فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن؛ والذي يتشيطن بعضه ويتمحض للشر والغواية- كإبليس وذريته- كما يتشيطن بعض الإنس.. من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن، نحن لا نعلم عنه إلا ما جاءنا الخبر الصادق به عن الله سبحانه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعرف أن هذا الخلق مخلوق من مارج من نار. وأنه مزود بالقدرة على الحياة في الأرض وفي باطن الأرض وفي خارج الأرض أيضًا. وأنه يملك الحركة في هذه المجالات بأسرع مما يملك البشر. وأن منه الصالحين المؤمنين، ومنه الشياطين المتمردين. وأنه يرى بني آدم وبنو آدم لا يرونه- في هيئته الأصلية- وكم من خلائق ترى الإنسان ولا يراها الإنسان! وأن الشياطين منه مسلطون على بني الإنسان يغوونهم ويضلونهم، وهم قادرون على الوسوسة لهم والإيحاء بطريقة لا نعلمها. وأن هؤلاء الشياطين لا سلطان لهم على المؤمنين الذاكرين. وأن الشيطان مع المؤمن إذا ذكر الله خنس وتوارى، وإذا غفل برز فوسوس له! وأن المؤمن أقوى بالذكر من كيد الشيطان الضعيف. وأن عالم الجن يحشر مع عالم الإنس؛ ويحاسب؛ ويجازى بالجنة وبالنار كالجنس الإنساني. وأن الجن حين يقاسون إلى الملائكة يبدون خلقًا ضعيفًا لا حول له ولا قوة!
وفي هذه الآية نعرف أن الله سبحانه قد جعل لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن..
ولقد كان الله سبحانه قادرًا- لو شاء- ألا يفعلوا شيئًا من هذا.. ألا يتمردوا؛ وألا يتمحضوا للشر؛ وألا يعادوا الأنبياء؛ وألا يؤذوا المؤمنين؛ وألا يضلوا الناس عن سبيل الله.. كان الله سبحانه قادرا أن يقهرهم قهرًا على الهدى؛ أو أن يهديهم لو توجهوا للهدى؛ أو أن يعجزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به.
ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار. وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله- بالقدر الذي تقضي به مشيئته ويجري به قدره- وقدر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه؛ كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إياه. فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدره الله:
{ولو شاء الله ما فعلوه} فما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات؟
يخلص لنا ابتداء: أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبي؛ ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء.. هم شياطين!. شياطين من الإنس ومن الجن.. وأنهم يؤدون جميعًا- شياطين الإنس والجن- وظيفة واحدة! وأن بعضهم يخدع بعضًا ويضله كذلك مع قيامهم جميعًا بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله..
ويخلص لنا.
ثانيًا: أن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئًا من هذا كله، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم. إنما هم في قبضة الله. وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده. من تمحيص هؤلاء الأولياء، وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء. فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كف الله عنهم الابتلاء. وكف عنهم هؤلاء الأعداء. وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله. وآب أعداء الله بالضعف والخذلان؛ وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم: {ولو شاء الله ما فعلوه} ويخلص لنا.
ثالثا: أن حكمة الله الخالصة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا- فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة- وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان- فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظروا: أيصبرون؟ أيثبتون على ما معهم من الحق بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة لله، على السراء وعلى الضراء سواء. وفي المنشط والمكره سواء؟ وإلا فقد كان الله قادرًا على ألا يكون شيء من هذا الذي كان!
ويخلص لنا رابعا: هوان الشياطين من الإنس والجن، وهوان كيدهم وأذاهم. فما يستطيلون بقوة ذاتية لهم؛ وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن الله به على أيديهم.. والمؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر، وهو الذي يأذن، خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين؛ مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدَّعى. ومن هنا هذا التوجيه العلوي لرسول الله الكريم: {فذرهم وما يفترون}..
دعهم وافتراءهم. فأنا من ورائهم قادر على أخذهم، مدخر لهم جزاءهم..
وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين، وابتلاء المؤمنين.. لقد قدر الله أن يكون هذا العداء، وأن يكون هذا الإيحاء، وأن يكون هذا الغرور بالقول والخداع.. لحكمة أخرى: {ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة.
فهؤلاء يحصرون همهم كله في الدنيا. وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي. وينالون بالأذى أتباع كل نبي، ويزين بعضهم لبعض القول والفعل. فيخضعون للشياطين، معجبين بزخرفهم الباطل، معجبين بسلطانهم الخادع. ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد. في ظل ذلك الإيحاء، وبسبب هذا الإصغاء..
وهذا أمر أراده الله كذلك جرى به قدره. لما وراءه من التمحيص والتجربة. ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته ليعمل لما هو ميسر له؛ ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس.
ثم لتصلح الحياة بالدفع؛ ويتميز الحق بالمفاصلة؛ ويتمحض الخير بالصبر؛ ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة.. وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله.. أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء.. إنها مشيئة الله، والله يفعل ما يشاء.
والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى؛ ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة.. هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة:
إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون.. شياطين الإنس والجن.. تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة.. هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه.. خطة مقررة فيها وسائلها.. {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا}.. يمد بعضهم بعضًا بوسائل الخداع والغواية؛ وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله.. إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم؛ ويعين بعضهم بعضًا على الضلال أيضًا! إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبدًا. ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه والمضي في المعركة معه طويلًا!
ولكن هذا الكيد كله ليس طلقيًا.. إنه محاط به بمشيئة الله وقدره.. لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره. ومن هنا يبدو هذا الكيد- على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه- مقيدًا مغلولًا! إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط. ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع- كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر، ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم.. كلا! إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله. وقدرتهم محدودة بقَدر الله. وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله- في حدود الابتلاء- ومرد الأمر كله إلى الله.
ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها.. ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين، وأن يعلق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود، وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أو لا يريده الشياطين! وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق، بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم. أما عداوة الشياطين، وكيد الشياطين، فليدعوهما للمشيئة المحيطة والقدر النافذ.
{ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}
وكلت أسماع الكفار باللغو وقلوبهم بالسوء فَرَضُوا لأنفسهم أخَسَّ الأنصباءَ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}
كأن من يؤمن بالآخرة لا يقرب منه الزخرف أبدًا ولا يميل إليه. وإن زُينت له معصية فإنه يتساءل: كم ستدوم لذة هذه المعصية؟ دقيقتين، ساعة، شهرًا؛ وماذا أفعل يوم القيامة الذي يكون فيه الإنسان إمّا إلى دخول الجنة وإمّا إلى دخول النار. إذن فمن يؤمن بالآخرة لا تتقبل أذنه ولا فؤاده هذا الزخرف من القول، ولا يتقبله إلا من لا يؤمن بالآخرة، وهو لا يعرف إلا الدنيا، فيقول لنفسه: فلتتمتع في الدنيا فقط، ولذلك لو استحضرَ كل مؤمن العقوبة على المعصية ما فعلها، وهو لا يفعلها، وهو لا يفعلها إلا حين يغفل عن العقوبة. وإذا كنا في هذه الدنيا نخاف من عقوبة بعضنا بعضًا، وقدراتنا في العقوبة محدودة، فما بالنا بقدرة الرب القاهرة في العقوبة؟! ولذلك نجد الذين يجعلون الآخرة على ذكر من أنفسهم وبالهم إذا عرضت لهم أي معصية، يقارنونها بالعقاب، فلا يقتربون منها. {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}.
والإصغاء هو ميل الأذن إلى المتكلم؛ لأنك قد لا تسمع من يتكلم بغير إصغاء، وحين يسير الإنسان منا في الطريق فهو يسمع الكثير، لكن أذنه لا تتوقف عند كل ما يسمع، بل قد تقف الأذن عندما يظن الإِنسان أنه كلام مهم. ولذلك يسمونه التسمع لا السمع، وهذا هو الإصغاء. ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: من تسمع غانية- أي امرأة تغني بخلاعة- ولم يقل: من سمع، والإنسان منا قد يسير ويذهب إلى أي مكان والمذياع يذيع الأغاني، ويسمعها الإنسان، وآلة إدراك السمع منطقة وليست مفتوحة؛ فهو لا يتصنت، وآلة إدراك الانطباقية أو الانفتاحية مثل العين؛ فالعين لا ترى وهي مغمضة، إنها ترى وهي مفتوحة، والعين تغمض بالجفون أما الأذن فليس لها جفون يقول لها: لا تسمعي هذه، وهذه اسمعيها.
إذن فالسمع ليس للإنسان فيه اختيار، لكن التسمع هو الذي له فيه اختيار.
{ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113]
كأن فيه شيئا ينبع طلب السمع فيه من الفؤاد، أي يوافق ما في الأعماق، وشيئا آخر يمر عليه الإنسان مر الكرام غير ملتفت إليه. والأفئدة هي القلوب، صحيح أن الآذان هي التي تصغي، لكن القلوب قد تتسمع ما يقال، وكأن النفس مستعدة لهذه العملية؛ لأنها لا تؤمن بأن هناك آخرة وعندما استعداد لأن تأخذ لذة الدنيا دون التفات للآخرة. ولذلك ينقل الحق سبحانه الإصغاء من الأذن إلى الفؤاد وهذا إدراك.
{ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة...} [الأنعام: 113] ثم تأتي المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة: {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113] وقد يصغي إنسان، ثم تتنبه نفسه اللوامة، ويمتنع عن الاستجابة.
لكن هناك من يصغي ويرضى وجدانه ويستريح لما يسمع، ثم ينزع للعمل ليقترف الإثم. وهذه ثلاث مراحل: الأولى هي: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة}. ثم المرحلة الثانية: {وَلِيَرْضَوْهُ}، ثم المرحلة الأخيرة: {وَلِيَقْتَرِفُواْ} أي يرتكبوا الإثم، وهذه المسألة حددت لنا المظاهر الشعورية التي درسها علماء النفس فالإدراك؛ {لتصغى}، والوجدان؛ {ليرضوه}، والنزوع؛ {ليقترفوا}.
وقبل أن يولد علم النفس جاء القرآن بوصف الطبيعة البشرية بمراحلها المختلفة من إدراك ووجدان، ونزوع والشرع لا يتدخل عند أي مظهر من مظاهر شعور المرء إلا عند النزوع إلا في حالة واحدة حيث لا يمكن فصل النزوع عن الوجدان وعن الإدراك؛ لذلك يتدخل الشرع من أول الأمر، وهو ما يكون في عملية نظر الرجل إلى المرأة؛ لأنك حين تنظر تجد نفسك: تحبها وتعشقها تفتن بها، ومحرم عليك النزوع، فحين تتقدم ناحيتها يقول لك الشرع: لا. ولأن هذا أمر شاق على النفس البشرية، ولا يمكن فصل هذه العمليات؛ لأنه إن أدرك وَجِد، وإن وَجِد نزع، فأمر الحق بالامتناع من أول الأمر: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ...} [النور: 30] {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ...} [النور: 31]
إذن فقد منع الإدراك من بدايته ولم ينتظر حتى النزوع، لماذا؟ لأن الإدراك الجمالي في كل شيء يختلف عن الإدراك الجمالي في المرأة. الإدراك الجمالي في المرأة يُحدث عملية كيماوية في الجسم تسبب النزوع، ولا يمكن فصلها أبدًا. {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}.
وساعة ما نقول: {ما} ويأتي الإبهام فهذا دليل على أن هناك أمورًا كثيرة جدًا.
ولذلك يقول الحق: {.. فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]
أي أنه أمر لا يمكن أن تحدده الألفاظ، مثله مثل قوله: {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} أي أن كل واحد يقترف ويكتسب ويعمل ويرتكب ما يميل إليه؛ فهناك من يغتاب أو يحسد أو يسرق وغير ذلك من شهوات النفس التي لا تحدد؛ لذلك جاء لها باللفظ الذي يعطي على العموم.
وما دامت المسألة في نبوّة واتباع نبوّة، وفي أعداء شياطين من الإنس والجن ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا إذن فهذه معركة، وحتى يتم الفصل فيها لابد من حاكم يحكم. فأوضح الحق: يا محمد أنا أرسلتك، ولك أعداء وسيكيدون لك بكذا وكذا ويبذلون قصارى جهدهم في إيذائك ومن اتبعك، فإياك أن تبتغي حكما غيري؛ لأني أنا المشرع وأنا من أحكم، وأنا الذي سوف أجازي.
لماذا؟ لأن الخلاف على ما شرع الله، ولا يستقيم ولا يصح أن يأتي من يقول مراد المقنن كذا، أو المفسر الفرنسي قال كذا، والمفسر الإِنجليزي قال كذا، لا، إن الذي يحكم هو من وضع القانون، ومراداته هو أعلم بها، والحق الواضح هو أعلم به، وسبحانه هو من يحكم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها».
أي إياك أن يقول واحد: إن النبي قد حكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بظاهر الحجة، وقد يكون واحد من المختصمين قوي الحجة، والآخر لا يجيد التعبير عن نفسه. إذن فالحكم هو الله لأنه هو الذي قنن، ومادام هو الذي قنن وهو الذي يحكم بينكم، فليطمئن كل إنسان يتخاصم مع غيره؛ لأن القضية يفصل فيها أعدل العادلين وأحكم الحاكمين. اهـ.