فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومعنى الآية عند بعض المحققين أغيره تعالى أبتغي حكمًا والحال أنه هو الذي أنزل إليكم الكتاب وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون القرآن الناطق بالحق والصواب الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب.
{مُفَصَّلًا} أي مبينًا فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من الأحكام بحيث لم يبق في أمر الدين شيء من التخليط والإبهام فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم، ثم قال: وهذا كما ترى صريح في أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين مغن عن غيره ببيانه وتفصيله؛ وأما أن يكون لإعجازه دخل في ذلك كما قيل فلا انتهى.
ولا يخفى أن ملاحظة الإعجاز أمر مطلوب على تقدير كون الآية مرتبطة معنى بقوله سبحانه: {وَأَقْسَمُواْ بالله} [الأنعام: 109] الآية، وبيان ذلك على ما ذكره الإمام أنه سبحانه وتعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أتتهم آية ليؤمنن بها أجاب عنه جل شأنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم، ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته عليه الصلاة والسلام قد حصل وكمل فكان ما يطلبونه طلبًا للزيادة وذلك مما لا يجب الالتفات إليه، ثم نبه على حصول الدليل من هذه الآية بوجهين، الأول: أنه تعالى أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته فيكون ظهور هذا المعجز دليلًا على أنه تعالى قد حكم بنبوته، فمعنى الآية قل يا محمد: إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله سبحانه حكمًا؟ فإن كل أحد يقول: إن ذلك غير جائز ثم قل: إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز.
الثاني: اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم رسول حق وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى وهذا هو المراد من الآية بعد انتهى.
ووجه بعضهم مدخلية الإعجاز بأنه لا يتم الإلزام إلا بالعلم بكون المنزل من عند الله تعالى وهو يتوقف على الإعجاز بحيث يستغني عن آية أخرى دالة على صدق دعواه عليه الصلاة والسلام أنه من عند الله تعالى لكن قال: إن في دلالة النظم الكريم على ذلك خفاء إلا أن يقال: الجملة الاسمية الحالية تفيده لما فيها من الدلالة على ثبوته وتقرره في نفسه أو يجعل الكتاب بمعنى المعهود إعجازه، وذكر أن هذا من عدم تدبر الآية إذ المعنى لا أبتغي حكمًا في شأني وشأن غيري إلا الله سبحانه الذي نزل الكتاب لذلك، وهو إنما يحكم له صلى الله عليه وسلم بصدق مدعاه بالإعجاز، فإنهم لما طعنوا في نبوته عليه الصلاة والسلام وأقسموا إن جاءتهم آية آمنوا بين سبحانه أنهم مطبوع على قلوبهم وأمره أن يوبخهم وينكر عليهم بقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ الله} إلخ أي أأزيغ عن الطريق السوي فأخص غيره بالحكم وهو الذي أنزل هذا الكتاب المعجز الذي أفحمكم وألزمكم الحجة فكفي به سبحانه حاكمًا بيني وبينكم بإنزال هذا الكتاب المفصل بالآيات البينات من التوحيد والنبوة وغيرهما الذي أعجزكم عن آخركم، ويؤول هذا إلى أنه صلى الله عليه وسلم أجابهم بالقول بالموجب لأنهم طعنوا في معجزاته فكبتهم على أحسن وجه وضم إليه علم أهل الكتاب، وعلى هذا فكونه معجزًا مأخوذ من كونه مغنيًا عما عداه في شأنه وشأن غيره على ما أشير إليه، وهذا له نوع قرب مما ذكره الإمام وما أشار إليه من ارتباط الآية معنى بما تقدم من قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله} [الأنعام: 109] إلخ لا يخلو عن حسن إلا أن دعوى خفاء دلالة النظم الكريم على الإعجاز مما لا خفاء في صحتها عندي، ولم يظهر مما ذكر ما ما يزيل ذلك الخفاء، وكون سوق الآية دليلًا على ملاحظة ذلك غير بعيد عن المأخذ الذي سمعته فتدبر.
ومن الناس من قال: يحتمل أن يراد بالكتاب التوراة أي إنه تعالى حكم بيني وبينكم بما أنزل فيه مفصلًا حيث أخبركم بنبوتي وفصل فيه علاماتي وهو كما ترى، والحق ما تقدم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} استئناف بخطاب من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقدير الأمر بالقول بقرينة السّياق كما في قوله تعالى: {لا نفرّق بين أحد من رسله} [البقرة: 285] أي يقولون.
وقوله المتقدّم آنفًا {قد جاءكم بصائر من ربكم} [الأنعام: 104] بعد أن أخبره عن تصاريف عناد المشركين، وتكذيبهم.
وتعنّتهم في طلب الآيات الخوارق، إذ جعلوها حكَمًا بينهم وبين الرّسول عليه الصلاة والسلام في صدق دعوته، وبعد أن فضحهم الله بعداوتهم لرسوله عليه الصلاة والسلام، وافترائهم عليه، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وتركِهم وما يفترون، وأعلمَه بأنَّه ما كلَّفه أن يكون وكيلًا لإيمانهم، وبأنَّهم سيَرجعون إلى ربّهم فينبّئهم بما كانوا يعملون، بعد ذلك كلّه لَقَّن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم خطابًا كالجواب عن أقوالهم وتورّكاتهم، فيفرّع عليها أنّه لا يطلب حاكمًا بينه وبينهم غير الله تعالى، الّذي إليه مرجعهم، وأنهم إن طمعوا في غير ذلك منه فقد طمعوا منكرًا، فتقدير القول متعيّن لأنّ الكلام لا يناسب إلاّ أن يكون من قول النبي عليه الصلاة والسلام.
والفاء لتفريع الجواب عن مجموع أقوالهم ومقتَرحاتهم، فهو من عطف التّلقين بالفاء: كما جاء بالواو في قوله تعالى: {قال إنّي جاعلك للنّاس إمامًا قال ومن ذريّتي} [البقرة: 124]، ومنه بالفاء قوله في سورة الزمر (64): {قل أفغيرَ اللَّه تأمرونيَ أعْبُد أيّها الجاهلون} فكأنّ المشركين دعوا النّبي إلى التّحاكم في شأن نبوءته بحكم ما اقترحوا عليه من الآيات، فأجابهم بأنّه لا يضع دِين الله للتّحاكم، ولذلك وقع الإنكار أن يحكِّم غير الله تعالى، مع أنّ حكم الله ظاهر بإنزال الكتاب مفصّلا بالحقّ، وبشهادة أهل الكتاب في نفوسهم، ومن موجبات التّقديم كون المقدّم يتضمّن جوابًا لردّ طلب طلبَه المخاطب، كما أشار إليه صاحب الكشاف في قوله تعالى: {قل أغير الله أبغي ربًا في هذه السورة} [الأنعام: 164].
والهمزة للاستفهام الإنكاري: أي إن ظننتم ذلك فقد ظننتم مُنكرًا.
وتقديم {أفغير الله} على {أبتغي} لأنّ المفعول هو محلّ الإنكار.
فهو الحقيق بموالاة همزة الاستفهام الإنكاري، كما تقدّم في قوله تعالى: {قل أغير الله أتَّخذ وليّا} في هذه السورة (14).
والحَكَم: الحاكم المتخصّص بالحكم الَّذي لا ينقض حكمه، فهو أخصّ من الحاكم، ولذلك كان من أسمائه تعالى: الحَكَم، ولم يكن منها: الحاكم.
وانتصب {حكما} على الحال.
والمعنى: لا أطلب حكَمًا بيني وبينكم غير الله الّذي حكم حُكمَه عليكم بأنَّكم أعداء مقترفون.
وتقدّم الكلام على الابتغاء عند قوله تعالى: {أفغيرَ دين الله يبغون} في سورة آل عمران (83).
وقوله: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلًا} من تمام القول المأمور به.
والواو للحال أي لا أعدل عن التّحاكم إليه.
وقد فصّل حكمه بإنزال القرآن إليكم لتتدبّروه فتعلَموا منه صدقي، وأنّ القرآن من عند الله.
وقد صيغت جملة الحال على الاسميّة المعرَّفةِ الجزأيْن لتفيد القصر مع إفادة أصل الخبر.
فالمعنى: والحال أنّه أنزل إليكم الكتاب ولم ينزله غيره، ونكتة ذلك أنّ في القرآن دلالة على أنّه من عند الله بما فيه من الإعجاز، وبأُمِّيَّةِ المنزّل عليه.
وأنّ فيه دلالة على صدق الرّسول عليه الصلاة والسلام تبعًا لثبوت كونه منزّلا من عند الله، فإنَّه قد أخبر أنَّه أرسل محمّدا صلى الله عليه وسلم للنّاس كافَّة، وفي تضاعيف حجج القرآن وأخباره دلالة على صدق من جاء به؛ فحصل بصوغ جملة الحال على صيغة القصر الدّلالة على الأمرين: أنَّه من عند الله، والحكممِ للرسول عليه الصّلاة والسّلام بالصّدق.
والمراد بالكتاب القرآن، والتعريف للعهد الحضوري، والضمير في {إليكم} خطاب للمشركين، فإنّ القرآن أُنزل إلى النّاس كلّهم للاهتداء به، فكما قال الله: {بما أنزل إليك أنزله بعلمه} [النساء: 166] قال: {يأيُّها النّاس قد جاءكم بُرْهان من ربّكم وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا} [النساء: 174] وفي قوله: {إليكم} هنا تسجيل عليهم بأنَّه قد بلّغهم فلا يستطيعون تجاهلًا.
والمفصّل المبيَّن.
وقد تقدّم ذكر التّفصيل عند قوله تعالى: {وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} في هذه السورة (55).
وجملة {والذين أتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل} معطوفة على القول المحذوف، فتكون استئنافًا مثله، أو معطوفة على جملة {أفغير الله أبتغى} أو على جملة {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب}، فهو عطف تلقين عُطف به الكلام المنسوب إلى الله على الكلام المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعضيدا لما اشتمل عليه الكلام المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من كون القرآن حقًّا، وأنّه من عند الله. اهـ.

.قال الفخر:

قال الواحدي: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَمًا} الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة، غير أن بعض أهل التأويل قال الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم.
وأما الحكم فهو الذي لا يحكم إلا بالحق والمعنى أنه تعالى حكم حق لا يحكم إلا بالحق.
فلما أظهر المعجز الواحد وهو القرآن فقد حكم بصحة هذه النبوة، ولا مرتبة فوق حكمه فوجب القطع بصحة هذه النبوة.
فأما أنه هل يظهر سائر المعجزات أم لا؟ فلا تأثير له في هذا الباب بعد أن ثبت أنه تعالى حكم بصحة هذه النبوة بواسطة إظهار المعجز الواحد. اهـ.

.قال القرطبي:

{والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} يريد اليهود والنصارى.
وقيل: من أسلم منهم كسَلْمَان وصُهيب وعبدِ الله بن سَلام.
{يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي القرآن.
{مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق} أي أنّ كلّ ما فيه من الوعد والوعيد لَحَقّ {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي من الشاكين في أنهم يعلمون أنه منزّل من عند الله.
وقال عطاء: الذين آتيناهم الكتاب وهم رؤساء أصحاب محمد عليه السلام: أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} أي والذين أعطيناهم علم التوراة والإنجيل والزبور والصحف، والمراد علماء أهل الكتاب فهو عام بمعنى الخصوص وهذه الجملة تكون استئنافًا وتتضمن الاستشهاد بمؤمني أهل الكتاب والطعن على مشركيهم وحسدتهم، والعضد في الدلالة بأن القرآن حق يعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه كتبهم وموافقته لها.
{فلا تكونن من الممترين}.
قيل: الخطاب للرسول خطاب لأمته.
وقيل: لكل سامع أي إذا ظهرت الدلالة فلا ينبغي أن يمتري فيه.
وقيل: هو من باب التهييج والإلهاب كقوله: {ولا تكونن من المشركين}.
وقيل: {فلا تكونن من الممترين} في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم.
وقرأ ابن عباس وحفص {منزل} بالتشديد والباقون بالتخفيف. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {والذين ءاتيناهم الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بالحق} كلام مستأنفٌ غيرُ داخلٍ تحت القولِ المقدَّر مَسوقٌ من جهته سبحانه لتحقيق حقِّيةِ الكتابِ الذي نيط به أمرُ الحَكَمية وتقريرِ كونِه منزلًا من عنده عز وجل ببيان أن الذين وثِقوا بهم ورضوا بحَكَميّتهم حسبما نُقل آنفًا من علماء اليهودِ والنصارى عالمون بحقيته ونزولِه من عنده تعالى، وفي التعبير عن التوراة والإنجيلِ باسم الكتابِ إيماءٌ إلى ما بينهما وبين القرآنِ من المجانسة المقتضيةِ للاشتراك في الحقية والنزولِ من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز، وإيرادُ الطائفتين بعنوان إيتاءِ الكتابِ للإيذان بأنهم علِموه من جهة كتابِهم حيث وجدوه حسبما نُعت فيه وعاينوه موافِقًا له في الأصول وما لا يُختلف من الفروع ومُخبِرًا عن أمور لا طريقَ إلى معرفتها سوى الوحي. والمرادُ بالموصول إما علماءُ الفريقين وهو الظاهرُ فالإيتاءُ هو التفهيمُ بالفعل وإما الكلُّ وهم داخلون فيه دخولًا أوليًا فهو أعمُّ مما ذكر من التفهيم بالقوة، ولا ريب في أن الكل متمكنون من ذلك، وقيل: المرادُ مؤمنوا أهلِ الكتاب، وقرئ {مُنْزلٌ} من الإنزال، والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه الصلاة والسلام، والباءُ في قوله تعالى: {بالحق} متعلقٌ بمحذوف وقع حالًا من الضمير المستكنّ في {مُنزّلٌ} أي ملتبسًا بالحق.
{فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي في أنهم يعلمون ذلك لما لا تشاهِد منهم آثارَ العلم وأحكام المعرفة، فالفاء لترتيب النهي على الإخبار بعلم أهل الكتاب بشأن القرآنِ أو في أنه منزلٌ من ربك بالحق فيكونُ من باب التهييجِ والإلهابِ كقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} وقيل: الخطابُ في الحقيقة للأمة وإن كان له صلى الله عليه وسلم صورةً، وقيل: الخطابُ لكل أحدٍ على معنى أن الأدلةَ قد تعاضدت وتظاهرت فلا ينبغي لأحد أن يمتريَ فيه، والفاءُ على هذه الوجوهِ لترتيب النهي على نفس علمِهم بحال القرآن. اهـ.

.قال الألوسي:

{والذين ءاتيناهم الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بالحق} كلام مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مسوق من جهته تعالى لتحقيق حقية الكتاب الذي نيط بإنزاله أمر الحكمية وتقرير كونه منزلًا من عنده عز وجل، وليس المراد منه الاستدلال على ثبوت نبوته صلى الله عليه وسلم كما يلوح من كلام الإمام، والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل، والتعبير عنهما بذلك للإيماء إلى ما بينهما وبين القرآن من المجانسة المقتضية للاشتراك في الحقية والنزول من عنده تعالى مع ما فيه من الايجاز، والمراد بالموصول إما علماء اليهود والنصارى وإما الفريقان مطلقًا والعلماء داخلون دخولًا أوليًا، والإيتاء على الأول التفهيم بالفعل وعلى الثاني أعم منه ومن التفهيم بالقوة، وإيراد الطائفتين بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بأنهم علموا ما علموا من جهة كتابهم، وقيل: المراد بالموصول مؤمنو أهل الكتاب.
وعن عطاء أن المراد بالكتاب القرآن وبالموصول كبراء الصحابة وأهل بدر رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولا يخفى أنه أبعد من الثريا.
والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم مع الإيذان بأن نزوله من آثار الربوبية.
و{مِنْ} لابتداء الغاية مجازًا وهي متعلقة بمنزل، والباء للملابسة وهي متعلقة بمحذوف وقع حالًا من الضمير المستكن في {مُنَزَّلٌ} أي متلبسًا بالحق.
وقرأ غالب السبعة {مُنَزَّلٌ} بالتخفيف من الإنزال.
والفرق بين أنزل ونزل قد أشرنا إليه فيما مر وأن الأول دفعي والثاني تدريجي وأنه أكثري، والقراءة بهما تدل على قطع النظر عن الفرق، وليس إشارة إلى المعنيين باعتبار إنزاله إلى السماء الدنيا ثم إنزاله إلى الأرض لأن إنزاله دفعة إلى السماء على ما قيل لا يعلمه أهل الكتاب.
{فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي المترددين في أنهم يعلمون ذلك لما لا يشاهد منهم آثار العلم وأحكام المعرفة، فالفاء لترتيب النهي على الإخبار بعلم أهل الكتاب أو في أنه منزل من ربك بالحق فليس المراد حقيقة النهي له صلى الله عليه وسلم عن الإمتراء في ذلك بل تهييجه وتحريضه عليه الصلاة والسلام كقوله سبحانه: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] ويحتمل أن يكون الخطاب في الحقيقة للأمة على طريق التعريض وإن كان له عليه الصلاة والسلام صورة، وأن يكون لكل أحد ممن يتصور منه الامتراء بناء على ما تقرر أن أصل الخطاب أن يكون مع معين وقد يترك لغيره كما في قوله سبحانه: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون} [السجدة: 12] والفاء على هذه الأوجه لترتيب النهي على نفس علمهم بحال القرآن. اهـ.