فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}.
الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يعطينا صفات أخرى من صفات المؤمنين، فبعد أن ابلغنا أن من صفات المؤمنين الإيمان بالغيب واقامة الصلاة والانفاق مما رزقهم الله، يأتي بعد ذلك إلى صفات أخرى.
فهؤلاء المؤمنون هم: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي بالقرآن الكريم الذي أنزله الله سبحانه وتعالى، و{بما أنزل من قبلك} وهذه لم تأت في وصف المؤمنين إلا في القرآن الكريم، ذلك أن الاسلام عندما جاء كان عليه أن يواجه صنفين من الناس، الصنف الأول هم الكفار وهم لا يؤمنون بالله ولا برسول مبلغ عن الله، وكان هناك صنف آخر من الناس، هم أهل الكتاب يؤمنون بالله ويؤمنون برسل عن الله وكتب عن الله.
والاسلام واجه الصنفين، لأن أهل الكتاب ربما ظنوا أنهم على صلة بالله، يؤمنون به ويتلقون منه كتبا ويتبعون رسلا وهذا في نظرهم كاف، نقول لا، فالإسلام جاء ليؤمن به الكافر، ويؤمن به أهل الكتاب، ويكون الدين كله لله.
والله سبحانه وتعالى في كتبه التي أنزلها أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن اسمه وأوصافه، وطلب من أهل الكتاب الذين سيدركون رسالته صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به، ولقد أعطى الله جل جلاله أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب حتى إنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، بل كانت معرفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزمنه وأوصافه معرفة يقينية، وكان يهود المدينة يقولون للكفار، أَطَلَّ زمن رسول سنؤمن به ونقتلكم قتل عاد وإرم، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أول من حاربه وأنكر نبوته، فأوصاف رسول الله عليه الصلاة والسلام موجودة في التوراة والانجيل، ولذلك كان أهل الكتاب ينذرون الكفار بأنهم سيؤمنون بالرسول الجديد ويسودون به العرب، واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
أي أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن مفاجئة لأهل الكتاب بل كانوا ينتظرونها، كانوا يؤكدون أنهم سيؤمنون بها كما تأمرهم بها كتبهم، ولكنهم رفضوا الإيمان وأنكروا الرسالة عندما جاء زمنها.
ثم يقول سبحانه وتعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ونلاحظ هنا أن كلمة {وبالآخرة} قد جاءت، لأنك إذا تصفحت التوراة التي هي كتاب اليهود، أو قرأت التلمود لا تجد شيئا عن اليوم الآخر.
فقد أخذوا الأمر المادي فقط من كتبهم، والله تبارك وتعالى أكد الإيمان باليوم الآخر حتى عرف الذين يقولون آمنا بالله وكتبه ورسله ولا يلتفتون إلى اليوم الآخر أنهم ليسوا بمؤمنين، فلو لم يجئ هذا الوصف في القرآن الكريم ربما قالوا إن الاسلام موافق لما عندنا، ولكن الله جل جلاله يريد تصوير الإيمان تصويرا كماليا بأن الإيمان بالله قمة ابتداء والإيمان باليوم الآخر قمة انتهاء، فمن لم يؤمن بالآخرة وأنه سيلقى الله وسيحاسبه، وأن هناك جنة ينعم فيها المؤمن، ونارًا يعذب فيها الكافر يكون ايمانه ناقصا، ويكون قد اقترب من الكافر الذي جعل الدنيا غايته وهدفه.
فالمؤمن يتبع منهج الله في الدنيا ليستحق نعيم الله في الآخرة، فلو أن الآخرة لم تكن موجودة، لكان الكافر أكثر حظا من المؤمن في الحياة، لأنه أخذ من الدنيا ما يشتهيه ولم يقيد نفسه بمنهج، بل أطلق لشهواته العنان، بينما المؤمن قَيَّدَ حركته في الحياة طبقا لمنهج الله وتعب في سبيل ذلك. ثم يموت الاثنان وليس بعد ذلك شيء، فيكون الكافر هو الفائز بنعم الدنيا وشهواتها. والمؤمن لا يأخذ شيئا. والأمر هنا لا يستقيم بالنسبة لقضية الإيمان، ولذلك كان الإيمان بالله قمة الإيمان بداية والإيمان بالآخرة قمة الإيمان نهاية. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال في إشارات الإعجاز:
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ اِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}:
اعلم! أن القرآن أرسل النظم- أي لم يعيّن بوضع أمارةٍ وجهًا من وجوه التراكيب في كثير من أمثال هذه الآية، لسرٍ لطيف، هو منشأ الإيجاز الذي هو منشأ الإعجاز، وهو:
أن البلاغة هي مطابقة مقتضى الحال. والحال: أن المخاطبين بالقرآن على طبقات متفاوتة، وفي أعصار مختلفة. فلمراعاة هذه الطبقات، ولمجاورة هذه الأعصار، ليستفيد مخاطب كل نوعٍ ما قُدِّرَ له من حصته، حذف القرآنُ في كثيرٍ للتعميم والتوزيع، وأطلق في كثيرٍ للتشميل والتقسيم، وأرسل النظم في كثير لتكثير الوجوه، وتضمين الاحتمالات المستحسنة في نظر البلاغة والمقبولة عند العلم العربي ليفيض على كلِ ذهنٍ بمقدار ذوقه. فتأمل!
ثم إن وجه نظم هذه الآية بسابقتها: التخصيص بعد التعميم. ليعلن على رؤوس الأشهاد شرفَ مَنْ آمن من أهل الكتاب، وليردّ يد استغناء أهله في أفواههم، وليأخذ يد أمثال عبد الله بن سلام، ويشوِّق غيره لأن يأتم به، وأيضا التنصيص على قسْمَي المتقين للتصريح بشمول هداية القرآن لكافة الأمم، والتلويح لعموم رسالة محمد عليه السلام لقاطبة الملل، وأيضا التفصيل بعد الإجمال لشرح أركان الإيمان المندمجة في صَدَف يؤمنون بالغيب إذ دل على الكتب والقيامة صراحة، وعلى الرسل والملائكة ضمنا.
ثم إن القرآن لم يوجز هنا بنحو والمؤمنين بالقرآن لترصيع هذا المعنى بلطائف وتزيين ذيوله بنكت، فآثر {والذين يؤمنون بما أُنزل إليك}.
إذ في {الذين} رمز إلى أن وصف الإيمان هو مناط الحكم وأن الذات مع سائر الصفات تابعة له ومغمورة تحته.
وفي {يؤمنون} بدل المؤمنين الدال على الثبوت في زمان، تلويح إلى تجدد الإيمان بتواتر النزول وتكرر الظهور مستمرا.
وفي ما الإبهام، إيماء إلى أن الإيمان مجملا قد يكفي، وإلى تشميل الإيمان للوحي الظاهر والباطن وهو الحديث.
وفي {أنزل} باعتبار مادته إشارة إلى أن الإيمان بالقرآن هو الإيمان بنزوله من عند الله. كما أن الإيمان بالله هو الإيمان بوجوده، وباليوم الآخر هو الإيمان بمجيئه. وبالنظر إلى صيغته الماضوية- مع أنه لم يتم النزول إذ ذاك- إشارة إلى تحققه المنزلة بمنزلة الواقع مع أن مضارعية {يؤمنون} تتلافى ما في ماضويته. بل لأجل هذا التنزيل ترى في أساليب التنزيل كثيرا ما يبتلع الزمان الماضي المستقبل ويتزيا المضارع بزيّ الماضي، إذ فيه بلاغة لطيفة. لأن من سمع الماضي فيما لم يمض بالنسبة إليه اهتز ذهنه، وتيقظ أنه ليس وحده، وتذكر أن خلفه غيره من الصفوف بمسافات. حتى كأن الأعصار مدارج والأجيال صفوف قاعدون خلفها. وتنبّه أن الخطاب والنداء الموجه إليه بدرجة من الشدة والعلوّ يسمعه كل الأجيال.
وهو خطبة إلهية انصت لها كلُّ الصفوف في كل الأعصار. فالماضي حقيقة في الكثير- في أكثر الأزمان- ومجازٌ في القليل- في أقلها- ومراعاة الأكثر أوفى لحق البلاغة.
وفي {إليك} بدل عليك رمز إلى أن الرسالة وظيفة كُلِّف بها النبي عليه السلام وتحمَّلها بجزئه الاختياري، وإيماء إلى علّوه بخدمة جبرائيل بالتقديم إليه؛ إذ في على شمّ اضطرار وعلوّ واسطة النزول، وفي خطاب {إليك} بدل إلى نحو محمد تلويح إلى أن محمدًا عليه السلام ما هو إلاّ مخاطب والكلام كلام الله، وأيضا معنى الخطاب تأكيد وتصوير لمعنى النزول الذي هو الوحي الذي هو القرآن الذي هو خطاب الله معه الذي هو الخاصة النافذة في الكل. فكشف هذا الجزء الحجاب عن حصته من تلك الخاصة. فظهر أن هذا الكلام بالنظر إلى اشتماله على هذه اللطائف المذكورة في نهاية الإيجاز.
{وما أنزل من قبْلِك}.
اعلم! أن أمثال هذه التوصيفات تتضمن تشويقًا، يتضمن أحكاما إنشائية. كآمنوا كذا وكذا ولا تفرقوا.
ثم إن في هذا النظم والربط أربع لطائف:
إحداها:
عطف المدلول على الدليل. اي: يا أيها الناس إذا آمنتم بالقرآن فآمنوا بالكتب السابقة أيضا، إذ القرآن مصدِّق لها وشاهد عليها بدليل {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}.
والثانية:
عطف الدليل على المدلول، أي: يا أهل الكتاب إذا آمنتم بالأنبياء السابقين والكتب السالفة لزم عليكم أن تؤمنوا بالقرآن وبمحمد عليه السلام، لأنهم قد بشّروا به، ولأن مدار صدقهم، ونزولها ومناط نبوتهم يوجد بحقيقته وبروحه في القرآن بوجه أكمل وفي محمد عليه السلام بالوجه الأظهر. فيكون القرآن كلام الله بالقياس الأوْلَوِي، ومحمَّد عليه الصلاة والسلام رسوله بالطريق الأولى.
والثالثة:
أن فيه إشارة إلى أن مآل القرآن- أعني الاسلامية الناشئة في زمان السعادة- كشجرة أصلها ثابت في أعماق الماضي، منتشرة العروق متشربة عن منابع حياتها وقوتها، وفرعها في سماء الاستقبال ناشرة أغصانها مثمرة. أي أخذت الإسلامية بقرني الماضي والاستقبال.
والرابعة:
أن فيه إشارةً إلى تشويق أهل الكتاب على الإيمان وتأنيسهم، والتسهيل عليهم. كأنه يقول: لايشقنّ عليكم الدخول في هذا السلك، إذ لا تخرجون عن قشركم بالمرة بل إنما تكملون معتقداتكم، وتبنون على ما هو مؤسس لديكم إذ القرآن معدِّل ومكمِّل في الأصول والعقائد، وجامع لجميع محاسن الكتب السابقة وأصول الشرائع السالفة. إلا أنه مؤسِّس في التفرعات التي تتحول بتأثير تغير الزمان والمكان؛ فكما تتحول الأدوية والألبسة في الفصول الأربعة، وطرز التربية والتعليم في طبقات عمر الشخص؛ كذلك تقتضي الحكمة والمصلحة تبدل الأحكام الفرعية في مراتب عمر نوع البشر. فكم من حكم فرعي كان مصلحة في زمان، ودواء في وقت طفولية النوع، لايبقى مصلحة في آخر، ودواء عند شبابية النوع. ولهذا السر نَسخَ القرآن بعض الفروع. أي بيّن انقضاء أوقات تلك الفروع ودخول وقت آخر.
وفي {من قبلك} لطائف:
اعلم! أنه ما من كلمة في التنزيل يأبى عنها مكانها، أو لم يرض بها، أو كان غيرُها أولى به. بل ما من كلمة من التنزيل إلا وهي كدرٍّ مرصَّعٍ مرصوص متماسك بروابط المناسبات؛ فإن شئت مثالا تأمل في: {من قبلك} كيف ترى اللطائف المتطايرة من جوانب هذه الآية توضّعت على هذه الكلمة الفذة.
فإن {من قبلك} تشربتْ وتلونت- فتُرشِّح وتُرمز بخمس لطائف- المناسبات المنعكسة من المقاصد الخمسة المندمجة في مسألة النبوة المسوقة لها هذه الآية.
اما المقاصد المندمجة فهي: أن محمدًا عليه السلام نبي، وأنه أكمل الأنبياء، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه مرسل لكافة الأقوام، وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، وجامعة لمحاسنها.
أما وجه انعكاس المقصد الأول في تلك الكلمة، فهو: أن {من قبلك} إنما يقال إذا اتحد المسلك وكان الطريق واحدًا. فكأن هذه الكلمة تترشح: بأن الحجج على نبوة مَن قبله وصدق كتبهم، حجةٌ بمجموعها بتنقيح المناط وتحقيق المناط بالقياس الأولى على نبوة محمد عليه السلام ونزول كتابه. فكأن جميع معجزاتهم معجزة فذة على صدق محمد عليه السلام.
أن {من قبلك} إنما يقال إذا اتحد المسلك وكان الطريق واحدًا. فكأن هذه الكلمة تترشح: بأن الحجج على نبوة مَن قبله وصدق كتبهم، حجةٌ بمجموعها بتنقيح المناط.
وتحقيق المناط بالقياس الأولى على نبوة محمد عليه السلام ونزول كتابه. فكأن جميع معجزاتهم معجزة فذة على صدق محمد عليه السلام.
وأما وجه انعكاس المقصد الثاني، وهو الأكملية فيها، فهو:
أن {من قبلك} بناء على ملاحظة عادة أن السلطان يخرج في أخريات الناس.. وعلى قاعدة التكمل في نوع البشر المقتضية لأكملية المربي الثاني عن المربي الأول، وعلى أغلبية مهارة وزيادة الخلف على السلف، تلوح بأن محمدًا عليه السلام سلطان الأنبياء، أكمل من كلهم. كما أن القرآن أجمع وأجمل من كتبهم.
وأما وجه تشربها من المقصد الثالث وهو الخاتمية فهو:
أن {من قبلك} بسر قاعدة إن الواحد إذا تكثَّر تسلْسَلَ لا يسكن، وأن الكثير إذا اتحدّ استقرّ لا ينقطع وبإشمام المفهوم المخالف تلمح بأنه عليه السلام خاتم الأنبياء.
وأما وجه انصباغها من المقصد الرابع وهو عموم الدعوة فهو:
أن {من قبلك} المفيدة أنك خَلَفُهم وكلٌ منهم سلفك بسر قاعدة أن الخلف يأخذ تمام وظيفة السلف ويقوم مقامه تشير بأنه إذا كان كل منهم سلفك فانت نائب الكل، ورسول جميع الأمم. نعم لايكون إلاّ كذلك!.. إذ الفطرة حاكمة له، والحكمة قاضية به؛ لأنه كانت أمم العالم الإنساني قبل زمان السعادة في غاية التباعد والاختلاف مادة ومعنى، واستعدادًا وتربيةً؛ ما كفت لهم التربية الواحدة وما شملت الدعوة المفردة. ثم لما انتبه العالم الإنساني بزمان السعادة بعده، وتمايل إلى الاتحاد بمداولة الأفكار، ومبادلة الطبائع، واختلاط الأقوام، وتحري البعض عن حال البعض حتى تمخض الزمان بكثرة طرق المخابرة والمناقلة؛ فصارت الكرة كمملكة وهي كولاية وهي كبلدة، واتصل الرحم بين أهل الدنيا؛ كَفَت الدعوة الواحدة والنبوة الفريدة للكافة.
وأما وجه إشمامها بالمقصد الخامس فهو:
أن {من قبلك} المومية من من إلى إلى، ومن إلى إلى الإغناء. أي انتهت الرسالة بقدومك إذ اَغْنَتْ شريعتُك ترمز بأن شريعته عليه السلام ناسخة بالانتهاء وجامعة بالإغناء.
واعلم! أن الأمارة لنظر البلاغة على تشرب هذه الكلمة لهؤلاء اللطائف هي:
أن هذه المقاصد الخمسة كالأنهار الجارية تحت هذه الآيات، حتى يفور هذا بكماله في آية، وينبع ذاك بتمامه في أُخرى، ويتجلى ذلك بشَرَاشيره في آخرة. فأدنى ترشِّحٍ على السطح يومي بتماس عروق الكلمة بها. وأيضا تتسنبل هذه المعاني في آيات مسوقة لها.
{وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.
اعلم! أن مآل هذه الآية هوالمقصد الرابع من المقاصد الأربعة المشهورة وهو مسألة الحشر. ثم إنا قد استفدنا من نظم القرآن عشرة براهين عليها، ذكرناها في كتاب آخر فناسب تلخيصها هنا. وهي:
أن الحشر حق؛ لأن في الكائنات نظامًا أكمل قصديًا، وأن في الخلقة حكمة تامة، وأن لا عبثية في العالم، وأن لا إسراف في الفطرة، والمزكي لهؤلاء الشواهد الاستقراء التام بجميع الفنون التي كل منها شاهدُ صدق على نظام نوع موضوعه، وأيضا إن في كثير من الأنواع مثل اليوم والسنة وغيرهما قيامة مكررة نوعية، وأيضا جوهر استعداد البشر يرمز إلى الحشر، وأيضا عدم تناهي آمال البشر وميوله يشير إليه، وأيضا رحمة الصانع الحكيم تلوح به، وأيضا لسان الرسول الصادق عليه السلام يصرّح به، وأيضا بيان القرآن المعجز في أمثال {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْوَارًا} {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} يشهد له. تلك عشرة كاملة، مفاتيح للسعادة الأبدية وأبواب لتلك الجنة.
أما بيان البرهان الأول: فهو أنه لو لم تنجر الكائنات إلى السعادة الأبدية لصار ذلك النظام الذي اتقن فيه صانعُه اتقانًا حَيَّرَ فيه العقول صورةً ضعيفة خادعة، وجميع المعنويات والروابط والنسب في النظام هباء منثورًا. فليس نظام ذلك النظام إلا اتصاله بالسعادة، أي أن النكت والمعنويات في ذلك النظام إنما تتسنبل في عالم الآخرة. وإلاّ لانطفأ جميع المعنويات، وتقطّع مجموع الروابط، وتمزّق كل النسب، ويتفتت هذا النظام؛ مع أن القوة المندمجة في النظام تنادي باعلى صوتها: أن ليس من شأنها الانقضاض والانحلال.
وأما البرهان الثاني: فهو أن تمثال العناية الأزلية الذي هو الحكمة التامة، التي هي رعاية المصالح والحِكَم في كل نوع، بل في كل جزئي- بشهادة كل الفنون- يبشر بقدوم السعادة الأبدية. وإلاّ لَزِم إنكار هذه الحكم والفوائد التي أجبرتنا البداهةُ على الإقرار بها؛ إذ حينئذ تكون الفائدة لا فائدة، والحكمة غير حكمة، والمصلحة عدم مصلحة. وإن هذا إلا سفسطة.
وأما البرهان الثالث المفسر للثاني: فهو أن الفن يشهد ايضا أن الصانع اختار في كل شيء الطريق الاقصر، والجهة الاقرب، والصورة الأخف والأحسن. فيدل على أن لاعبثية. فيدل على أنه جدّي حقيقي. وماهو إلا بمجئ السعادة الأبدية. وإلاّ لتنزل هذا الوجود منزلة العدم الصرف. وتحول كل شيء عبثًا محضًا، سبحانك ماخلَقْتَ هذا عَبَثًا.
أما البرهان الرابع الموضح للثالث: فهو أن لا إسراف في الفطرة بشهادة الفنون. فإن تقاصر ذِهْنُك عن ادراك حِكَم الإنسان الأكبر وهو العالم فأمعن النظر في العالم الأصغر وهو الإنسان. فإن فن منافع الأعضاء قد شرح واثبت: أن في جسد الإنسان تقريبا ستمائة عظم كلّ لمنفعة، وستة آلاف عصب هي مجارٍ للدم كلّ لفائدة، ومائة واربعة وعشرين ألف مسامة وكوّة للحجيرات التي تعمل في كل منها خمس قوى من الجاذبة والدافعة والممسكة والمصوّرة والمولّدة كل منها لمصلحة. وإذا كان العالَمُ الاصغر كذا فكيف يكون الإنسان الاكبر انقصَ منه؟ وإذا كان الجسد الذي لا اهمية له بالنسبة إلى لبّه بتلك الدرجة من عدم الاسراف فكيف يُتصور اهمال جوهر الروح؟ واسرافٌ كل آثاره من المعنويات والآمال والافكار؟ إذ لولا السعادة الأبدية لتقلصت كل المعنويات وصارت اسرافًا. فبالله عليك أيمكن في العقل أن يكون لك جوهرة قيمتها الدنيا، فتهتم بصدَفها وغلافها حتى لاتخلي أن يصل الغبار إليه، ثم تأخذ الجوهرة فتكسّرها شذرًا مذرًا وتمحو آثارها؟ كلا ثم كلا!
ما تهتم بالغلاف إلاّ لأجل ما فيه، وأيضا إذا افهمتك قوةُ البنية في شخص وصحة أعضائه واستعداده، استمرار بقائه وتكمله؛ أفلا تفهّمك الحقيقةُ الثابتة الجارية في روح الكائنات، والقوةُ الكاملة المومية بالاستمرار في الانتظام، والكمال المنجر إلى التكمل في النظام: مجئ السعادة الأبدية من باب الحشر الجسماني؟ إذ هي المخلصة للانتظام عن الاختلال، والواسطة للتكمل وانكشاف تلك القوة المؤبدة.
وأما البرهان الخامس والحدس المرمز إلى القصد: فهو أن وجود نوع قيامات مكررة نوعية في كثير من الانواع يشير إلى القيامة العظمى وإن شئت تمثُلَ الرمزِ في مثال، فانظر في ساعتك الأسبوعية، فكما أن فيها دواليب مختلفة دوارة متحركة محركة للابر والاَمْيال العادّة واحدة منها للثواني. وهي مقدمة ومخبرة لحركة ابرة الدقائق. وهي مُعدّة ومُعلنة لحركة ميل الساعات. وهي محصلة ومؤذنة لحركة الابرة التي تعد أيام الاسبوع. فاتمام دورة السابقة يشير بأن اختها اللاحقة تتم دورها؛ كذلك أن لله تعالى ساعةً كبرى دواليبُها الافلاكُ تعدّ أميالها الايام والسنين وعمر البشر وبقاء الدنيا، نظير الثواني والدقائق والساعات والايام في ساعتك. فمجئ الصبح بعد كل ليلة، والربيع بعد كل شتاء- بناء على حركة تلك الساعة- يشير إشارة خفية ويرمز رمزا دقيقا بتولد صبح ربيع الحشر من تلك الساعة الكبرى.
إن قلت: القيامة النوعية لاتحشر الاشخاص باعيانهم فكيف ترمز بالقيامة الكبرى لعود الأشخاص هناك بأعيانهم؟
قيل لك: إن شخص الإنسان كنوع غيره، إذ نور الفكر أعطى لآمال البشر وروحه وُسْعة وانبساطًا بدرجة وسِعَت الازمنة الثلاثة، لو ابتلع الماضي والمستقبل مع الحال لم تمتلء آماله؛ لأن نور الفكر صيّر ماهيته علوية، وقيمته عمومية، ونظره كليًا، وكماله غير محصور، ولذته دائمية، وألمه مستمرًا. اما فرد النوع الآخر فماهيته جزئية، وقيمته شخصية، ونظره محدود، وكماله محصور، ولذته آنية، وألمه دفعيّ، فوجود نوع قيامة في الانواع، كيف لايشير بالقيامة الشخصية العمومية للانسان؟
وأما البرهان السادس الملوّح: فهو عدم تناهي استعدادات البشر. نعم أن تصورات البشر وافكاره التي لاتتناهى، المتولدة من آماله الغير المتناهية، الحاصلة من ميوله الغير المضبوطة، الناشئة من قابلياته الغير المحدودة، المستترة في استعداداته الغير المحصورة، المزروعة في جوهر روحه الذي كرمه الله تعالى؛ كل منها يشير في ماوراء الحشر الجسماني باصبع الشهادة إلى السعادة الأبدية وتمد نظرها اليه. فتأمل!
وأما البرهان السابع المبشر: فهو أن رحمة الرحمن الرحيم تبشر بقدوم اعظم الرحمة اعني السعادة الأبدية؛ إذ بها تصير الرحمة رحمة، والنعمة نعمة. وبها تخلص الكائنات من النياحات المرتفعة من المأتم العموميّ المتولد من الفراق الابدي المصيّر للنعم نقمًا. إذ لو لم يجئ روحُ النِعَم أعني السعادة الأبدية، لتحول جميع النعم نقما؛ وللزم المكابرة في انكار الرحمة الثابتة بشهادة عموم الكائنات بالبداهة وبالضرورة.
فيا أيها الحبيب الشفيق العاشق! انظر إلى ألطف آثار رحمة الله أعني المحبة والشفقة والعشق؛ ثم راجع وجدانك لكن بعد فرض تعقب الفراق الابدي والهجران اللايزالي عليها، كيف ترى الوجدان يستغيث، والخيال يصرخ، والروح يضجر من انقلاب تلك المحبة والشفقة- اللتين هما أحسن وألطف انواع الرحمة والنعمة- اعظم مصيبة عليك واشد بلاء فيك؟ أفيمكن في العقل أن تساعد تلك الرحمة الضرورية لهجوم الفراق الابدي والهجران اللايزاليّ على المحبة والشفقة؟ لا! بل من شأن تلك الرحمة أن تسلِّط الفراقَ الابدي على الهجران اللايزليّ، والهجران اللايزاليّ على الفراق الابدي والعدم عليهما.
وأما البرهان الثامن المصرّح: فهو لسان محمد عليه السلام الصادق المصدوق، ولقد فتح كلامه أبواب السعادة الأبدية، على أن إجماع الأنبياء من آدمهم إلى خاتمهم عليهم السلام على هذه الحقيقة حجة حقيقية قطعية على هذا المدعى. ولأمر مّا اتفقوا.
وأما البرهان التاسع: فهو اخبار القرآن المعجز؛ إذ التنزيل المصدق اعجازه بسبعة اوجه في ثلاثة عشر عصرا دعواه عين برهانها. فاخباره كشاف للحشر الجسماني ومفتاح له.
وأما البرهان العاشر، المشتمل على ألوف من البراهين التي تضمنها كثير من الآيات مثل {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْوارًا} المشير إلى قياس تمثيلي. و{وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبيد} المشير إلى دليل عدليّ وغيرهما. فلقد فتح القرآن في أكثر الآيات كُوّاتٍ ناظرة إلى الحشر.
أما القياس التمثيلي المشار إليه بالآية الأولى:
فانظر في وجود الإنسان فإنه ينتقل من طور إلى طور، من النطفة إلى العلقة، ومنها إلى المضغة، ومنها إلى العظم واللحم، ومنه إلى الخلق الجديد. ولكلٍّ من تلك الاطوار قوانين مخصوصة، ونظامات معيّنة، وحركات مطّردة يشفّ كلٌّ منها عن قصدٍ وارادةٍ واختيارٍ، ثم تأمل في بقائه فإن هذا الوجود يجدد لباسه في كل سنة، ومن شأنهالتحلل والتركب. أي انقضاض الحجيرات وتعميرها ببدل ما يتحلل من المادة اللطيفة الموزعة على نسبة مناسبة الاعضاء التي يحضرها صانعُها بقانون مخصوص. ثم تأمل في أطوار تلك المادة اللطيفة الحاملة لأرزاق الاجزاء. كيف تنتشر في اقطار البدن انتشارًا تحير فيه العقول. وكيف تنقسم بقانون التقسيم المعين على مقدار حاجات الاعضاء؛ بعد أن تلخصت تلك المادة بنظام ثابت، ودستور معين، وحركة عجيبة من اربع مصفاتات، وانطبخت في اربعة مطابخ بعد اربعة انقلابات عجيبة؛ المأخوذة تلك المادة من القوت المحصل من المواليد المنتشرة في عالم العناصر بدستور منتظم؛ ونظام مخصوص، وقانون معين. وكل من القوانين والنظامات في تلك الاطوار يشف عن سائقٍ وقصدٍ وحكمةٍ. كيف لا، ولو تأملت من قافلة تلك المادة اللطيفة في ذرة مثلا، مستترة في عنصر الهواء تصير بالآخرة جزءًا من سواد عين الحبيب؛ لعلمت أن تلك الذرة وهي في الهواء معيّنة كأنها موظفة مأمورة بالذهاب إلى مكانها الذي عيُنّ لها؛ إذ لو نظرت إليها بنظر فنيّ تيقنت أن ليست حركتها اتفاقية عمياء بتصادف أعمى، بل تلك الذرة ما دخلت في مرتبة إلا تبعت نظاماتها المخصوصة، وما تدرجت إلى طور إلا عملت بقوانينه المعينة، وما سافرت إلى طبقة إلا وهي تساق بحركة عجيبة منتظمة. فتمر على تلك الاطوار حتى تصل إلى موضعها. مع إنها لاتنحرف قطعا مقدار ذرة عن هدف مقصدها.
والحاصل: أن من تأمل في النشأة الأولى لم يبق له تردد في النشأة الاخرى، ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «عجبًا لمن يرى النشأة الأولى كيف ينكر النشأة الاخرى».
نعم! كما أن جمعَ نفراتِ عسكرِ فرقةٍ أُذِنَ لهم بالاستراحة والانتشار إذا دعوا بالآلة المعروفة- فيتسللون عن كل طرف ومكمن، فيجتمعون متحدين تحت لوائهم- يكون أسهل وأسهل من جلبهم أول الأمر إلى الانتظام تحت السلاح؛ كذلك أن جمعَ الذرات التي حصلت بينها المؤانسة والمناسبة بالامتزاج في وجودٍ واحدٍ إذا نوديتْ بصُور اسرافيل فينساب الكل من كل فج عميق ملبِّية لأمر خالقها يكون أسهل وأمكن في العقل من انشائها وتركيبها أول المرة.
أما بالنسبة إلى القدرة فأعظم الاشياء كأصغرها. ثم الظاهر أن المعاد يعاد باجزائه الاصلية والفضولية معا. كما يشير إليه كبر أجسام أهل الحشر وكراهة قصّ الاظفار والاشعار ونحوها للجُنُب، وسنّية دفنها. والتحقيق: أن عجب الذَنَب يكفي أن يكون بذرًا ومادةً لتشكله.
وأما الدليل الذي لوح به {وما ربك بظلام للعبيد}:
فاعلم! أنّا كثيرًا ما نرى الظالم الفاجر الغدّار في غاية التنعم، ويمرّ عمُره في غاية الطيب والراحة. ثم نرى المظلوم الفقير المتدين الحسن الخلق ينقضي عمره في غاية الزحمة والذلة والمظلومية، ثم يجئ الموتُ فيساوي بينهما. وهذه المساواة بلا نهاية تُري ظلمًا. والعدالة والحكمة الإلهيتان اللتان شهدت عليهما الكائناتُ منزّهتان عن الظلم؛ فلابد من مجمعٍ آخر ليرى الأول جزاءه والثاني ثوابه فيتجلى العدالة الإلهية. وقس على هاتين الآيتين نظائرهما. هذا.
أما وجه النظم في أجزاء {وبالآخرة هم يوقنون}.
فاعلم! أن مناط النكت: الواو، ثم تقديم {بالآخرة} ثم الألف واللام فيها، ثم التعبير بهذا العنوان، ثم ذكر {هم} ثم ذكر {يوقنون} بدل {يؤمنون}.
وأما الواو ففيها التخصيص بعد التعميم، للتنصيص على هذا الركن من الإيمان، إذ هو أحد القطبين اللذين تدور عليهما الكتب السماوية.
وأما تقديم {بالآخرة} ففيه حصر، وفي الحصر تعريض بأن أهل الكتاب بناء على قولهم: {لن تمسَّنا النارُ إلاّ أيّامًا مَعْدُودةً} ونفيهم اللذائذ الجسمانية، آخرتهم آخرة مجازية اسمية، ماهي بحقيقة الآخرة.
وأما الألف واللام فللعهد. أي إشارة إلى المعهود بالدوران على ألسنة كل الكتب السماوية، وفي العهد لمحٌ إلى أنها حق وإشارة إلى الحقيقة المعهودة الحاضرة بين اهداب العقول بسبب الدلائل الفطرية المذكورة، وفي العهد حينئذ رمز إلى أنها حقيقة، وأما التعبير بعنوان الآخرة الناعتة للنشأة فلتوجيه الذهن إلى النشأة الأولى، لينتقل إلى امكان النشأة الاخرى.
وأما {هم} ففيه حصر وفي الحصر تعريض بأن إيمان من لم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب ليس بيقين، بل إنما يظنونه يقينا.
وأما ذكر {يوقنون} بدل يؤمنون مع أن الإيمان هو التصديق مع اليقين، فليضع الاصبع على مناط الغرض قصدًا لإطارة الشكوك؛ إذ القيامة محشر الريوب، وأيضا بالتنصيص ينسد طرق التعلل بإنا مؤمنون فليؤمن من لم يؤمن. اهـ.