنين، وليست من القول المأمور به النّبيء عليه الصّلاة والسّلام بقوله تعالى: {قل إنّما الآيات عند الله}.
والمخاطب بـ {يشعركم} الأظهر أنّه الرّسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون، وذلك على قراءة الجمهور قوله: {لا يؤمنون} بياء الغيبة.
والمخاطب بـ {يشعركم} المشركون على قراءة ابن عامر، وحمزة، وخلف {لا تؤمنون} بتاء الخطاب، وتكون جملة {وما يشعركم} من جملة ما أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله في قوله تعالى: {قل إنّما الآيات عند الله}.
{وأما} استفهامية مستعملة في التّشكيك والإيقاظ، لئلاّ يغرّهم قَسم المشركين ولا تروجَ عليهم ترّهاتهم، فإن كان الخطاب للمسلمين فليس في الاستفهام شيء من الإنكار ولا التّوبيخ ولا التّغليظ إذ ليس في سياق الكلام ولا في حال المسلمين فيما يؤثر من الأخبار ما يقتضي إرادة توبيخهم ولا تغليطهم، إذ لم يثبت أنّ المسلمين طمعوا في حصول إيمان المشركين أو أنّ يجَابُوا إلى إظهار آية حسب مقترحهم، وكيف والمسلمون يقرأون قوله تعالى: {إنّ الّذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية} وهي في سورة [يونس: 96، 97] وهي نازلة قبل سورة الأنعام، وقد عرف المسلمون كذب المشركين في الدّين وتلوّنهم في اختلاق المعاذير.
والمقصود من الكلام تحقيق ذلك عند المسلمين، وسيق الخبر بصيغة الاستفهام لأنّ الاستفهام من شأنه أن يهيّءَ نفس السامع لطلب جواب ذلك الاستفهام فيتأهّب لوعي ما يرد بعده.
والإشعار: الإعلام بمعلوم من شأنه أن يخفَى ويَدِقّ.
يقال: شعَرَ فلان بكذا، أي علمه وتفطّن له، فالفعل يقتضي متعلِّقًا به بعد مفعوله ويتعيّن أن قوله: {أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} هو المتعلِّق به، فهو على تقدير باء الجرّ.
والتّقدير: بأنّها إذا جاءت لا يؤمنون، فحذف الجارّ مع (أنّ) المفتوحة حذف مطّرد.
وهمزة (أنّ) مفتوحة في قراءة الجمهور.
والمعنى أمُشْعِر يُشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون، أي بعدم إيمانهم.
فهذا بيان المعنى والتّركيب، وإنّما العقدَة في وجود حرف النّفي من قوله: {لا يؤمنون} لأنّ {ما يشعركم} بمعنى قولهم: ما يدريكم، ومعتاد الكلام في نظير هذا التّركيب أن يجعل متعلّق فعل الدّراية فيه هو الشّيء الّذي شأنُه أن يَظُنّ المخاطبُ وقوعَه، والشَّيء الَّذي يُظَنّ وقوعُه في مثل هذا المقام هو أنّهم يُؤمنون لأنّه الَّذي يقتضيه قسمهم {لئن جاءتهم آية ليؤمننّ} فلمّا جعل متعلِّق فعل الشّعور نفيَ إيمانهم كان متعلِّقًا غريبًا بحسب العرف في استعمال نظير هذا التّركيب.
والّذي يقتضيه النّظر في خصائص الكلام البليغ وفروقِه أن لا يقاس قوله: {وما يُشعركم} على ما شاع من قول العرب {ما يُدريك}، لأنّ تركيب ما يدريك شاع في الكلام حتّى جرى مجرى المثل باستعمالٍ خاصّ لا يكادون يخالفونه كما هي سُنّة الأمثال أن لا تغيّر عمّا استعملت فيه، وهو أن يكون اسم (ما) فيه استفهامًا إنكاريًا، وأن يكون متعلّق يُدريك هو الأمر الّذي ينكره المتكلّم على المخاطب.
فلو قسنا استعمال {ما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} على استعمال (ما يدريكم) لكان وجود حرف النّفي منافيًا للمقصود، وذلك مثار تردّد علماء التّفسير والعربيّة في محمل {لا} في هذه الآية.
فأمّا حين نتطلّب وجه العدول في الآية عن استعمال تركيب (ما يدريكم) وإلى إيثار تركيب {ما يشعركم} فإنّنا نعلم أنّ ذلك العدول لمراعاة خصوصيّة في المعدول إليه بأنّه تركيب ليس متَّبعًا فيه طريق مخصوص في الاستعمال، فلذلك فهو جار على ما يسمح به الوضع والنظمُ في استعمال الأدواتتِ والأفعاللِ ومفاعيلها ومتعلّقاتها.
فلنحمل اسم الاستفهام هنا على معنى التّنبيه والتشكيك في الظنّ، ونحمل فعل {يشعركم} على أصل مقتضى أمثاله من أفعال العِلم، وإذا كان كذلك كان نفي إيمان المشركين بإتيان آية وإثباتُه سواء في الفرض الّذي اقتضاه الاستفهام، فكان المتكلّم بالخيار بين أن يقول: إنّها إذا جاءت لا يؤمنون، وأن يقول: إنّها إذا جاءت يؤمنون.
وإنّما أوثر جانب النفي للإيماء إلى أنّه الطرف الرّاجح الّذي ينبغي اعتماده في هذا الظنّ.
هذا وجه الفرق بين التّركيبين.
وللفروق في علم المعاني اعتبارات لا تنحصر ولا يَنبغي لصاحب علم المعاني غضّ النّظر عنها، وكثيرًا ما بيّن عبد القاهر أصنافًا منها فليُلحَق هذا الفرق بأمثاله.
وإنْ أبَيْتَ إلاّ قياسَ {ما يشعركم} على (مَا يُدريكم) سواء، كما سلكه المفسّرون فاجعل الغالب في استعمال (ما يُدريك) هو مقتضى الظّاهر في استعمال {ما يُشعركم} واجعَل تعليق المنفي بالفعل جريًا على خلاف مقتضى الظّاهر لنكتة ذلك الإيماء ويسهل الخطب.
وأمّا وجه كون الواو في قوله: {وما يشعركم} واو الحال فتكون ما نكرة موصوفة بجملة {يشعركم}.
ومعناها شَيء موصوف بأنّه يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون.
وهذا الشّيء هو ما سبق نُزوله من القرآن، مثل قوله تعالى: {إنّ الَّذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية} [يونس: 96، 97]، وكذلك ما جرّبوه من تلوّن المشركين في التفصّي من ترك دين آبائهم، فتكون الجملة حالًا، أي والحال أنّ القرآن والاستقراء أشعركم بكذبهم فلا تطمعوا في إيمانهم لو جاءتهم آية ولا في صدق أيْمانهم، قال تعالى: {إنّهم لا أيْمان لهم} [التوبة: 12].
وإنّي لأعجب كيف غاب عن المفسّرين هذا الوجه من جعل ما نكرة موصوفة في حين أنّهم تطرّقوا إلى ما هو أغرب من ذلك.
فإذا جعل الخطاب في قوله: {وما يشعركم} خطابًا للمشركين، كان الاستفهام للإنكار والتّوبيخ ومتعلِّق فعل {يشعركم} محذوفًا دلّ عليه قوله: {لئن جاءتهم آية}.
والتّقدير: وما يشعركم أنّنا نأتيكم بآية كما تريدون.
ولا نحتاج إلى تكلّفات تكلّفها المفسّرون، ففي الكشاف: أنّ المؤمنين طمعوا في إيمان المشركين إذا جاءتهم آية وتمنّوا مجيئها فقال الله تعالى: وما يدريكم أنّهم لا يؤمنون، أي أنّكم لا تدرون أنّي أعلم أنّهم لا يؤمنون.
وهو بناء على جعل {ما يشعركم} مساويًا في الاستعمال لِقولهم: {ما يدريك}.
ورَوى سيبويه عن الخليل: أنّ قوله تعالى: {أنّها} معناه لَعلّها، أي لعلّ آية إذا جاءت لا يؤمنون بها.
وقال: تأتى (أنّ) بمعنى لعلّ، يريد أنّ في لعلّ لغة تقول: لأنّ، بإبدال العين همزة وإبدال اللام الأخيرة نونًا، وأنّهم قد يحذفون اللام الأولى تخفيفًا كما يحذفونها في قولهم: علّك أن تفعل، فتصير (أنّ) أي (لعلّ).
وتبعه الزمخشري وبعض أهل اللّغة، وأنشدوا أبياتًا.
وعن الفرّاء، والكسائي، وأبي عليّ الفارسي: أنّ {لا} زائدة، كما ادّعوا زيادتها في قوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95].
وذكر ابن عطيّة: أنّ أبا عليّ الفارسي جعل {أنّها} تعليلًا لقوله: {عند الله} أي لا تأتيهم بها لأنّها إذا جاءت لا يؤمنون، أي على أن يكون {عند} كناية عن منعهم من الإجابة لما طلبوه.
وعلى قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوب، وخلف، وأبي بكر، في إحدى روايتين عنه {إنّها} بكسر الهمزة يكون استئنافًا.
وحذف متعلّق {يشعركم} لظهوره من قوله: {لَيُؤمِنُنّ بها}.
والتّقدير: وما يشعركم بإيمانهم إنّهم لا يؤمنون إذا جاءت آية.
وعلى قراءة ابن عامر، وحمزة، وخلف بتاء المخاطب.
فتوجيه قراءة خلف الّذي قرأ {إنّها} بكسر الهمزة، أن تكون جملة {أنّها إذا جاءت} إلخ خطابًا موجّهًا إلى المشركين.
وأمّا على قراءة ابن عامر وحمزة اللّذيْن قرآ {أنّها} بفَتح الهمزة فأن يجعل ضمير الخطاب في قوله: {وما يشعركم} موجّهًا إلى المشركين على طريقة الالتفات على اعتبار الوقف على {يشعركم}. اهـ.

.قال الفخر:

حاصل الكلام أن القوم طلبوا من الرسول معجزات قوية وحلفوا أنها لو ظهرت لآمنوا، فبين الله تعالى أنهم وإن حلفوا على ذلك، إلا أنه تعالى عالم بأنها لو ظهرت لم يؤمنوا، وإذا كان الأمر كذلك لم يجب في الحكمة إجابتهم إلى هذا المطلوب.
قال الجبائي والقاضي: هذه الآية تدل على أحكام كثيرة متعلقة بنصرة الاعتزال.
الحكم الأول:
أنها تدل على أنه لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده لفعله لا محالة، إذ لو جاز أن لا يفعله لم يكن لهذا الجواب فائدة، لأنه إذا كان تعالى لا يجيبهم إلى مطلوبهم سواء آمنوا أو لم يؤمنوا لم يكن تعليق ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون عنده منتظمًا مستقيمًا، فهذه الآية تدل على أنه تعالى يجب عليه أن يفعل كل ما هو في مقدوره من الألطاف والحكمة.
الحكم الثاني:
أن هذا الكلام إنما يستقيم لو كان لإظهار هذه المعجزات أثر في حملهم على الإيمان، وعلى قول المجبرة ذلك باطل، لأن عندهم الإيمان إنما يحصل بخلق الله تعالى، فإذا خلقه حصل، وإذا لم يخلقه لم يحصل، فلم يكن لفعل الإلطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات.
وأقول هذا الذي قاله القاضي غير لازم.
أما الأول: فلأن القوم قالوا: لو جئتنا يا محمد بآية لآمنا بك، فهذا الكلام في الحقيقة مشتمل على مقدمتين: إحداهما: أنك لو جئتنا بهذه المعجزات لآمنا بك.
والثانية: أنه متى كان الأمر كذلك وجب عليك أن تأتينا بها، والله تعالى كذبهم في المقام الأول، وبين أنه تعالى وإن أظهرها لهم فهم لا يؤمنون، ولم يتعرض ألبتة للمقام الثاني، ولكنه في الحقيقة باق.
فإن لقائل أن يقول: هب أنهم لا يؤمنون عند إظهار تلك المعجزات، فلم لم يجب على الله تعالى إظهارها؟ اللهم إلا إذا ثبت قبل هذا البحث أن اللطف واجب على الله تعالى، فحينئذ يحصل هذا المطلوب من هذه الآية، إلا أن القاضي جعل هذه الآية دليلًا على وجوب اللطف، فثبت أن كلامه ضعيف.
وأما البحث الثاني: وهو قوله: إذا كان الكل بخلق الله تعالى لم يكن لهذه الألطاف أثر فيه، فنقول: الذي نقول به أن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي والعلم بحصول هذا اللطف أحد أجزاء الداعي وعلى هذا التقدير.
فيكون لهذا اللطف أثر في حصول الفعل. اهـ.