فصل: إمام الحرمين ورأيه في الكسب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.إمام الحرمين ورأيه في الكسب:

هو أبو المعالي، عبد الملك بن عبد اللّه الجويني، المعروف بإمام الحرمين (توفى سنة 478 هجرية).
وقد نزع بنظرية الكسب منزعا آخر.. إنه يطلق حرّية الإنسان من جانب، ويربطه بالأسباب الخارجة عن محيطه من جانب آخر.. ثم يجعل أفعال الإنسان- تبعا لهذا- قسمة بين إرادته وبين الأسباب الملازمة.
يقول: نفى القدرة والاستطاعة عن الإنسان، مما يأباه العقل والحسّ.. فلابد إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة، لا على وجه الإحداث والخلق..
فإن الخلق يشعر باستقلال في إيجاد الفعل من العدم، وذلك من شأن اللّه وحده..
والإنسان كما يحسّ من نفسه الاقتدار، يحسّ من نفسه أيضا عدم الاستقلال.. فالفعل يستند وجودا إلى القدرة- أي القدرة الإنسانية.
والقدرة تستند وجودا إلى سبب آخر يكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة! وكذلك يستند سبب إلى سبب، حتى ينتهى إلى مسبب الأسباب..
فهو- أي اللّه- الخالق للأسباب ومسبباتها، المستغنى على الإطلاق.. على خلاف الأسباب، فإن كل سبب مستغن من وجه، محتاج من وجه، والباري تعالى، هو المطلق الذي لا حاجة له ولا افتقار.
ورأى إمام الحرمين- كما ترى- غير صريح في حرّية الإنسان واضطراره، إنه يضع الإنسان في منطقة الذبذبات الاختيارية المقيدة في مجال الاضطرار..
انظر: الفعل يستند وجودا إلى القدرة، أي القدرة التي تحمل الإنسان على اختيار فعل دون فعل.. وهذا واضح.
والقدرة تستند وجودا إلى سبب! ومعنى هذا أن القدرة التي يواجه بها الإنسان أي أمر هي وليدة سبب، وهذا السبب الذي به أصبح الإنسان ذا قدرة، يتولد من أسباب كثيرة، بعضها وراثي، وبعضها كسبى، وهى في الواقع كل كيان الإنسان، الذي ليس للإنسان- في الواقع- أثر كبير في تكييفه.
فهذه الأسباب التي توجد القدرة، هي موضع النظر في هذه القضية..
فمن أوجدها وقدّرها؟ هذا هو أساس المشكلة التي يطلب علاجها..
ثم أليس هذا هو رأى الجاحظ المعتزلي، الذي يقول: إن أفعال الإنسان كلها داخلة في نسيج حوادث الطبيعة، وإن إرادة الإنسان هي القوة العاملة فيه، وإن هذه الإرادة هي فرع العلم، وثمرة من ثمراته، وإن العلم اضطراري يأتى من أعلى؟
فالإنسان بمقتضى هذا القول، عند إمام الحرمين، مجبر في صورة مختار، أو مختار في حال مقيد!

.رأى الغزالىّ في الكسب:

يذهب الغزالي في قضية القدر مذهب التسليم، فيأخذ بظاهر آيات الكتاب، ولا يرضى لعقله الفلسفي أن يتناول هذه القضية.
يقول الغزالي: اللّه تعالى خلق القدرة والمقدور جميعا، وخلق الاختيار والمختار جميعا.. فأما القدرة فوصف للعبد، وخلق للرب، وأما الحركة، فخلق للربّ، ووصف للعبد وكسب له.
ومعنى هذا- كما يقول الغزالي- أن اللّه خالق كل شيء.. القدرة والمقدور جميعا.. فليس للعبد شيء إذن، إن له بالعمل نوعا من الصلة، وهو الكسب الذي يقول به الأشعري! ثم يقول الغزالي: واعلم أن من ظنّ أن اللّه تعالى أنزل الكتاب، وأرسل الرسل، وأمر ونهى ووعد وتوعّد، لغير قادر مختار- فهو مختلّ المزاج، محتاج إلى علاج!! وهذه حجة اعتمد فيها الغزالي على النقل، أكثر من اعتماده على العقل..

.رأى الفارابي في الكسب:

يقول الفارابي: وللنفس بطبيعتها نزوع، ولمّا كانت تحسّ وتتخيّل فلها إرادة كسائر الحيوان، غير أن الاختيار للإنسان فقط.. لأن الاختيار يقوم على الرويّة، وميدانه ميدان العقل الخالص.. فالاختيار متوقف على أسباب من الفكر..
فكان الاختيار والاضطرار في وقت واحد.. لأنه- أي العقل- بحسب أصله الأول، مقدّر في علم اللّه.
ثم يقول: والاختيار الإنسانى، إذا فهم على هذا النحو لا يستطيع أن يقهر الشهوة إلا قهرا ناقصا، لأن المادة تقف في سبيله، وعلى هذا لا تكتمل حرّية النفس الناطقة إلا إذا تحررت من قيود المادة، أعنى إذا صارت النفس عقلا! وواضح أن رأى الفارابي يتفق مع رأى إمام الحرمين.. لأن الاختيار الذي يقول به، متوقف على أسباب من الفكر.. والعقل مقدّر في علم اللّه، والإنسان إنما يعمل بما وهبه اللّه من عقل..

.رأى الفيلسوف محمد إقبال:

ويقول الفيلسوف الباكستانى محمد إقبال في هذا الموضوع:
ولا شكّ أن ظهور ذوات لها القدرة على الفعل التلقائى، ومن ثمّ يكون فعلها غير متلبّأ به- يتضمن تحديدا لحرية الذات المحيطة بكل شيء.
يريد إقبال أن يقول: إن إرادة الإنسان التي تخلق من تلقاء نفسها، فيها تحديد لإرادة اللّه المطلقة، إذ كانت هناك إرادات تعمل مستقلّة عن تلك الإرادة الشاملة..
ثم يقول إقبال:
ولكنّ هذا التحديد لم يفرض على الذات الأولى- ذات اللّه- من خارج، بل نشأ عن حريتها الخالقة التي شاءت أن تصطفى بعض الذوات المتناهية- أي ذوات البشر- لتقاسمه.. في الحياة، والقوة، والاختيار!.
ومعنى هذا- كما يقول إقبال- أنه لا تعارض بين إرادة اللّه وإرادة الإنسان، فاللّه سبحانه بإرادته الشاملة خلق إرادات تعمل في حدود معينة، هي حدود الإمكان البشرى.
ثم يقول إقبال: وربّ سائل يقول: ولكن كيف يكون في الإمكان التوفاق بين التحديد، وبين القدرة المطلقة؟
ويجيب على هذا بقوله: وكل فعل، سواء أكان متصلا بالخالق، أم غير متصل به، هو نوع من التحديد، يستحيل بغيره أن نتصوّر اللّه ذاتا فعّالة متحققة الوجود في الخارج..
ولو أننا تصورنا القدرة المطلقة تصورا مجردا، لكانت مجرد نوع من قوة عمياء، متقلبة الأهواء، ولا حدّ لها..
والقرآن يصوّر الطبيعة تصويرا واضحا محددا، بوصفها عالما يتألف من قوّى يتعلق بعضها ببعض، وعلى هذا، فهو- أي القرآن- يعتبر قدرة اللّه المطلقة وثيقة الصلة بحكمته الإلهية، ويرى أن قدرة اللّه غير المتناهية، تتجلّى لا فيما هو متعسف صادر عن الهوى، وإنما في المتواتر، المطرد، المنظم.
يريد إقبال أن يقول: إن كل الحوادث الواقعة في الوجود، هي في الواقع تحديد لقدرة اللّه، لأنها- أي القدرة- تجرى بما قتضته الحكمة الإلهية التي أودعت في الوجود نظاما مطردا، والنظام في ذاته قيد من غير شك! ثم يقول إقبال في موضع آخر: فالمعصية الأولى للإنسان- معصية آدم- كانت أول فعل- أي للإنسان- تتمثل فيه حرّية الاختيار، ولهذا تاب اللّه على آدم، وغفر له.
وعمل الخير لا يمكن أن يكون قسرا، بل هو خضوع عن طواعيّة للمثل الأخلاقى الأعلى، خضوعا ينشأ عن تعاون الذوات الحرة المختارة، عن رغبة ورضى.
والكائن الذي قدّرت عليه حركاته كلها، كما قدرت حركات الآلة، لا يقدر على فعل الخير.. وعلى هذا فإن الحرية شرط في عمل الخير..
ولكن السّماح بظهور ذات متناهية لها القدرة على أن تختار ما تفعل بعد تقدير القيم النسبية للأفعال الممكنة لها- هو في الحق مغامرة كبرى، لأن حريّة اختيار الخير، تتضمن حرية اختيار عكسه.
وكون المشيئة الإلهية اقتضت ذلك، دليل على ما للّه من ثقة في الإنسان... (ولقد بقي على الإنسان أن يبرهان على أنه أهل لهذه الثقة!).
وربما كانت مغامرة كهذه، هي وحدها التي تيسّر الابتلاء، والتنبيه للقوى الممكنة لوجود خلق {في أحسن تقويم} ثم ردّ إلى {أسفل سافلين} وكما يقول القرآن: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}..
وهذا- في رأينا- أعدل رأى في هذه القضية!! ويعجبنى في هذا المقام رأى للفيلسوف الأمريكى رويس يصوّر به الصلة بين اللّه الإنسان، وهى صلة- كما يراها الفيلسوف، تجعل للّه سبحانه القدرة المطلقة، كما تجعل للإنسان قدرة عاملة داخل قدرة اللّه.. ويضرب الفيلسوف لهذا مثلا محكما من الرياضيات، التي تعتبر أكثر المعارف دقة وانضباطا..
والمثل الذي ضربه رويس هو أنه وضع للّه سبحانه وتعالى دلالة من الأعداد، هي سلسلة- تبدأ بالواحد، ولا تنتهى.. هكذا:
1، 2، 4، 5، 6، 7... إلى ما لا نهاية.. وهو اللّه سبحانه فهذا هو المطلق الذي يشتمل كل شيء..
أما الموجودات، فقد صورها رويس في سلاسل عددية على هذا النحو الآتي:- 2- 4- 8- 16... إلى ما لا نهاية.
3- 9- 27- 81... إلى ما لا نهاية.
5- 25- 125- 625... إلى ما لا نهاية.
7- 49- 343- 2401... إلى ما لا نهاية.
وهكذا تتوالى سلاسل الأعداد إلى ما لا نهاية أيضا..
وكل عدد من هذه الأعداد يمثل فرادا من أفراد الناس..
ويلاحظ في هذه الأعداد الإنسانية:
أولا: أنها داخلة جميعها في السلسلة الأولى، إذ جميع ما فيها من أعداد تشتمل عليه السلسلة الأولى المطلق.
وثانيا: أنها تتميز بطابع فريد، يجعلها وحدة قائمة بذاتها، ليس بينها وبين غيرها اتفاق مطلق.
هذا المثل يعطينا تصورا واضحا للصلة التي بين الإنسان وبين اللّه، من جهة، وبين الإنسان وبين غيره من الناس من جهة أخرى.
ففى كل سلسلة إنسانية شيء من السلسلة الأولى اللّه أو المطلق، وهى واقعة في مضمونها..
وهذا يعنى أن للإنسان ذاتية خاصة، وإن كانت تلك الذاتية ضمن مشتملات الذات الأولى، ومعنى هذا أيضا أن الإنسان مطلق من جهة، ومقيد من جهة أخرى..
ثم إن الاختلاف بين هذه السلاسل يعنى أن الناس لابد أن يكونوا مختلفين فيما بينهم.. كل إنسان كون مستقل بذاته، داخل هذا الكون العظيم المطلق.
والفيلسوف وليم چيمس يحقق ذاتية الإنسان، مع وجود اللّه..
فلا يلغى إرادة الإنسان مع إرادة اللّه، ويرسم لهذا صورة قريبة من الصورة التي رسمها رويس.
ولكنها صورة كلامية، وليست عددية.
يقول چيمس: الإله الذي هو عقل، يشمل سائر العقول، وليس منفصلا عن الكون انفصال الخالق عن خلقه، كما تصورت الديانات التقليدية، كلا، ولا هو حالّ في الوجود كله، كما تصورت فلسفة وحدة الوجود.
ولكن إله بينه وبين سائر العقول الفردية قسط مشترك، هو الاشتراك في إدراكات بعينها، لكنه في الوقت نفسه يتميز بفردية مستقلة، كما يتميز كل فرد من الأفراد الصغرى بفرديته المستقلّة..
فالصورة، أقرب إلى سلّم متدرج من عقول.. فعقل أكبر من عقل، لأنه يدرك إدراكات هذا العقل ثم يزيد عليها، ثم عقل ثالث أكبر من هذا العقل، فرابع أكبر.. وهكذا دواليك صعودا، دون أن يتحتم أن يكون هناك عقل مطلق يسع كل شيء.. فالعقل الأعلى فيه كل ما في الأدنى مع الاحتمال دائما بأن يكون هناك ما هو أعلى.
ومنطق هذا القول يقضى بأن لا تنتهى درجات السلّم العقلي عند نهاية ليس بعدها شيء، بل هناك احتمال دائما بأن يكون هناك ما هو أعلى.. ومع وجود هذا الاحتمال، فإن الواقع المحقق هو أن هناك عقلا أعلى يسع العقول جميعا، وهو الذي يمكن أن يطلق عليه العقل المطلق، مادام ليس هناك ما هو فوقه.
فإذا وقع الاحتمال المتوقع، وهو ظهور عقل أعلى، كان هو العقل المطلق.. وهكذا.
ولعل ماحدا بوليم چيمس إلى هذه الفكرة التي تجعل العقول متصاعدة، دون أن تضيع في ذلك شخصية العقل الأدنى في العقل الأعلى- هو أنه أراد أن يحتفظ لكل فرد بإرادته المستقلة، لتقع عليه مسئوليته الخلقية.. وهذا ما يجعل لكفاح الأفراد نحو الخير معنى، لأنه يجعل في مستطاع الأفراد تغيير ما هو كائن، إذا كان ذلك الكائن شرا، ليصبح أفضل مما هو وأكمل..
اللّه والإنسان.. مرة أخرى لا يستطيع عاقل أن ينكر إرادة الإنسان المستقرة في كيانه، والتي بها يتعامل مع الحياة، فيقبل على الشيء أو يعرض عنه، حسب تقديره وإرادته..
ولا يستطيع مؤمن باللّه أن ينكر قدرة اللّه الشاملة، وإرادته النافذة، وأن كل شيء بيد اللّه، وتحت مشيئته..