فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا على ما قال الإمام تقرير لما في الآية الأولى من أنهم لا يؤمنون.
وذكر شيخ الإسلام أن هذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له بل لكما نبوها عنه وإعراضها بالكلية ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارًا بأصالتهم في الكفر وحسمًا لتوهم أن عدم إيمانهم ناشيء من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار.
وتحقيقه على ما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني أنه سبحانه حيث علم في الأزل سوء استعدادهم المخبوء في ماهياتهم أفاض عليهم ما يقتضيه وفعل بهم ما سألوه بلسان الاستعداد بعد أن رغبهم ورهبهم وأقام الحجة وأوضح المحجة ولله تعالى الحجة البالغة وما ظلمهم الله سبحانه ولكن كانوا هم الظالمين.
{كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ} أي بما جاء من الآيات بالله تعالى.
وقيل: بالقرآن.
وقيل: بمحمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر لذلك ذكر.
وقيل: بالتقليب وهو كما ترى.
{أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي عند ورود الآيات السابقة.
والكاف في موضع النعت لمصدر (محذوف) منصوب بِ {لا يؤمنون} [الأنعام: 109].
وما مصدرية أي لا يؤمنون بل يكفرون كفرًا كائنًا ككفرهم أول مرة.
وتوسيط تقليب الأفئدة والأبصار لأنه من متممات عدم إيمانهم.
وقال أبو البقاء: أن الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليبًا ككفرهم أي عقوبة مساوية لمعصيتهم أول مرة ولا يخفى ما فيه.
والآية ظاهرة في أن الإيمان والكفر بقضاء الله تعالى وقدره.
وأجاب الكعبي عنها بأن المراد من {يُؤْمِنُونَ وَنُقَلّبُ} إلخ أنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم.
والقاضي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي ظهرت فلا نجدهم يؤمنون بها آخرًا كما لم يؤمنوا بها أولًا.
والجبائي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا.
والكل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وهكذا غالب كلام المعتزلة.
{وَنَذَرُهُمْ} أي ندعهم {فِي طغيانهم} أي تجاوزهم الحد في العصيان {يَعْمَهُونَ} أي يترددون متحيرين وهذا عطف على {لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] قيد بما قيد به أيضًا مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار معرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره.
والجار متعلق بما عنده.
وجملة {يَعْمَهُونَ} في موضع الحال من الضمير المنصوب في {نذرهم}.
وقرئ (يقلب ويذر) على الغيبة والضمير لله عز وجل.
وقرأ الأعمش {وتقلب} على البناء للمفعول وإسناده إلى أفئدتهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
يجوز أن يكون عطفًا على جملة {أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} [الأنعام: 109] فتكون بيانًا لقوله: {لا يؤمنون} [الأنعام: 109]، أي بأن نعطِّل أبصارَهم عن تلك الآية وعقولهم عن الاهتداء بها فلا يبصُرون ما تحتوي عليه الآية من الدّلائل ولا تفقه قلوبهم وجه الدّلالة فيتعطَّل تصديقهم بها، وذلك بأن يحرمهم الله من إصلاح إدراكهم، وذلك أنّهم قد خُلقت عقولهم نابية عن العلم الصّحيح بما هيّأ لها ذلك من انسلالها من أصول المشركين، ومن نشأتها بين أهل الضّلال وتلقّي ضلالتهم، كما بيّنتُه آنفًا.
فعبّر عن ذلك الحال المخالف للفطرة السّليمة بأنّه تقليب لعقولهم وأبصارهم، ولأنّها كانت مقلوبة عن المعروف عند أهل العقول السّليمة، وليس داعي الشّرك فيها تقليبًا عن حالة كانت صالحة لأنّها لم تكن كذلك حينًا، ولكنّه تقليب لأنّها جاءت على خلاف ما الشّأن أن تجيء عليه.
وضمير {به} عائد إلى القرآن المفهوم من قوله: {لئن جاءتهم آية} [الأنعام: 109] فإنّهم عَنوا آية غير القرآن.
والكاف في قوله: {كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة} لتشبيه حالة انتفاء إيمانهم بعد أن تجيئهم آية ممّا اقترحوا.
والمعنى ونقلِّب أيديهم وأبصارهم فلا يؤمنون بالآية الّتي تجيئهم مثلَما لم يؤمنوا بالقرآن من قبلُ، فتقليب أفئدتهم وأبصارهم على هذا المعنى يحصل في الدّنيا، وهو الخذلان.
ويجوز أن تكون جملة {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم} مستأنفة والواو للاستئناف، أو أن تكون معطوفة على جملة {لا يؤمنون} [الأنعام: 109].
والمعنى: ونحن نقلّب أفئدتهم وأبصارهم، أي في نار جهنّم، كناية عن تقليب أجسادهم كلّها.
وخصّ من أجسادهم أفئدتُهم وأبصارهُم لأنّها سبب إعراضهم عن العبرة بالآيات، كقوله تعالى: {سحروا أعْيُن النّاس} [الأعراف: 116]، أي سحروا النّاسَ بما تُخيِّلُه لهم أعينهم.
والكاف في قوله: {كما لم يؤمنوا به} على هذا الوجه للتّعليل كَقوله: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198].
وأقول: هذا الوجه يناكده قوله: {أوّل مرّة} إذ ليس ثمّة مرّتان على هذا الوجه الثّاني، فيتعيّن تأويل {أوّل مرّة} بأنّها الحياة الأولى في الدّنيا.
والتّقليب مصدر قلّب الدالّ على شدّة قلب الشّيء عن حاله الأصليّة.
والقلب يكون بمعنى جعل المقابل للنظر من الشيء غير مقابل، كقوله تعالى: {فأصبح يُقلِّب كفَّيْه على ما أنفق فيها} [الكهف: 42]، وقولهم: قَلَب ظَهْر المِجَن، وقريب منه قوله: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء} [البقرة: 144]؛ ويكون بمعنى تغيير حالة الشيء إلى ضدّها لأنّه يشبه قلب ذات الشّيء.
والكاف في قوله: {كما لم يؤمنوا به} الظّاهر أنّها للتّشبيه في محلّ حال من ضمير {لا يؤمنون} [الأنعام: 109]، و{ما} مصدريّة.
والمعنى: لا يؤمنون مثل انتفاء إيمانهم أوّل مرّة.
والضّمير المجرور بالباء عائد إلى القرآن لأنّه معلوم من السّياق كما في قوله: {وكذّب به قومك} [الأنعام: 66]، أي أنّ المكابرة سجيّتهم فكما لم يؤمنوا في الماضي بآية القرآن وفيه أعظم دليل على صدق الرّسول عليه الصّلاة والسّلام لا يؤمنون في المستقبل بآيةٍ أخرى إذا جاءتهم.
وعلى هذا الوجه يكون قوله: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم} معترضًا بالعطف بين الحال وصاحبها.
ويجوز أن يجعل التّشبيه للتقليب فيكون حالًا من الضّمير في {نقلّب}، أي نقلّب أفئدتهم وأبصارهم عن فطرة الأفئدة والأبصار كما قلّبناها فلم يؤمنوا به أوّل مرّة إذ جمحوا عن الإيمان أوّلَ ما دعاهم الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، ويصير هذا التّشبيه في قوّة البيان للتّقليب المجعول حالًا من انتفاء إيمانهم بأنّ سبب صدورهم عن الإيمان لا يزال قائمًا لأنّ الله حرمهم إصلاح قلوبهم.
وجوّز بعض المفسّرين أن تكون الكاف للتّعليل على القول بأنّه من معانيها، وخُرّج عليه قوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198].
فالمعنى: نقلّب أفئدتهم لأنّهم عصوا وكابروا فلم يؤمنوا بالقرآن أوّلَ ما تحدّاهم، فنجعلُ أفئدتهم وأبصارهم مستمرّة الانقلاب عن شأن العقول والأبصار، فهو جزاء لهم على عدم الاهتمام بالنّظر في أمر الله تعالى وبعثة رسوله، واستخفافهم بالمبادرة إلى التّكذيب قبل التّأمّل الصّادق.
وتقديم الأفئدة على الأبصار لأنّ الأفئدة بمعنى العقول، وهي محلّ الدّواعي والصّوارف، فإذا لاح للقلب بارق الاستدلال وجّه الحواس إلى الأشياء وتأمّل منها.
والظّاهر أنّ وجه الجمع بين الأفئدة والأبصار وعدم الاستغناء بالأفئدة عن الأبصار لأنّ الأفئدة تختصّ بإدراك الآيات العقليّة المحضة، مثل آية الأمِّية وآيةِ الإعجاز.
ولمّا لم تكفهم الآيات العقليّة ولم ينتفعوا بأفئدتهم لأنّها مقلَّبة عن الفطرة وسألوا آيات مرئيّة مبصَرة، كأنْ يرقى في السّماء وينزلَ عليهم كتابًا في قرطاس، أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنّهم لو جاءتهم آية مبصرة لَمَا آمنوا لأنّ أبصارهم مقلّبة أيضًا مثل تقليب عقولهم.
وذُكِّر {أوّل} مع أنّه مضاف إلى {مرّة} إضافة الصفة إلى الموصوف لأنّ أصل {أوّل} اسمُ تفضيل.
واسم التّفضيل إذا أضيف إلى النّكرة تعيّن فيه الإفراد والتّذكير، كما تقول: خَديجَةُ أوّل النّساء إيمانًا ولا تقول أولى النّساء.
والمراد بالمرّة مرّة من مَرّتَيْ مجيء الآيات، فالمرّة الأولى هي مَجيء القرآن، والمرّة الثّانية هي مجيء الآية المقترحة، وهي مرّة مفروضة.
{ونَذَرُهم} عطف على {نُقلّب}.
فحُقِّق أنّ معنى {نقلّب أفئدتهم} نتركها على انقلابها الّذي خلقت عليه، فكانت مملوءة طغيانًا ومكابرة للحقّ، وكانت تصرف أبصارهم عن النّظر والاستدلال، ولذلك أضاف الطّغيان إلى ضميرهم للدّلالة على تأصّله فيهم ونشأتهم عليه وأنّهم حرموا لين الأفئدة الّذي تنشأ عنه الخشيةُ والذّكرى.
والطّغيان والعَمَه تقدّمًا عند قوله تعالى: {ويمُدّهم في طغيانهم يعمهون} في سورة [البقرة: 15].
والظّرفيّة من قوله: {في طغيانهم} مجازية للدّلالة على إحاطة الطّغيان بهم، أي بقلوبهم.
وجملة: {ونذرهم} معطوفة على {نقلّب}.
وجملة {يعمهون} حال من الضّمير المنصوب في قوله: {ونذرهم}.
وفيه تنبيه على أنّ العمَه ناشيء عن الطّغيان. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة الأنعام: آية 95]

{إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)}.
{فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى} بالنبات والشجر. وعن مجاهد: أراد الشقين الذين في النواة والحنطة {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي الحيوان، والنامي من النطف. والبيض والحب والنوى {وَمُخْرِجُ} هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي- فإن قلت: كيف قال: {مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} بلفظ اسم الفاعل، بعد قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} قلت: عطفه على فالق الحب والنوى، لا على الفعل، ويخرج الحىَّ من الميت: موقعه موقع الجملة المبينة لقوله: {فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى} لأنّ فلق الحب والنوى بالنبات والشجر النامين من جنس إخراج الحىّ من الميت، لأنّ النامي في حكم الحيوان. ألا ترى إلى قوله: {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها}، {ذلِكُمُ اللَّهُ} أي ذلكم المحيي والمميت هو اللّه الذي تحق له الربوبية {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عنه وعن توليه إلى غيره.

.[سورة الأنعام: آية 96]

{فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبانًا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)}.
{الْإِصْباحِ} مصدر سمى به الصبح. وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح وأنشد قوله:
أفنى رباحا وبنى رباح ** تناسخ الإمساء والإصباح

بالكسر والفتح مصدرين، وجمع مساء وصبح. فإن قلت: فما معنى فلق الصبح، والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح، كما قال:
تردّت به ثمّ انفرى عن أديمها ** تفرّى ليل عن بياض نهار

قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد فالق ظلمة الإصباح، وهي الغبش في آخر الليل، ومنقضاه الذي يلي الصبح. والثاني: أن يراد فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره. وقالوا: انشق عمود الفجر. وانصدع الفجر. وسموا الفجر فلقا بمعنى مفلوق.
وقال الطائي:
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ** وأوّل الغيث قطر ثمّ ينسكب

وقرئ: فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنًا، بالنصب على المدح. وقرأ النخعي: فلق الإصباح وجعل الليل. والسكن: ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحًا إليه، من زوج أو حبيب. ومنه قيل للنار: سكن، لأنه يستأنس بها. ألا تراهم سموها المؤنسة، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه. ويجوز أن يراد: وجعل الليل مسكونًا فيه من قوله لتسكنوا فيه {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} قرئا بالحركات الثلاث، فالنصب على إضمار فعل دل عليه جاعل الليل، أي وجعل الشمس والقمر حسبانًا. أو يعطفان على محل الليل. فإن قلت كيف يكون لليل محل والإضافة حقيقية، لأنّ اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضىّ، ولا تقول: زيد ضارب عمرا أمس؟ قلت: ما هو في معنى المضىّ، وإنما هو دال على جعل مستمرّ في الأزمنة المختلفة، وكذلك فالق الحب، وفالق الإصباح، كما تقول: اللّه قادر عالم، فلا تقصد زمانًا دون زمان، والجر عطف على لفظ الليل، والرفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: والشمس والقمر مجعولان حسبانًا، أو محسوبان حسبانًا. ومعنى جعل الشمس والقمر حسبانًا: جعلهما على حسبان، لأنّ حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما. والحسبان- بالضم: مصدر حسب، كما أنّ الحسبان- بالكسر- مصدر حسب. ونظيره الكفران والشكران {ذلِكَ} إشارة إلى جعلهما حسبانا، أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} الذي قهرهما وسخرهما {الْعَلِيمِ} بتدبيرهما وتدويرهما.

.[سورة الأنعام: آية 97]

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)}.
{فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} في ظلمات الليل بالبر والبحر، وأضافها إليهما لملابستها لهما، أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات.