فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

وقوله سبحانه: {يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام عداوتهم أو حال من {شياطين} أو صفة لعدو، وجمع الضمير باعتبار المعنى كما في البيت السابق، وأصل الوحي كما قال الراغب الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة أيضًا، والمعنى هنا يلقى ويوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض كل من الفريقين إلى الآخر.
{زُخْرُفَ القول} أي المزوق من الكلام الباطل منه.
وأصل الزخرف الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب: زخرف، وقال بعضهم: أصل معنى الزخرف الذهب، ولما كان حسنًا في الأعين قيل لكل زينة زخرفة، وقد يخص بالباطل {غُرُورًا} مفعول له أي ليغروهم، أو مصدر في موقع الحال أي غارين، أو مصدر لفعل مقدر هو حال من فاعل {يُوحِى} أي يغرون غرورًا، وفسر الزمخشري الغرور بالخداع والأخذ على غرة، ونسب للراغب أنه قال: يقال غره غرورًا كأنما طواه على غره بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء وهو طيه الأول. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إنّ هذا عدوّ لك ولزوجك} [طه: 117].
وجملة {يوحى} في موضع الحال، يتقيّد بها الجَعل المأخوذ من {جعلنا} فهذا الوحي من تمام المجعول.
والوحي: الكلام الخفي، كالوسوسة، وأريد به ما يشمل إلقاء الوسوسة في النّفس من حديث يُزوّر في صورة الكلام.
والبعض الموحي: هو شياطين الجنّ، يُلقون خواطر المقدرة على تعليم الشرّ إلى شياطين الإنس، فيكونون زعماء لأهل الشرّ والفساد.
والزّخرف: الزّينة، وسمّي الذهب زُخرفًا لأنَّه يتزيَّن به حَليًا، وإضافة الزخرف إلى القول من إضافة الصّفة إلى الموصوف، أي القول الزُخرف: أي المُزَخْرَف، وهو من الوصف بالجامد الّذي في معنى المشتق، إذ كان بمعنى الزيْن.
وأفهم وصف القول بالزُخرف أنّه محتاج إلى التّحسين والزخرفَة، وإنَّما يحتاج القول إلى ذلك إذا كان غير مشتمل على ما يكسبه القبول في حدّ ذاته، وذلك أنّه كان يفضي إلى ضُرّ يحتاج قائله إلى تزيينه وتحسينه لإخفاء ما فيه من الضرّ، خشية أن ينفر عنه من يُسوله لهم، فذلك التّزيين ترويج يستهوون به النّفوس، كما تموّه للصّبيان اللُّعب بالألوان والتذهيب.
وانتصب {زخرف القول} على النيابة عن المفعول المطلق من فِعل {يوحى} لأنّ إضافة الزّخرف إلى القول، الّذي هو من نوع الوحي، تجعل {زخرف} نائيًا عن المصدر المبيِّن لنوع الوحي.
والغرور: الخِداع والإطماع بالنّفع لقصد الإضرار، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {لا يغرنَّك تقلّب الذين كفروا في البلاد} في [سورة آل عمران: 196].
وانتصب {غرورًا} على المفعول لأجله لفعل {يوحى}، أي يرحون زخرف القول ليَغُرّوهم.
والقول في معنى المشيئة من قوله: {ولو شاء ربك ما فعلوه} كالقول في {ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله} [الأنعام: 111] وقوله: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 107] والجملة معترضة بين المفعول لأجله وبين المعطوف عليه. اهـ.

.قال الفخر:

أصحابنا يحتجون به على أن الكفر والإيمان بإرادة الله تعالى.
والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء، وقد سبق تقرير هذه المسألة على الاستقصاء، فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} قال ابن عباس: معناه يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به قال القاضي: هذا القول يتضمن التحذير الشديد من الكفر والترغيب الكامل في الإيمان، ويقتضي زوال الغم عن قلب الرسول من حيث يتصور ما أعد الله للقوم على كفرهم من أنواع العذاب وما أعد له من منازل الثواب بسبب صبره على سفاهتهم ولطفه بهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي ما فعلوا إيحاء القول بالغرور.
{فَذَرْهُمْ} أمْرٌ فيه معنى التهديد.
قال سيبويه: ولا يقال وَذَر ولا وَدَع، استغنَوْا عنهما بترك.
قلت: هذا إنما خرج على الأكثر.
وفي التنزيل: {وَذَرِ الَّذِينَ} و{ذَرْهم} و{مَا وَدَعَكَ}.
وفي السنة: «لينتهيَنّ أقوام عن وَدْعِهم الجُمُعات».
وقوله: إذا فعلوا يريد المعاصي فقد تُوُدِّع منهم.
قال الزجاج: الواو ثقيلة؛ فلما كان ترك ليس فيه واو بمعنى ما فيه الواو تُرِك ما فيه الواو.
وهذا معنى قوله وليس بنصِّه. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} رجوع كما قيل إلى بيان الشؤون الجارية بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه المفهومة من حكاية ما جرى بين الأنبياء عليهم السلام وبين أممهم كما ينبئ عنه الالتفات، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام المعربة عن كمال اللطف في التسلية، والضمير المنصوب في {فَعَلُوهُ} عائد إلى عداوتهم له صلى الله عليه وسلم وإيحاء بعضهم إلى بعض مزخرفات الأقاويل الباطلة المتعلقة بأمر عليه الصلاة والسلام باعتبار انفهام ذلك مما تقدم وأمر الأفراد سهل، وقيل: إنه عائد إلى ما ذكر من معاداة الأنبياء عليهم السلام، وإيحاء الزخارف أعم من أن تكون في أمره صلى الله عليه وسلم وأمور إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وفيه أن قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} كالصريح في أن المراد بهم الكفرة المعاصرون له عليه الصلاة والسلام، وقيل: هو عائد إلى الإيحاء أو الزخرف أو الغرور، وفي أخذ ذلك عامًا أو خاصًا احتمالان لا يخفى الأولى منهما، ومفعول المشيئة محذوف أي عدم ما ذكر ولا إشكال في جعل العدم الخاص متعلق المشيئة، وقدره بعضهم إيمانهم.
واعترض بأن القاعدة المستمرة أن مفعول المشيئة عند وقوعها شرطًا يكون مضمون الجزاء كما في علم المعاني وهو هنا {مَّا فَعَلُوهُ} وتعقب بأنه هاهنا ذكر المشيئة فيما تقدم متعلقًا بشيء وهو الإيمان كما أشير إليه ثم ذكر في حيز الشرط بدون متعلق فالظاهر أنه يجوز أن يقدر متعلقه مضمون الجزاء وأن يقدر ما علق به فعل المشيئة سابقًا، ولا بأس بمراعاة كل من الأمرين بحسب ما يقتضيه الحال.
والمذكور في المعاني إنما هو فيما لم يتكرر فيه فعل المشيئة ولم يكن قرينة غير الجزاء فليعرف ذلك فإنه بديع، والأولى عندي اعتبار مضمون الجزاء مطلقًا، وإنما قال سبحانه هنا: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 137] وفيما يأتي {وَلَوْ شَاء الله مَا فَعَلُوهُ} فغاير بين الإسمين في المحلين لما ذكر بعضهم وهو أن ما قبل هذه الآية من عداوتهم له عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي لو شاء منعهم عنها فلا يصلون إلى المضرة أصلًا يقتضي ذكره جل شأنه بهذا العنوان إشارة إلى أنه مربيه صلى الله عليه وسلم في كنف حمايته وإنما لم يفعل سبحانه ذلك لأمر اقتضته حكمته، وأما الآية الأخرى فذكر قبلها إشراكهم فناسب ذكره عز اسمه بعنوان الألوهية التي تقتضي عدم الاشتراك فكأنه قيل ههنا: إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتك من فنون المفاسد بمشيئة ربك جل شأنه الذي لم تزل في كنف حمايته وظل تربيته فاتركهم وافتراءهم أو وما يفترونه من أنواع المكايد ولا تبال به فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة لابتناء مشيئته سبحانه على الحكم البالغة ألبتة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والضّمير المنصُوبُ في قوله: {فعلوه} عائد إلى الوحي.
المأخوذ من {يوحى} أو إلى الإشراك المتقدّم في قوله: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 107] أو إلى العداوة المأخوذة من قوله: {لكل نبي عدوًا}.
والضّمير المرفوع عائد إلى {شياطين الإنس والجن}، أو إلى المشركين، أو إلى العدوّ، وفرع عليه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتركهم وافتراءَهم، وهو تركُ إعراضضٍ عن الاهتمام بغرورهم، والنكدِ منه، لا إعْراض عن وعظهم ودعوتهم، كما تقدّم في قوله: {وأعرض عن المشركين}.
والواو بمعنى مع.
{وما يفترون} مَوصول منصوب على المفعول معه.
وما يفترونه هو أكاذيبهم الباطلة من زعمهم إلهية الأصنام، وما يتبع ذلك من المعتقدات الباطلة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون}، وورد بعد هذا: {ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون}، للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف الاسمين في قوله: {ولو شاء ربك}، و{ولو شاء الله}؟
والجواب عن ذلك والله أعلم: أنه لما تقدم الآية الأولى قوله تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله}، فعرف سبحانه نبيه، عليه السلام بما سبق لهؤلاء وما قدره عليهم في الأزل حتى لا يجدى عليهم شيء ولا ينفعهم تذكار فلما تقدم من القدر على هؤلاء ما يثير أشد الخوف كان مظنة إشفاق فأنس نبيه صلى الله عليه وسلم ولاطفه بإضافة اسم ربوبيته سبحانه لنبيه عليه السلام، مخاطبا له فقال: {ولو شاء ربك ما فعلوه} فسكن جأشه وتلطف في تأنيسه، عليه السلام وتأنيس أمته بأنسه، ولما لم يقع قبل الآية بعد مثل هذا وإنما قبلها: {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم ولو شاء الله ما فعلوه} وليس هذا في اقتضاء الحتم عليهم المؤذن بقطع الرجاء منهم كقوله في الأولى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة...} الآية، فلذلك قال عقب هذه الآية الثانية: {ولو شاء الله ما فعلوه} فجاء باسمه الأعظم تعالى من غير إضافة إذ ليس هذا مثل الأول، ولو ورد الاسم الأعظم أولا والاسم الكريم المضاف ثانيا لما ناسب على ما تمهد، والله سبحانه أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)}
كلمَّا كان المحلُّ أعلى كانت البلايا أوفى، والمطالبات أقوى، فلمَّا كانت رتبُ الأنبياء- عليهم- السلام- أشرفَ كانت العداوة معهم أشد وأصعب. اهـ.

.قال في البحر المديد:

الإشارة: كما جعل الله لكل نبي عدوًا من شياطين الإنس والجن؛ جعل للأولياء كذلك؛ تحويشًا لهم إليه، وتطهيرًا لهم من البقايا ليصلحوا لحضرته، قال في الحِكَم: إنما أجرى الأذى عليهم كي لا تكون ساكنًا إليهم، أراد أن يُزعجك عن كل شيء حتى لا يشغلك عنه شيء. وقال في لطائف المنن: اعلم أن أولياء الله حكمهم في بدايتهم أن يُسلط الخلق عليهم ليطهروا من البقايا، وتكمل فيهم المزايا، كي لا يساكنوا هذا الخلق باعتماد، أو يميلوا إليهم باستناد، ومن آذاك فقد أعتقك من رزق إحسانه، ومن أحسن إليك فقد استرقك بوجود امتنانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «من أسدى إليكم نعمًا فكافئوه، فإن لم تقدروا فادعوا له» كل ذلك ليتخلص القلب من رق إحسان الخلق، ويتعلق بالملك الحق. اهـ.
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: آذاني إنسانٌ فضقت به ذرعًا، فرأيتُ يُقال لي: مِن علامة الصديقية كثرةُ أعدائها ثم لا يبالي بهم. وقال بعضهم: الصيحة من العدو، سَوطٌ من الله يزجرُ بها القلوب إذا ساكنت غيره، وإلا رقد القلب في ظل العز والجاه، وهو حجاب عن الله تعالى عظيم. اهـ.
وقال شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضي الله عنه: عداوة العدو حقًا: اشتغالك بمحبة الحبيب حقًا، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك، وفاتتك محبة الحبيب. وقال بعض أشياخ الشعراني في بعض وصاياه له: لا تشتغل قط بمن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك؛ فإنه هو الذي حركه عليك؛ ليختبر دعواك في الصدق، وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير، فاشتغلوا بأذى من آذاهم، فدام الآذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم وكفاهم أمرهم. اهـ.
وقال ابن عجيبة:
وهذا كله إنما يكون في البدايات، كما قال الشاذلي رضي الله عنه: اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا.. فإذا تمت أنوارهم وتطهرت من البقايا أسرارهم، حكَّمهم في العباد، وأذلهم لهم، فيكون العبد المجتبى سيفًا من سيوف الله، ينتصر الله به لنفسه؛ كما نبه على ذلك في لطائف المنن. وذلك من أسرار عدم مشروعية الجهاد من أول الإسلام؛ تشريعًا لما ذكرنا، وتحذيرًا من الانتصار للنفس، وعدم تمحض النصرة للحق. وعند الرسوخ في اليقين، والأمن من مزاحمة الصدق غيره، وقع الإذن في الجهاد، هذا بالنسبة إلى الصحابة الكرام، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكامل من أول نشأته، وإنما ذلك تشريع لغيره، وترفيع لرتبته. والله تعالى أعلم. اهـ.