فصل: (سورة الأنعام: آية 110)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنعام: آية 110]

{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}.
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ... وَنَذَرُهُمْ} عطف على يؤمنون، داخل في حكم وما يشعركم، بمعنى:
وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يشعركم اما نقلب أفئدتهم وأبصارهم: أي نطبع على قلوبهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا. أو لا يؤمنون بها لكونهم مطبوعا على قلوبهم، وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم أي نخليهم وشأنهم لا نكفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه. وقرئ: ويقلب. ويذرهم بالياء أي اللّه عزّ وجلّ. وقرأ الأعمش: وتقلب أفئدتهم وأبصارهم، على البناء للمفعول. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}.
التفسير: لما نبه إجمالًا بغير علم على الدليل على إبطال قول من خرق له بنين وبنات، فصل ذلك بقوله: {بديع السموات والأرض} الآية. والمراد هو بديع السموات، ويجوز أن يكون {بديع} مبتدأ والجملة بعده خبره. وتقرير الدليل أنكم إما أن تريدوا بكون عيسى ولدًا له أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غيره تقدم نطفة ولا أب وحينئذ يلزمكم القول بأنه والد السموات والأرض بكونه مبدعًا لهما وهذا باطل بالاتفاق، وإما أن تريدوا به الولادة كما هو المألوف في الحيوانات وهذا أيضًا محال لأن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة من جنسه وينفصل منه جزء يحتبس في رحمها، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة، وكل ذلك على الله محال وأشار إلى هذا بقوله: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} وأيضًا الولد بهذا الطريق إنما يتصور في حق من لا يقدر على خلق الأشياء دفعة واحدة، أما الذي إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون فذلك في حقه مستحيل، وإلى هذا أشار بقوله: {خلق كل شيء} وأيضًا هذا الولد لا يكون أزليًا وإلا كان واجبًا لذاته غنيًا عن غيره فبقي أن يكون حادثًا فنقول: إنه تعالى عالم بكل المعلومات أزلًا وأبدًا كما قال: {وهو بكل شيء عليم} فإن كان قد علم أن له في تحصيل ذلك الولد كمالًا أو نفعًا أو لذة لتعلقت إرادته بإيجاده في الأزل دفعًا لذلك الاحتياج والنقصان، فيكون الولد أزليًا على تقدير كونه حادثًا هذا خلف، فتبين أن إله العالم فرد واحد صمد منزه عن الشريك والنظير والأضداد والأنداد والأولاد، فلهذا صرح بالنتيجة فقال: {ذلكم الله} فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم الموصوف الجامع لتلك الصفات المقدسة هو الله إلى آخره.
وإنما قال هاهنا {لا إله إلا هو خالق كل شيء} وفي المؤمن بالعكس لأنه وقع هاهنا بعد ذكر الشركاء والبنين والبنات فكان رفع الشرك أهم، وهنالك وقع بعد ذكر خلق السموات والأرض فكان تقديم الخالقية أهم. ثم قال: {فاعبدوه} وهو مسبب عن مضمون الجملة المقتدمة يعني أن من استجمعت له هذه الكمالات كان حقيقًا بالعبادة {وهو} مع تلك الصفات {على كل شيء وكيل} يحفظه ويرزقه ويراقبه. قال في التفسير الكبير: إنه سبحانه أقام الدليل على وجود الخالق، ثم زيف طريق من أثبت له شريكًا وهذا القدر لا يوجب التوحيد المحض لكن للعلماء في إثبات التوحيد طرق منها: أن الدليل قد دل على وجود صانع، والزائد على الواحد لم يدل دليل على ثبوته فليس عدد أولي من عدد آخر فيلزم آلهة لا نهاية لها، أو القول بعدد معين بلا ترجيح وكلاهما محال فلم يبق إلا الاكتفاء بواحد وهو المطلوب. ومنها أنا لو قدّرنا إلهين قادرين على كل المقدورات عالمين بكل المعلومات، فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلًا لذلك الفعل مانعًا للآخر من تحصيل مقدوره وذلك يوجب أن يكون كل واحد يعجز الآخر وهو محال، وإن كان في أحدهما عجز ونقص لم يصلح للإلهية. ومنها أنا لو فرضنا إلهًا ثانيًا فكان إما أن يكون الثاني مشاركًا للأوّل في جميع صفات الكمال أولا. وعلى الأول لابد أن يحصل الامتياز بأمر وإلا لم يحصل التعدد، فذلك المميز إن كان من صفات الكمال لم يكن جميع صفات الكمال مشتركة بينهما، وإن كان من صفات النقص فالموصوف به لا يصلح للإلهية وكذا إن لم يكن الثاني مشاركًا للأوّل في جميع صفات الكمال فثبت التوحيد بهذه الدلائل، مع أن الدليل النقلي في التوحيد كاف والله أعلم. قالت الأشاعرة: عموم قوله: {خالق كل شيء} يدل على أنه خالق أفعال العباد. وقالت المعتزلة: إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح ولكنه لا يتمدح بخلق الزنا والكفر واللواط، وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارًا. وأيضًا احتج كثير من المعتزلة به على نفي الصفات وعلى أن القرآن مخلوق.
أما الثاني فلأن القرآن شيء فيدخل تحت العموم. وأما الأوّل فلأن الصفات لو كانت موجودة له تعالى لزم أن تكون مخلوقة له. وأجيب بأنكم تخصصون هذا العام بحسب ذاته ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقًا لنفسه وبحسب أفعال العباد، فنحن أيضًا نخصصه بحسب الصفات وبحسب القرآن. وأما الفرق بين قوله: {وخلق كل شيء} وقوله: {خالق كل شيء} فذلك لأن الأول يتعلق بالزمان الماضي، والثاني يتناول الأوقات كلها على سبيل الاستمرار. ثم بين أن شيئًا من القوى المدركة لا يحيط بحقيقته وأن عقلًا من العقول لا يقف على كنه صمديته فقال: {لا تدركه الأبصار} هذه الآية من مشهورات استدلالات المعتزلة على نفي رؤيته تعالى. قالوا: الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قول القائل: أدركته ببصري وما رأيته متناقضان. ثم إن قوله: {لا تدركه الأبصار} يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال بدليل صحة الاستثناء. وأيضًا أنه ذكر الآية في معرض المدح والثناء، وكل ما كان عدمه مدحًا ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصًا كقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] {لم يلد ولم يولد} [الصمد: 3] فوجب كون الرؤية نقصًا في حقه تعالى. وإنما قيدوا بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى يمتدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله: {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46] مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم. وأجيب بالمنع من أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لأنه في أصل اللغة موضوع للوصول واللحوق ومنه: {قال أصحاب موسى إنا لمدركون} [الشعراء: 61] أي لملحقون وقوله تعالى: {حتى إذا أدركه الغرق} [يونس: 90] أي لحقه. وأدرك الغلام أي بلغ، وأدركت الثمرة إذا نضجت. وإذ قد ثبت ذلك فنقول: الرؤية جنس والإدراك أي إدراك البصر رؤية مع الإحاطة. ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام، فلا يلزم من نفي إدراك البصر نفي الرؤية. سلمنا أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لكن قوله: {لا تدركه الأبصار} لا يفيد إلا نفي العموم وأنتم تدعون عموم النفي فأين ذاك من هذا. وإنما قلنا إنه لا يفيد إلا نفي العموم لأن صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضًا. فقوله: {لا تدركه الأبصار} يفيد أنها لا تدركه في الدنيا وأنها تركه إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها في الآخرة، أو نقول قول القائل: لا يدركه جميع الأبصار يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب، فلم لا يجوز أن يفيد أنه يدركه بعض الأبصار كما لو قيل إن محمدًا ما آمن به كل الناس فإنه يفيد أنه آمن به بعض الناس، سلمنا أن الأبصار لا تدركه البتة فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة كما هو مذهب ضرار بن عمرو الكوفي.
أو نقول: سلمنا أن الأبصار لا تدركه فلم قلتم إن المبصرين لا يدركونه، أما قولهم إن الآية مذكورة في معرض المدح فنقول: لو لم يكن الله تعالى جائز الرؤية لما حصل المدح بقوله: {لا تدركه الأبصار} وإنما يحصل التمدح لو كان بحيث نصح رؤيته. ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته لغاية جلاله ونهاية جماله. والتحقيق فيه أن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجبًا للمدح والعلم به ضروري، بل إذا كان النفي دليلًا على حصول صفة ثابتة من صفات المدح قيل: إن ذلك النفي يوجب التمدح كقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] فإنه لا يفيد المدح نظرًا إلى هذا النفي، فإن الجماد أيضًا لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه عالمًا بجميع المعلومات من غير تبدل ولا زوال. فقوله: {لا تدركه الأبصار} يمتنع أن يفيد المدح إلا إذا دل على معنى موجود وذلك ما قلناه من كونه قادرًا على حجب الأبصار ومنعها عن الإحاطة به، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية عليكم لا لكم لأنها أفادت أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته. ثم نقول: إذا ثبت ذلك يجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة لأن القائل قائلان: قائل بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه، وقائل لا يرونه ولا تجوز رؤيته، وإذا بطل هذا القول يبقى الأول حقًا لأن القول بجواز رؤيته مع أنه لا يراه أحد قول لم يقل به أحد وهذا استدلال لطيف. ثم إن القاضي استدل هاهنا على نفي الرؤية بوجوه أخر خارجة عن التفسير لائقة بالأصول. فأولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضرًا وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة- وهو أن لا يحصل القرب القريب والبعد البعيد وارتفع الحجاب وكان المرئي مقابلًا أو في حكم المقابل- فإنه يجب حصول الرؤية وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبول ونحن لا نسمعها ولا نراها، وهذا يوجب السفسطة إذا ثبت هذا فنقول: القرب القريب والبعد البعيد والحجاب والمقابلة في حقه تعالى ممتنع، فلو صحت رؤيته كان المقتضي لحصول تلك الرؤية سلامة الحاسة وكون المرئي بحيث يصح رؤيته، وهذان المعنيان حصلان في هذا الوقت فوجب أن تحصل رؤيته، وحيث لم تحصل علمنا أن رؤيته ممتنعة في نفسها. وأجيب بأن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ولا يلزم من ثبوت حكم لشيء ثبوت مثله فيما يخالفه. وثانيها لو صحت رؤيته لأهل الجنة لرآه أهل النار أيضًا لأن القرب والبعد والحجاب ممتنع في حقه تعالى. وأجيب لأنه لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى الرؤية في عيون أل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار؟ وثالثها أن كل ما كان مرئيًا كان مقابلًا أو في حكم المقابل، والله تعالى منزه عن ذلك.
وأجيب بمنع الكلية وبأنه إعادة لعين الدعوى لأن النزاع واقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصًا بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا. ورابعها أن أهل الجنة يلزم أن يروه في كل حال حتى عند الجماع لأن القرب والبعد عليه تعالى محال، ولأن رؤيته أعظم اللذات وفوات ذلك يوجب الغم والحزن وذلك لا يليق بحال أهل الجنة. وأجيب بأنهم لعلهم يشتهون الرؤية في حال دون حال كسائر الملاذ والمنافع.
في تعديد الوجوه الدالة على جواز الرؤية: منها هذه الآية كما بينا. ومنها أن موسى عليه السلام طلب الرؤية فدل ذلك على جوازها. ومنها أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز. ومنها قوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] قد اتفق الجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله فسر الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية، ومنها قوله: {فمن كان يرجوا لقاء ربه} [الكهف: 110] ونحو ذلك من الآيات الدالة على اللقاء، ومنها قوله: {كانت لهم جنات الفروس نزلًا} [الكهف: 107] والاقتصار على النزل لا يجوز فالزائد على جنات الفردوس لا يكون إلا اللقاء. ومنها قوله: {ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 13] وسوف يأتي في سورة النجم إن شاء الله تعالى. ومنها قوله: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22، 23] ومنها قوله: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15] فيكون المؤمنون غير محجوبين. ومنها قوله: {فيها ما تشتهيه الأنفس} [الزخرف: 71] ولا شك أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله على أكل الوجوه وأكمل طرق المعرفة هو العيان. ومنها قوله: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيمًا وملكًا كبيرًا} [الدهر: 20] فيمن قرأ بفتح الميم وكسر اللام. وأما الأخبار فكثيرة منها: الحديث المشهور: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا تشبيه المرئي بالمرئي. ومنها أن الصحابة اختلفوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله هل رأى الله تعالى ليلة المعراج ولم يكفر بعضهم بعضًا بهذا السبب فدل ذلك على أنهم كانوا يجمعون على إمكان الرؤية. أما قوله تعالى: {وهو يدرك الأبصار} ففيه دليل على أنه سبحانه مبصر للمبصرات، راء للمرئيات، مطلع على ماهياتها، عليم بعوارضها وذاتياتها. ثم قال: {وهو اللطيف الخبير}.
وليس المراد باللطافة ضد الكثافة وهو رقة القوام فإن ذلك من صفات الأجسام، بل المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها إلا مبدعها. أو المراد أنه لطيف في الإنعام والرحمة لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم فوق استحقاقهم.
أو الغرض أنه يثني عليهم بالطاعة، ولا يقطع موادّ إحسانه عنهم بالمعصية. أو المراد أنه يلطف عن أن يدركه الأبصار الخبير بكل لطيف ولا يلطف شيء عن إدراكه، ثم عاد إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة فقال: {قد جاءكم بصائر} أي موجباتها والبصيرة للقلب بمنزلة البصر للعين. {فمن أبصر} الحق وآمن {فلنفسه} أبصر وإياها نفع. {ومن عمي} عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر. قالت المعتزلة: فيه تصريح بأن العبد يتمكن من الأمرين: الفعل والترك. وعورض بالعلم والداعي {وما أنا عليكم بحفيظ} أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم. ثم حكى شبه المنكرين بقوله: {وكذلك} أي مثل ذلك التقرير البليغ {نصرف الآيات} نأتي بها متواترة حالًا بعد حال {وليقولوا} عطف على محذوف أي لتلزمهم الحجة وليقولوا أو متعلق بما بعده أي وليقولوا درست نصرفها. ومعنى {درست} قرأت وتعلمت من الدرس، ومن قرأ {دارست} أي قرأت على اليهود وقرؤا عليك وجرت بينك وبينهم مدارسة ومذاكرة. وأما قراءة ابن عامر {درست} فهي من الدروس بمعنى أن هذه الآيات قد درست وعفت أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا من جملة أساطير القرون الخالية، قالت العلماء: التركيب يدل على التذليل والتليين لأن من درس الكتاب فقد ذلله بكثرة القراءة، ومنه قيل للثواب الخلق دريس، لأنه قد لان فكأنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله صرف الآيات وهو أمران: أحدهما قوله: {وليقولوا دارست} والثاني قوله: {ولنبينه} أما الثاني فلا إشكال فيه لأنه بيّن أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والعلم والضمير في {لنبينه} للآيات لأنها في معنى القرآن، أو يعود إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به، أو إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل نحو: ضربته زيدًا أي ضربت الضرب زيدًا. وأما الأول فقد أورد عليه أن قولهم للرسول {دارست} كفر منهم بالقرآن والرسول، وعلى هذا فتعود مسألة الجبر والقدر، أما الأشاعرة فأجروا الكلام على ظاهره وقالوا: معناه أنا ذكرنا هذه الدلائل حالًا بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفرًا على كفر، ونبينه لبعض فيزدادوا إيمانًا على إيمان كقوله: {يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا} [البقرة: 26] وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم والقاضي: إن هذا الإثبات محمول على النفي والتقدير: نصرف الآيات لئلا يقولوا كقوله: {يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء: 176] أي لئلا تضلوا. أو المراد لام العاقبة، وزيف بأن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وفتح هذا الباب يخرج الكتاب عن أن يكون حجة. وأيضًا إنه مناف للمقصود لأن إنزال الآيات نجمًا فنجمًا هو الذي أوقع الشبهة للقوم في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما أتى بالقرآن على سبيل المدارسة والمذاكرة مع أقوام آخرين، ولهذا كانوا يقولون لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة.