فصل: تفصيل بعد إجمال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هل للإنسان إرادة؟
هذا سؤال لا يكاد يتردد أحد في الإجابة عليه بنعم!! فكل إنسان يعلم من نفسه، ومن تصرفات الناس حوله، أن للإنسان إرادة.. بها يتحرك ويعمل، وبها يأخذ ويدع.
ولكن حين يصبح السؤال هكذا:
هل للإنسان إرادة مع إرادة اللّه؟
هنا تأخذ المسألة وضعا آخر، وتدخل القضية في مجال النزاع والخلاف..
إنها قضية القضايا.. فهى ليست من القضايا ذات الصبغة المحلّية كما يقولون.. بين الإنسان والإنسان، أو بين الإنسان والطبيعة.. ولكنها بين الإنسان وبين اللّه.. بين العبد والرب.. بين المخلوق والخالق!
وما ظنّك بقضية يكون العبد فيها خصما لربّه، أو محاجّا لخالقه؟ إنها حينئذ تكون قصية شائكة محرجة.. فيها لجاجة وخروج على مقتضى العبودية..
فيها تجديف وضلال، وفيها مزالق وعثرات! ونعم.. الطريق شائك، مليء بالمزالق والعثرات.. ولكن هيهات أن يمسك الإنسان نفسه عن السير فيه.. فإن استطاع أن يمسك قلمه، أو لسانه، فإنه ليس بمستطيع أن يمسك زمام خواطره ووساوسه.. بحال أبدا..
أما والأمر كذلك، فخير للمرء أن يواجه المشكلة، وأن يقتحم عليها موطنها، قبل أن تفجأه على غرّة، وتهجم عليه على حين غفلة، فتنال منه، وتفسد عليه رأيه، أو تدخل الشك والوسوسة على عقيدته.
وأما وقد رضينا أن نواجه المشكلة، ونقتحم عليها حماها، فإنه يجب علينا أن نأخذ لها حذرنا وأسلحتنا.. شأن من يتهيأ لصراع عنيف، ويدخل في معركة حاسمة..!
وزادنا في هذه المعركة، هو إيمان باللّه.. إيمان وثيق، لا تزعزعه الأعاصير العاتية، ولا تنال منه الأحداث المزلزلة.. وأمّا سلاحنا فهو عقل يقظ، وقلب سليم، ننظر بهما في كتاب اللّه، وفى سنّة رسول اللّه، في حدود ما وهبنا اللّه من استعداد فطرى، دون التطويح بالعقل، والشرود به في مجال غير مجاله الذي خلق له.. ذلك هو زادى، وهذا هو سلاحى.. فإن أردت أن تصحبنى على هذا الطريق، فخذ من الزاد والسّلاح ما أخذت.. وإلا فأنصح لك أن تكون حيث أنت، ولا تصاحبنى.. وحسبك أن تعود أدراجك ونحن على أول الطريق، وأن تطوى هذه الصفحات، لتستقبل ما بعدها مما نحن بسبيله من الوقوف بين يدى اللّه، وكلماته، على ما عهدت منا، قبل أن نأخذ في هذا الحديث..
فإن كنت قد رضيت صحبتى على ما اشترطت عليك فهيّا بنا إلى غايتنا..
ولكن مهلا.. هل اختبرت إيمانك؟ وهل أيقظت عقلك، وأحليت قلبك من كل شك ووسواس؟ لا بأس من أن تعيد النظر.. فإننا- كما قلت لك- لا نزال على الشاطئ، وقد يكون العود أحمد لك..!
وبعد، فإن كنت على عزيمة أن تسير معى، فلى عليك ما اشترط العبد الصالح على موسى، عليهما السلام: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}..
أنتحرك إذن؟ ليكن.. وعلى بركة اللّه.
هل للعبد إرادة مع اللّه؟
سنجيب على هذا السؤال بالجوابين المحتملين له.. فنقول: نعم مرة، ونقول: لا.
مرة أخرى.. وننظر.
القول بأن للعبد إرادة مع اللّه وهذا القول قالت به القدريّة من المعتزلة..
ويبنى على هذا القول أمران:
أولا: أن العبد خالق لأفعاله، مسئول عنها مسئولية كاملة..
وثانيا: أن ما يناله العبد من نعيم أو عذاب في الآخرة هو بسبب عمله الحسن، أو السيّء..
وقد بنى هذان الأمران عند القدرية على ما يأتى:
أولا: أن العبد لو لم يكن خالقا لأفعاله، وأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي خلقها، وأضافها إلى الإنسان، ثم عذّبه عليها- مع أنه لم يفعلها- لكان ظالما له، والظلم نقصان، لا يليق باللّه الموصوف بالكمال المطلق.
وكيف يفعل اللّه شيئا، ثم يلوم الإنسان عليه، ويقول له: كيف فعلته؟
ولم فعلته؟ وهو لم يكن له كيف، ولا فعل؟
إن اللّه عادل، وعدله يقضى بأن يحاسب العبد على ما فعل..
وإذن، فأفعال العبد مخلوقة له، ومحسوبة عليه..
وثانيا: أوجب القدريّة على اللّه أن يثيب الطائعين، كى لا يظلمهم، فإن الظلم نقصان لا يليق بربّ الأرباب! هذه هي حجة أو حجج من يقولون إن للعبد إرادة خالقة، مع إرادة الخالق..
القول بألا إرادة للعبد مع إرادة الرب وأهل السنة، هم أصحاب هذا القول.. وقد بنوه على أمرين كذلك:
أولا: أن كمال الإله هو في التفرد بكل شيء.. ونفى القدرة عيب، ونقصان.. والكمال يقتضى أن يكون كل شيء خاضعا لقدرة اللّه، جاريا على ما تقضى به حكمته ومشيئته..
وثانيا: إثابة المحسن، ليس لإحسانه وحده، وإنما ذلك من فضل اللّه عليه. وتعذيب من يعذبهم اللّه، ليس لذنوبهم وحدها، وإنما ذلك لحكمة يعلمها اللّه، وحسب نظام قدّره، وليس في هذا ظلم.. لأن الظلم إنما ينسب لمن يتصرف في غير ملكه، واللّه سبحانه إنما يتصرف فيما خلق..
وأهل السّنة- مع هذا- لا ينفون إرادة العبد أصلا، كما سنرى بعد، ولكن يرونها إرادة خاضعة لإرادة اللّه، جارية على تقديرها..
وهناك فريق ثالث- وهم الجبرية- لا يرون للعبد إرادة مطلقا، فيقولون: إن أفعال الإنسان اضطرارية، وأن كل ما يفعله لا إرادة له فيه، وإنما هو أشبه بآلة تعمل بلا وعى ولا عقل.. وأن المأمورات والمنهيات ليست موصوفة بالحسن والقبح، وإنما هي أوامر ونواه صادرة من جهة عليا، وعلى الإنسان أن يمتثل من غير أن يفكر في حسن المأمور به أو قبح المنهىّ عنه.. فالإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور على أفعاله، لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار، بل يخلق اللّه تعالى الأفعال فيه، كما يخلقها في سائر الكائنات، وتنسب إليه الأفعال مجازا كما ننسبها إلى الجمادات، كما يقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس..
والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال جبر.
هذا هو مجمل القول في إرادة العبد وإرادة اللّه، بين أطراف الخصومة عند جماعات المسلمين.
وأنت ترى بعد الشّقة بينهم.. فبينا يقول القدرية: إن العبد خالق لكل أفعاله، وأن إرادته مطلقة من كل قيد- إذ يقول الجبرية: إن العبد لا يفعل شيئا، وإنما اللّه سبحانه هو الذي يخلق ما يفعل العبد، وأن الإنسان والجماد في هذا سواء، كلاهما مسيرّ إلى غاية لا يملك من أمره معها شيئا.
أما أهل السنة، فقد ذهبوا بين الفريقين مذهبا وسطا.. قالوا بإرادة اللّه العامة الشاملة، وقالوا بإرادة العبد المحدودة الواقعة في محيط الإرادة العامة.
وقد دخلت هذه الآراء في مجال للصراع العنيف، واجتمع على كل رأى أنصار يدافعون عنه، ويحتجون له.. وكان الفلاسفة والمتكلمون فرسان الحلبة في هذا الصراع، يصولون ويجولون، ويحومون حول الكتاب والسنة، يأخذون منهما الحجة على خصومهم، فخلطوا في هذا بين فطرة الإسلام، وفلسفة اليونان، وما وصل إليهم من معتقدات فارس والهند وغيرهما.. وكان من هذا أن اتسعت شقّة الخلاف بين المتخاصمين، وانقسمت الفرق المختلفة على نفسها، فكان لكل فريق مقولات تدور حول الأصل الذي قام عليه الرأى في المذهب.

.تفصيل بعد إجمال:

ولكى نتعرف إلى وجه الحق في هذه القضية، يجب أن ننظر في آراء هذه الفرق، وفى الأدلة التي قدموها بين يدى هذه الآراء، ثم إن لنا بعد هذا رأينا، الذي نفقهه من ديننا، بعيدا عن التعصب المذهبى، أو التحزّب الطائفي، وخالصا من كل غرض، إلا ابتغاء الحق، وإلا إقامة العقيدة على الحق الذي نزل به الكتاب، وبيّنه الرسول.. كلّ هذا في إيجاز شديد، لأننا نعالج قضية شغل بها العقل الإنسانى منذ كان، وإلى أن يخلى مكانه من هذا العالم، وقد خلّف وراءه محصولا من الآراء والمقولات لا حصر لها.

.آراء القدرية:

برز من المعتزلة عدد غير قليل من ذوى اللّسن والرأى.. قالوا بالقدر، وسمّوا بالقدرية، لأنهم يقولون إن العبد قادر على خلق أفعاله، مختارا غير مضطر..
وقد استطاعوا بما لهم من فصاحة وعقل أن يصوروا آراءهم في منطق، وأن يصوغوها في قوالب من الفصاحة والبلاغة، بما كان لهم من نظر في كتب الفلسفة والمنطق، وبما اطلعوا عليه من المعتقدات الدينية الوافدة مع الداخلين في الإسلام من كل أمة.. فكانت لهم فلسفة، وكان لهم أدب.. وحسبك أن يكون من رجال هذه الطائفة.. واصل بن عطاء، والنّظّام، وأبو الهزيل العلّاف، والجاحظ، وجميعهم أئمة في الأدب، كما أنهم أئمة في الرأى..
وهذه مقولات لبعض رجالهم رأى واصل بن عطاء:
يقول واصل بن عطاء: إن اللّه تعالى حكيم عادل، ولا يجوز أن يضاف إليه شر وظلم، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر به، وأن يحكم عليهم شيئا ثم يحازيهم عليه! وهذا الذي يقوله واصل، حق لا شك فيه.. فاللّه حكيم عادل، ولكن مع حكمة اللّه وعدله، قدرته وإرادته، والقدرة والإرادة يقضيان بألا يقع في ملكه غير ما يشاء ويريد..
والسؤال هنا: هل الإنسان من القدرة والاستطاعة بحيث يتحكم في الأسباب الخارجة، التي تصادم القوى التي أودعها اللّه فيه.. من عقل وإرادة..؟
يقول واصل: فالعبد هو الفاعل للخير والشر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، وهو المجازى على فعله، والرب أقدره على ذلك كله.
ونقول: إذا كان اللّه أقدر العبد على كل ما يفعل من خير وشر، وإيمان وكفر، وطاعة ومعصية- فماذا بقي للعبد إذن؟ وكيف يضاف إليه كل ما يفعل، وهو إنما يفعل بالقدرة التي أقدره اللّه بها على فعل ما يفعل؟ كيف يتفق هذا مع ذك.؟
ويقول واصل أيضا: ويستحيل أن يخاطب اللّه العبد بافعل وهو لا يمكنه أن يفعل..؟
وهو- أي العبد- يحسّ من نفسه الاقتدار والفعل.. ومن أنكره فقد أنكر الضرورة! ونقول: إن مفهوم هذا القول يقتضى أن يقوم إزاءه قول آخر.. وهو: إنه يستحيل أن يخاطب اللّه العبد بألا تفعل ثم لا يمكّنه من ألّا يفعل! وإذن، فيكون الوضع الصحيح للمسألة على مقتضى هذا الرأى، هو:
أولا: أن اللّه يأمر العبد بأن يفعل، ويمكنّه من أن يفعل.. وهذا في باب الخير والمعروف، فيفعل كل ما هو خير ومعروف.
وثانيا: أن اللّه ينهى العبد ألا يفعل المنكر، ويمكّنه من ألا يفعله..
وهذا يشمل المنهيات جميعا، فلا يفعل العبد ما هو شر ومنكر أبدا.. وهذا غير واقع.. فما أكثر ما يأتى الإنسان ما نهى اللّه عنه من فواحش وعلى هذا، فالعبد إنما يفعل ما يفعل من خير أو شر بما أودع اللّه فيه من قدرة، فإذا فعل العبد خيرا فبما أودع اللّه فيه من قدرة على فعل الخير، وإذا فعل شرّا فبما فيه من قوة لا تستطع أن تدفع الشرّ الذي فعل.
ما ذنب العبد إذن؟ أهذا يتفق مع العدل الذي يقوم عليه مذهب المعتزلة؟
ألا ينتهى هذا الرأى إلى القول بالجبر؟
ويكاد واصل يقول هذا.. ولكنه يردّه عن ذلك ما يرى من عدل اللّه وحكمته، فهو يريد أن يدفع عن عدل اللّه تبعة الأعمال السيئة التي يجازى عليها المسيئون، كما يدفع عن حكمة اللّه هذه الشرور التي تقع في محيط الناس.
أترى أن واصلا كان عادلا في هذا الحكم؟ إنه نظر إلى المسألة من جانب واحد.. جانب الإنسان العاجز الضعيف، وعلّق في عنقه كل هذه الشرور والآثام..
رأى أبى علىّ الجبّائى وابنه أبى هاشم يقولان: إن اللّه تعالى لم يدّخر عن عباده شيئا يعلم أنه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة والتقوى.. من الصلاح والأصلح، واللطف، لأنه تعالى قادر، عالم، جواد، حكيم، لا يضرّه الإعطاء، ولا ينقص من خزائنه المنح، ولا يزيد في ملكه الادخار.. ولا يقال إن اللّه تعالى يقدر على شيء هو أصلح مما فعله بعبده ثم لم يفعله.. والتكاليف كلها ألطاف!! وواضح أن هذا القول يجعل أفعال العبد كلها مرضيّة عند اللّه، خيرها وشرها، لأن اللّه لم يدخر عن عباده شيئا من الصلاح والأصلح واللطف..
وإذن.. فلا خير ولا شر.. فالتكاليف- كما يقولان- كلها ألطاف، وما يأتى العبد منها وما يدع، إنما هو غاية ما أعطى اللّه العبد من قوى، وليس وراء هذا شيء يمكن أن يمنحه اللّه العبد غير الذي منح.
ونقول: هل على هذا يقال: إن العبد حرّ مختار، يفعل ما يشاء؟
نعم: إنه يفعل ما يشاء في حدود هذه الطاقة التي أمدّه اللّه بها، والتي هي كل ما عند اللّه له.. كما يقولان! وإذن فلم يحاسب العبد ويعذّب على الشرّ الذي يفعله، وهو لم يفعل إلا بما مكن اللّه له منه، وأقدره عليه..؟

.رأى النّظام:

يرى النظام أن القدر خيره وشرّه منّا، وأن اللّه تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هي مقدورة للبارئ تعالى.. ويرى النظام أن اللّه لا يقدر أن يخلق أكثر مما خلق بالفعل، وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن يحول بينه وبين أن يظهر كلّ ما عنده من الجود والجمال؟.
ونقول: كيف يقف شيء أمام قدرة اللّه؟ وهل تقع هذه الأمور التي نراها شرّا إن لم تكن من تقدير اللّه؟ وهل يدخل على نظام هذا الملك شيء لا يريده اللّه؟
لقد ردّ أصحاب النظام أنفسهم على هذا، فقالوا: إن اللّه قادر على الشرور والمعاصي، ولكنه لا يفعلها لأنها قبيحة.
ونقول: إذا كانت تلك الأمور التي يصفونها بأنها قبيحة، هي قبيحة فعلا.. فلم يدعها اللّه سبحانه تدخل في نظام ملكه الذي أقامه؟