فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة} فرأوْهم عيانًا.
{وَكَلَّمَهُمُ الموتى} بإحيائنا إيّاهم.
{وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} سألوه من الآيات.
{قُبُلًا} مُقابلة؛ عن ابن عباس وقَتادة وابن زيد.
وهي قراءة نافع وابن عامر.
وقيل: معاينة، لَمَا آمنوا.
وقال محمد بن يزيد: يكون {قِبلًا} بمعنى ناحية؛ كما تقول لي قِبَل فلان مالٌ؛ فَقِبِلًا نصب على الظرف.
وقرأ الباقون {قُبُلًا} بضم القاف والباء، ومعناه ضمَناء؛ فيكون جمع قبِيل بمعنى كفيل، نحو رغِيف ورُغُف؛ كما قال: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلًا} [الإسراء: 92]؛ أي يضمنون ذلك؛ عن الفرّاء.
وقال الأخفش: هو بمعنى قَبِيل قَبيل؛ أي جماعة جماعة، وقاله مجاهد، وهو نصب على الحال على القولين.
وقال محمد بن يزيد {قُبُلًا} أي مقابلة؛ ومنه: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} [يوسف: 26].
ومنه قُبُل الرجل ودُبُره لِما كان من بين يديه ومن ورائه.
ومنه قُبُل الحيض.
حكى أبو زيد: لقِيت فلانًا قُبُلًا ومقابلة وقَبَلًا وقِبُلًا، كله بمعنى المواجهة؛ فيكون الضم كالكسر في المعنى وتستوي القراءتان؛ قاله مَكِّيّ.
وقرأ الحسن {قُبْلًا} حذف الضمة من الباء لثقلها.
وعلى قول الفَرّاء يكون فيه نطق ما لا ينطق، وفي كفالة ما لا يعقل آية عظيمة لهم.
وعلى قول الأخفش يكون فيه اجتماع الأجناس الذي ليس بمعهود. والحشر الجمع. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلًا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} أي لو أتيناهم بالآيات التي اقترحوها من إنزال الملائكة في قولهم: {لولا أنزل عليه ملك} وتكليم الموتى إياه في قولهم: {فأتوا بآبائنا} وفي قولهم أخي قصي بن كلاب وجدعان بن عمرو، وهما أمينا العرب، والوسطان فيهم.
وحشر كل شيء عليهم من السباع والدواب والطيور وشهادتهم بصدق الرسول.
وقال الزمخشري: {وحشرنا عليهم كل شيء} قالوا: {أو تأتي بالله والملائكة قبلًا} وقرأ نافع وابن عامر قبلًا بكسر القاف وفتح الباء، ومعناه مقابلة أي عيانًا ومشاهدة.
قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد، ونصبه على الحال.
وقال المبرد: معناه ناحية كما تقول: زيد قبلك، ولي قبل فلان دين، فانتصابه على الظرف وفيه بعد.
وقرأ باقي السبعة قبلًا بضم القاف والباء.
فقال مجاهد وابن زيد وعبد الله بن يزيد: جمع قبيل وهو النوع، أي نوعًا نوعًا وصنفًا صنفًا.
وقال الفراء والزجاج: جمع قبيل بمعنى كفيل أي: كفلًا بصدق محمد.
يقال قبلت الرجل أقبله قبالة، أي كفلت به والقبيل والكفيل والزعيم والأدين والحميل والضمين بمعنى واحد.
وقيل قبلًا بمعنى قبلًا أي مقابلة ومواجهة.
ومنه أتيتك قبلًا لا دبرًا.
أي من قبل وجهك.
وقال تعالى: {إن كان قميصه قدّ من قبل} وقرئ لقبل عدتهن: أي لاستقبالها ومواجهتها.
وهذا القول عندي أحسن لاتفاق القراءتين.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة، قبلًا بضم القاف وسكون الباء على جهة التخفيف من الضم.
وقرأ أبيّ والأعمش {قبيلًا} بفتح القاف وكسر الباء وياء بعدها، وانتصابه في هذه القراءة على الحال.
وقرأ ابن مصرّف بفتح القاف وسكون الباء. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة}
تصريح بما أشعر به قوله عز وجل: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] إلخ من الحكمة الداعية إلى ترك الإجابة إلى ما اقترحوا وبيان لكذبهم في إيمانهم على أبلغ وجه وآكده أي ولو أنا لم نقتصر على ما اقترحوه هاهنا بل نزلنا إليهم الملائكة كما سألوه بقولهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة} [الفرقان: 21] وقولهم: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} [الحجر: 7].
{وَكَلَّمَهُمُ الموتى} بأن أحييناهم وشهدوا بحقية الإيمان حسبما اقترحوه بقولهم: {فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا} [الدخان: 36] {وَحَشَرْنَا} أي جمعنا وسوقنا {عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْء قُبُلًا} أي مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم كما روي عن ابن عباس وقتادة، وهو على هذا مصدر كما قاله غير واحد وإلى ذلك ذهب ابن زيد، وعنه: يقال لقيت فلانًا قبلًا ومقابلة وقبلًا وقبلًا وقبيلًا كله بمعنى واحد وهو المواجهة.
ونقل الراغب أنه جمع قابل بمعنى مقابل لحواسهم، وقيل: هو جمع قبيل بمعنى كفيل كرغيف ورغف وقضيب وقضب فهو من قولك: قبلت الرجل وتقبلت به إذا تفلت به، ومنه القبالة لكتاب العهد والصك وروي ذلك عن الفراء.
وعن مجاهد تفسيره بالجماعة على أنه جمع قبيلة كما قال الراغب.
ونقل تفسيره بالكفيل وبالجماعة وكذا بالمعاينة والمقابلة في قوله تعالى: {أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلًا} [الإسرار: 92] أي لو أحضرنا لديهم كل شيء تتأتى منه الكفالة والشهادة بحقية الايمان لا فرادى بل بطريق المعية أو لو حشرنا عليهم كل شيء جماعات في موقف واحد.
{مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي ما صح ولا استقام لهم الإيمان، وانتصاب {قُبُلًا} على هذه الأقوال على أنه حال من {كُلٌّ} وساغ ذلك على القول بجمعيته لأن كلًا يجوز مراعاة معناه ومراعاة لفظه كما نص عليه النحاة واستشهدوا له بقول عنترة:
جادت عليه كل عين ثرة ** فتركن كل حديقة كالدرهم

إذ قال تركن دون تركت فلا حاجة إلى ما قيل: إن ذلك باعتبار لازمه وهو الكل المجموعي وقرأ نافع وابن عامر {قُبُلًا} بكسر القاف وفتح الباء وهو مصدر بمعنى مقابلة ومشاهدة، ونصبه على الحال كما قال الفراء والزجاج وكثير وعن المبرد أنه بمعنى جهة وناحية فانتصابه على الظرفية كقولهم: لي قبل فلان كذا.
وقرئ {قُبلًا} بضم فسكون. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ}
جملة {وَلَوْ أَنَّنَا} معطوفة على جملة {وما يُشعركم} [الأنعام: 109] باعتبار كون جملة {وما يُشعركم عطفًا على جملة قل إنّما الآيات عند الله} [الأنعام: 109]، فتكون ثلاثتها ردّا على مضمون جملة {وأقسموا بالله جَهْد أيمانهم لئن جاءتهم آية} [الأنعام: 109] إلخ، وبيانا لجملة {وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} [الأنعام: 109].
روى عن ابن عبّاس: أنّ المستهزئين، الوليدَ بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسودَ بن عَبْدِ يغوثَ، والأسودَ بنَ المطّلب، والحارثَ بن حنظلة، من أهل مكّة.
أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رَهْط من أهل مكّة فقالوا: «أرِنا الملائكةَ يشهدون لك أوْ ابعث لنا بعض موتانا فنسألهم: أحقّ ما تقول» وقيل: إن المشركين قالوا: «لا نؤمن لك حتَّى يُحشر قُصَيٌ فيُخبِرَنا بصِدْقك أو ائتِنا بالله والملائكة قبيلًا أي كفيلًا» فنزل قوله تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} للردّ عليهم.
وحكى الله عنهم {وقالوا لن نؤمن لك إلى قوله أو تأتي بالله والملائكة قبيلا} في سورة الإسراء: [90 92].
وذَكر ثلاثة أشياء من خوارق العادات مسايرة لمقترحاتهم، لأنَّهم اقترحوا ذلك.
وقوله: {وحَشَرنا عليهم كلّ شيء} يشير إلى مجموع ما سألوه وغيرِه.
والحَشر: الجمع، ومنه: {وحُشر لسليمان جنوده} [النمل: 17].
وضمّن معنى البعث والإرسَاللِ فعُدّي بعلَى كما قال تعالى: {بعثنا عليكم عبادًا لنا} [الإسراء: 5].
و{كل شيء} يعمّ الموجودات كلّها.
لكن المقام يخصّصه بكلّ شيء ممّا سألوه، أو من جنس خوارق العادات والآيات، فهذا من العام المراد به الخصوص مثل قوله تعالى، في ريح عاد {تدمر كل شيء بأمر ربها} [الأحقاف: 25] والقرينة هي ما ذكر قبله من قوله: {ولو أنَّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى}.
وقوله: {قِبَلًا} قرأه نافع، وابن عامر، وأبو جعفر بكسر القاف وفتح الباء، وهو بمعنى المقابلة والمواجهة، أي حشرنا كلّ شيء من ذلك عيانًا.
وقرأه الباقون بضمّ القاف والباء وهو لغة في قِبَل بمعنى المواجهة والمعاينة؛ وتأوّلها بعض المفسّرين بتأويلات أخرى بعيدة عن الاستعمال، وغير مناسبة للمعنى. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} ففيه مسألتان:

.المسألة الأولى: في القول في مشيئة الله في إيمان الناس:

المراد من الآية أنه تعالى لو أظهر جميع تلك الأشياء العجيبة الغريبة لهؤلاء الكفار فإنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله إيمانهم.
قال أصحابنا: فلما لم يؤمنوا دل ذلك الدليل على أنه تعالى ما شاء منهم الإيمان، وهذا نص في المسألة.
قالت المعتزلة: دل الدليل على أنه تعالى أراد الإيمان من جميع الكفار، والجبائي ذكر الوجوه المشهورة التي لهم في هذه المسألة.
أولها: أنه تعالى لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم لم يجب عليهم.
وثانيها: لو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر مطيعًا لله بفعل الكفر، لأنه لا معنى للطاعة إلا بفعل المراد، وثالثها: لو جاز من الله أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به، ورابعها: لو جاز أن يريد منهم الكفر لجاز أنه يأمرنا بأن نريد منهم الكفر.
قالوا: فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما شاء إلا الإيمان منهم وظاهره هذه الآية يقتضي أنه تعالى ما شاء الإيمان منهم، والتناقض بين الدلائل ممتنع فوجب التوفيق، وطريقه أن نقول إنه تعالى شاء من الكل الإيمان الذي يفعلونه على سبيل الاختيار وأنه تعالى ما شاء منهم الإيمان الحاصل على سبيل الإلجاء والقهر وبهذا الطريق زال الإشكال.
واعلم أن هذا الكلام أيضًا ضعيف من وجوه: الأول: أن الإيمان الذي سموه بالإيمان الاختياري إن عنوا به أن قدرته صالحة للإيمان والكفر على السوية، ثم إنه يصدر عنها الإيمان دون الكفر لا لداعية مرجحة ولا لإرادة مميزة، فهذا قول برجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال، وأيضًا فبتقدير أن يكون ذلك معقولًا في الجملة إلا أن حصول ذلك الإيمان لا يكون منه، بل يكون حادثًا لا لسبب ولا مؤثر أصلًا لأن الحاصل هناك ليس إلا القدرة وهي بالنسبة إلى الضدين على السوية، ولم يصدر من هذا القدر تخصيص لأحد الطرفين على الآخر بالوقوع والرجحان، ثم إن أحد الطرفين قد حصل بنفسه فهذا لا يكون صادرًا منه بل يكون صادرًا لا عن سبب ألبتة، وذلك يبطل القول بالفعل والفاعل والتأثير والمؤثر أصلًا، ولا يقوله عاقل، وإما أن يكون هذا الذي سموه بالإيمان الاختياري هو أن قدرته وإن كانت صالحة للضدين إلا أنها لا تصير مصدرًا للإيمان إلا إذا انضم إلى تلك القدرة حصول داعية الإيمان كان هذا قولًا بأن مصدر الإيمان هو مجموع القدرة مع الداعي، وذلك المجموع موجب للإيمان، فذلك هو عين ما يسمونه بالجبر وأنتم تنكرونه.
فثبت أن هذا الذي سموه بالإيمان الاختياري لم يحصل منه معنى معقول مفهوم، وقد عرفت أن هذا الكلام في غاية القوة.
والوجه الثاني: سلمنا أن الإيمان الاختياري مميز عن الإيمان الحاصل بتكوين الله تعالى إلا أنا نقول قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة} وكذا وكذا ما كانوا ليؤمنوا، معناه: ما كانوا ليؤمنوا إيمانًا اختياريًا بدليل أن عند ظهور هذه الأشياء لا يبعد أن يؤمنوا إيمانًا على سبيل الإلجاء والقهر.
فثبت أن قوله: {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} المراد: ما كانوا ليؤمنوا على سبيل الاختيار، ثم استثنى عنه فقال: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} والمستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى عنه.
والإيمان الحاصل بالإلجاء والقهر ليس من جنس الإيمان الاختياري.
فثبت أنه لا يجوز أن يقال المراد بقولنا إلا أن يشاء الله، الإيمان الاضطراري بل يجب أن يكون المراد منه الإيمان الاختياري، وحينئذ يتوجه دليل أصحابنا ويسقط عنه سؤال المعتزلة بالكلية.

.المسألة الثانية: القول في المشيئة هل هي قديمة أم حادثة؟

قال الجبائي قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} يدل على حدوث مشيئة الله تعالى، لأنها لو كانت قديمة لم يجز أن يقال ذلك، كما لا يقال لا يذهب زيد إلى البصرة إلا أن يوحد الله تعالى، وتقريره، أنا إذا قلنا: لا يكون كذلك إلا أن يشاء الله فهذا يقتضي تعليق حدوث هذا الجزاء على حصول المشيئة فلو كانت المشيئة قديمة لكان الشرط قديمًا، ويلزم من حصول الشرط حصول المشروط، فيلزم كون الجزاء قديمًا.
والحس دل على أنه محدث فوجب كون الشرط حادثًا، وإذا كان الشرط هو المشيئة لزم القول بكون المشيئة حادثة.
هذا تقرير هذا الكلام.
والجواب: أن المشيئة وإن كانت قديمة إلا أن تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحال إضافة حادثة وهذا القدر يكفي لصحة هذ الكلام، ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله: {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} قال أصحابنا: المراد، يجهلون بأن الكل من الله وبقضائه وقدره.
وقال المعتزلة: المراد، أنهم جهلوا أنهم يبقون كفارًا عند ظهور الآيات التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها وكان أكثرهم يظنون ذلك. اهـ.